مأزق الحوار الاجتماعي بالمغرب
لم يولد الحوار الاجتماعي في التجربة المغربية ولادته الطبيعية ولم يترعرع في مجال علاقات الشغل الجماعية، سواء عندما تكون الدولة هي المُشغل أو أصحاب الأعمال، وإنما شقّت له الدولة سُبلا على هامش حلبة صراعها وترويضها للقوات الشعبية والتي تمثلها في مجال الشغل النقابات المركزية التاريخية.
آراء أخرى
الحوار الاجتماعي كاصطلاح سياسي يظل جديدا نسبيا فهو لم يجد طريقه إلى الخطاب الرسمي إلا في سياق الجفاف !، نعم هكذا ربط الملك الراحل بين ظاهرة طبيعية وأخرى اجتماعية لكونه أعرفُ الناس بقانون السببية بينهما، حيث قال الحسن الثاني، في خطاب 16 ماي ! 1995 : «إني أعتبر أن سَنة الكارثة الوطنية هذه الناتجة عن الجفاف ستكون عابرة إن شاء الله، أما الحوار الاجتماعي فهو عنصر أساسي في تفادي الجفاف السياسي والاجتماعي والصناعي والفلاحي … وهذا الحوار لا ينبغي أن يكون مرتبطا بهذه الواقعة أو تلك بل يجب أن يكون ملازما لنا حتى لو اقتضى الحال أن يلتقي الناس ويقولون ليس لنا ما نقوله فإلى اللقاء … سأتكفل شخصيا بأن يستمر هذا الحوار بين جميع المعنيين في عالم الشغل وعالم المشغلين ولكن أقول أن هناك عنصرا أساسيا كذلك ينقصنا في هذا الحوار وهو الكونفدرالية العامة للمقاولين المغاربة. أقول لهم إن كونفدراليتكم ليست كافية وغير ممثِلة وليست لها الصبغة التي تجعلها في مستوى الإلتزام. فأدعوهم لأن يكونوا في مدة شهر وفي أقرب وقت ممكن نقابة للمشغلين… ».
رجع التجربة
يبدو جليا أن الملك كان يحاول التحكم في كل مُدخلات الحوار الاجتماعي بدءا بالفاعلين ووضعياتهم القانونية، وبالسياق الاجتماعي وإفرازاته المحتملة، وأخيرا بمنهجية اللقاءات الحوارية وأولوياتها. ثم وَضع لذلك الحوار إطارا مؤسساتيا وهو المجلس الاستشاري لمتابعة الحوار الاجتماعي قبل منح الفرقاء الثلاثة، الحكومة والنقابات والباطرونا، قدرةً شبه مستقلة للتفاوض الثلاثي.
رسميا سيعرف الحوار الاجتماعي مخاضا طويلا بسبب زحمة الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتي لم تُمكّنه من إنجاب أكثر من أربع اتفاقيات وهي لسنوات 1996، 2000، 2003، 2011.
ثلاث منها فقط كانت لها قيمة مادية مقنعة للقوى العاملة التي لم تنل طعم الترقي الاجتماعي لأربعة عقود كاملة، منذ 1956 سنة الاستقلال إلى 1996 سنة أول اتفاق توّجته جولات من الحوار الاجتماعي بين ثلاث مركزيات نقابية ووزير الداخلية إدريس البصري الذي وقّع على اتفاق «فاتح غشت 96» باعتباره رئيس لجنة الحوار. وكذلك، هناك اتفاق 30 أبريل 2003 الذي أشرف عليه ووقّعه إدريس جطو. ثم اتفاق 26 أبريل 2011 الذي سبقته جولة طارئة بين مستشار الملك والنقابات، ليوقّع بعد ذلك عباس الفاسي على مخرجاتٍ كانت في عين حكومته من سابع المستحيلات قبل الحراك الشبابي.
ما يؤكد ذلك، أنه في نفس الولاية سبق وأن وقّع عباس الفاسي في 2008، من جانب واحد، على مخرجات حوار اجتماعي قاطعته النقابات كلها إلا نقابة حزب الاستقلال. وأعلنت حينها النقابات، ومنها نقابة العدالة والتنمية، عن خوض إضرابات وطنية بسبب تعنت الفاسي وهزالة عرضه، لكنها تجاهلت سريعا هذا السلوك بسبب إنذارات اجتماعية حملتها 2007. «السنة المعتبرة» وفقا لدراسة الأستاذ عبد الله ساعف[1].
لذلك لم ترقى جولة 2008 إلى مستوى الاتفاقات السابقة، شأنها شأن اتفاق 23 أبريل 2000 الذي وقّعه خالد عليوة باسم حكومة عبد الرحمن اليوسفي. هذا الاتفاق وإن كان دخل في حوليات الحوار الاجتماعي إلا أن قيمته المادية كانت قريبة من الصفر لأن مخرجاته لم تعالج المطالب المادية وإنما كانت تروم إلى تمتيع حكومة اليوسفي ببعض هوامش التغيير – أستعير هنا مفهوم للأستاذة أمينة المسعودي[2] – في المجال الاجتماعي والحقوقي وخاصة من أجل تسريع وثيرة إقرار مدونة الشغل[3] التي تحمل في ترقيمها القانوني سنة 1999 لكنها لم تُنهي مسيرتها التشريعية إلا بعد مجيء الوزير الأول، غير المتحزب، إدريس جطو.
هي إذن خلاصة التجربة المغربية في مجال الحوار الاجتماعي، فإلى جانب «الشروط التقنية»، الميمات الثلاث : المنهجية والمطالب والمفاوضات، هناك بالضرورة «سياق عام» اجتماعي واقتصادي وسياسي وكذلك إقليمي؛ ثم ثالثة الأثافي، لتستوي بورْمَةُ الحوار، أن يكون المشرف على العملية «وزير أول غير متحزب».
جولة ابن كيران
دخل رئيس الحكومة الحالي إلى الحوار الاجتماعي بشعار واضح، ألا وهو تنزيل المقابل الاجتماعي لاتفاق 26 أبريل 2011، على اعتبار أن حكومته هي من نفذت التحملات المالية للاتفاق الذي وقعه عباس الفاسي في نهاية ولايته[4]. لذلك لا يمل وزراء ابن كيران من التذكير بأن حكومتهم خصصت 13.2 مليار درهم سنويا للحوار الاجتماعي ( الزيادة في الأجور، الرفع من الحد الأدنى للمعاش، مطالب الحوارات القطاعية…). هكذا بدأت أول جولة في عهد ابن كيران التي انطلقت يوم 14 مارس 2012 بالمنهجية التالية (لجنة إصلاح النظام الأساسي، لجنة تنفيذ التزامات اتفاق 26 أبريل 2011، لجنة قانون النقابات، لجنة القانون التنظيمي للإضراب، لجنة إصلاح أنظمة التقاعد).
بِلُغة واضحة يقول ابن كيران[5] : لقد أنزلنا التزامات 26 أبريل 2011 التي «تحملناها» بالنظر للظرفية الخاصة المُحدثة لها، ونطالبكم بتنفيذ التزاماتكم، وعلى رأسها إصلاح أنظمة التقاعد وتنظيم سلاح الإضراب. وبنفس الوضوح تردّ النقابات أنها لا ترفض «إصلاح» التقاعد والحق في الإضراب، لكنها تشترط الاستجابة لملف مطلبي جديد يخفف من حدّة «إصلاح» المقاصة على بعض المواد وتحرير سوق المحروقات ورفع الأسعار، ومن حدّة الوقْع المؤلم بعد «إصلاح» التقاعد. وهذا ما يظهر من قيمة 600 درهم التي تطالب بها النقابات كزيادة في رواتب الموظفين والتي تكاد تعادل متوسط القيمة السلبية لإصلاح تقاعد الموظفين عن كل منخرط منهم في الصندوق المغربي للتقاعد[6].
إزاء ذلك وقع الحوار الاجتماعي في مأزق بنيوي، ليس لأن الحكومة ترفض الجلوس مع النقابات، بل لأن مخرجاته المادية[7] مرفوضة بالنسبة لصانعي القرار بذريعة أن أي زيادة جديدة في الراتب الأساسي ستكرس عجز الميزانية العمومية وعجز أنظمة التقاعد.
لكل ما سبق، يبدو أن الفرقاء الثلاثة يعاني كل واحد منهم حالةً من الانحباس في أخذ زمام المبادرة. الحكومة من جانبها تراهن على ملف التقاعد لتسوِّق لأكبر إنجازاتها رغم توحد النقابات ضدها، وعينها على حراك الشارع الفرنسي… والنقابات من جانبها تراهن على إفشال «الإصلاح» بإزاء تعبئة الشارع، رغم المخاطر المحتملة بسبب خمس سنواتٍ عجاف تهدد حصون ساكني الاستثناء المغربي… أما الباطرونا فهي تتابع بكل حسرة تبخر رهانها على وزير التشغيل الحالي الذي وعدهم بتنزيل القانون التنظيمي للإضراب وبتعديلات أكثر «مرونة» على مدونة الشغل. من هنا لا يخرج الوضع عن إحدى السيناريوهات التالية.
لا غالب ولا مغلوب
يعني هذا السيناريو أن الحكومة لن تعطي شيئا جديدا للنقابات وأن هذه الأخيرة لن تتنازل عن إصلاح التقاعد المؤلم. ويكرس هذا الخيار الوصفة المغربية لإدارة الأزمات : تجميد الحوار وتأجيل الإصلاح، وترك الوقت للوقت. وهو السيناريو الذي يدفع إلى تجنبه التنظيم النقابي التابع للعدالة والتنمية على اعتبار أن «الحكومة عبرت عن استعدادها للاستجابة لعدد من المطالب المدرجة ضمن جدول الأعمال الذي جرت حوله سلسلة من اللقاءات التفاوضية.»، بل يذهب الاتحاد الوطني للشغل بالمغرب بعيدا عندما يتهم القيادات النقابية الأخرى بـ «السعي لإفشال الحوار الاجتماعي بدوافع سياسوية، والحيلولة دون الوصول إلى اتفاق اجتماعي ينصف فئات واسعة من المأجورين لاسيما محدودي الدخل منهم.». وتقرر نقابة العدالة والتنمية منهجية الهروب إلى الأمام، حيث أكد مكتبها الوطني أنه «يطالب الحكومة بالعمل على تنزيل وتنفيذ القضايا التي استجابت لها في أقرب الآجال وعدم تجميدها…»[8]
رابح رابح
يعني هذا السيناريو أن تتنازل الحكومة شكليا عن بعض المطالب مقابل قبول النقابات بتنزيل إصلاح التقاعد. ما يجعل الربح في هذا الخيار يمثل وهْماً مؤقتا كون الشغيلة تعبأت ببذل موارد استثنائية – اقتطاعات متكررة واحتجاجات…- خلال معركة النقابات ضد الحكومة[9] وسوف تكون صدمتها كبيرة وغُصّتها أكبر عندما ترجع النقابات بخفي حنين رغم تنسيقها ضد فاعل جديد قيل الكثير عن عدم نضجه السياسي.
وضعية الصدمة
الوقت بدأ ينفذ أمام صناع القرار، لكنهم لن يعدموا حيلة من أجل استثمار حدث ما لجر الرأي العام إلى إجماع وطني يحرر الملف الاجتماعي من وضعية الكمون ويطلق الانحباس الحاصل في العديد من الملفات بسبب الصراع الحزبي الذي سيأخذ أبعادا غير معتادة في السباق نحو مقاعد الحكومة المقبلة.
هذا الخيار يذكرني بمعاكسة جاءت في سياق طريف بين وزير التشغيل الحالي وقيادي بنقابة الباطرونا، حين ألحّ هذا الأخير على مطلب تعديل مدونة الشغل فسأله الوزير: «بالمناسبة أتسائل، سيد جمال، ولماذا في 2003 قبلتم بهذه المدونة ؟» فرد جمال لحرش قائلا : «تعرف جيدا ماذا حصل في 2003 عندما تسارعت مجموعة من الأحداث السياسية في هذا البلد حيث هناك من استفاد من فرصة الإجماع فكونوا قوة للضغط في الداخل وتمكنوا من خداع الباطرونا فيما يتعلق بمدونة الشغل…»[10].
[1] Abdallah Saaf. Une année considérable. La croisée des chemins, 2013.
[2] صاحبة كتاب «هوامش التغيير السياسي في المغرب». 2011. انظر الصفحة 150 وما بعدها تحت عنوان : سنة 1999، سنة الحريات العامة.
[3] في 5 يونيو 2003 ذكر وزير التشغيل أن التسريع بعرض مدونة الشغل يأتي «تنفيذا لاتفاق 23 أبريل 2000 الذي يقضي بضرورة مضاعفة الجهود للتوصل إلى توافق على ما تبقى من النقط العالقة في مشروع المدونة…». مقتطف من تقرير لمجلس المستشارين.
[4] أمام مجلس النواب جاء في الجواب التالي لرئيس الحكومة حول مستجدات الحوار الاجتماعي بتاريخ 14 يونيو 2016 : « التزامات اجتماعية ثقيلة ومكلفة، في إطار اتفاق 26 ابريل 2011، الذي وقعته الحكومة السابقة في الظروف التي تعرفونها، وتحملت الحكومة الحالية مسؤولية تعبئة الإمكانيات المالية اللازمة للوفاء بها، والتي تجاوزت 13 مليار درهم سنويا.»
[5] «كما أنه ليس من المنطقي أن يقتصر الحوار مع النقابات دوما على الزيادة في الأجور، بل ينبغي أن يستحضر أيضا وعلى الخصوص السبل الكفيلة بالرفع من المردودية والإنتاجية ومن تنافسية الاقتصاد الوطني وسبل خلق فرص الشغل المنتج لاستيعاب سوق الشغل لأكبر عدد ممكن من السكان النشيطين.». من خطاب رئيس الحكومة أمام مجلس النواب.
[6] « وفي الوقت الذي قطع فيه الحوار أشواطا مهمة، طالبت ثلاث مركزيات نقابية بتوقيع اتفاق جديد مع الحكومة على شاكلة اتفاق 26 أبريل مع التنصيص على إعادة إصلاح نظام المعاشات المدنية إلى طاولة المفاوضات، وتقدمت بمذكرة جديدة تضمنت مطالب يقدر أثرها المالي ب 40 مليار درهم سنويا، في حين عبر الاتحاد العام لمقاولات المغرب عن عدم قبول أي زيادة في الحد الأدنى للأجر أو في المعاشات.» من خطاب رئيس الحكومة أمام مجلس النواب، الذي زاد أن تلك المطالب هي «مطالب عامة تعجيزية».
[7] في رده أمام مجلس النواب حدد رئيس الحكومة السقف الأقصى الممكن كالتالي :« وبعد دراسة مطالب مختلف الأطراف، وفي إطار ما تسمح به إمكانيات الدولة حاليا، اقترحت الحكومة في البداية على الشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين عرضا بتكلفة مالية قدرها 2 ثم 3 لتصل إلى 6 مليار درهم،…». وهو العرض الذي يحرك فقط عنصرين من المنح والتعويضات بالنسبة للنشيطين، فيما لا يستفيد من العنصر الثالث سوى المتقاعدون ذوو رواتب أقل من 1500 درهم.
[9] جددت النقابات التزاماتها بالاستمرار في رفض مشروع قانون المتعلق بإصلاح التقاعد في بيان صادر عن الاتحاد المغربي للشغل بتاريخ 22 يونيو 2016، جاء فيه : « كما يستحضر (الاتحاد) المعارك النضالية التي خاضها رفقة الحركة النقابية المغربية، مؤكدا استعداده لمواصلتها وانخراطه في كل الأشكال والأساليب النضالية من أجل فرض سحب الحكومة لهذا المشروع من مجلس المستشارين، وعرضه للتداول والتفاوض في إطار الحوار الاجتماعي…»