تظهر مؤخرا صور الحملات الإنتخابية  الباكرة، المنسوبة زيفا للعمل السياسي الجاد، دوما محشوة بلحظات الصدق وبريق النزاهة وصفاء الذمة، لحظات مُفتعلة ومُعدة مُسبقا ولها غاية محددة وحربائية في إخفاء الأثر العاطفي المُبتغى المقولب عنوة في حكايات ولوحات شخصية عائلية حميمية، كأيتها بضاعة “حكواتية” أصيلة لا تعدم نزرا وافرا من بهارات ورحيق تجارب الحياة الواقعية المستقاة برغماتيا…

 الصورة الأولى:

 لدينا قياديان نجحا دوما في تسويق صورتهما بهذه الشاكلة في حلبة تجريب وصفة الدعاية الشخصية إعلاميا، الأول هو بنكيران في خرجته أمام الجموع وخاصة حين يكون في أحضان شبيبة الحزب وهو يحكي بنبرة مثخنة بالهموم كيف تحمل أعباء دراسة أبنائه ودوره كأب في تزويج بناته ومصابه القاسي حين ازدادت له ابنة معاقة في يوم وفاة الحسن الثاني!

 الشخص الثاني هو إلياس العماري ووقفاته الثقيلةة في افتعال الجِدية متعمدا الكلام بالفصحى متحدثا عن شقاوته السياسية في ظل النظام المخزني القديم، وذكرياته حين كان راعيا للغنم في جبال الريف وسرده العِبر التي كان يغترفها كالعسل من حِكم أبيه.

 كل المؤسسات السياسية التاريخية ذات التوجه اليساري المعتدل، أضحت تقريبا اليوم متصدعة داخليا، صارت قابلة للاختراق بكل الأشكال، ومهيأة العدّة تماما لإحتضان الأعيان الجدد النابتين كالفطر والحائمين حول الدوائر العليا الرقيبة المشرفة على كثير من المواقع النافذة الحساسة.

 هذه الصور – اللوحات – البضاعة، موجّهة ضمنيا في فترات المزاد السياسي، وبكثافة، لطرح محاولة يائسة أخيرة، تتوسل الناخبين العازفين عن التصويت، لزيارة صناديق الإقتراع للنصرة والتعاطف. ثم مرة أخرى محاولة منها، لتصحيح التصورات التي لديهم، عن لحظات العزم والصلابة في اتخاذ القرار السياسي عند تسيير الشأن العام، بأنها ليست سمات أو خصائص مصطنعة وملفقة، يسربلها الفاعل السياسي عند الحاجة، كما يُتداول، إفكا، في منتديات كتاب الرأي القاسية ، بل هي نابعة من صميم تجارب حياة الشخصية القيادية الحزبية الموهوبة!

 والحال أنه في مثل هذه اللحظات نفسها يتمّ العكس. إذ أنّ فعل التعبئة والتصنّع الدعائي وأسطرة حكايات منتزعة من ماضي السيرة الشخصية، هو الذي يصرّ أن يمضي بطرقه المزيفة إلى فرض المفارقة والخروج بتلك القواعد السياسية المعروفة في ممارسة الحكامة، من امتحان المسؤولية الصعب، قاذفا بها إلى دوائر التهويم الشخصاني الأناني المستجدي للتلميع الإنتخابي، البعيد تماما عن الرهان الفكري وطرح برنامج للإختيارات الإستراتجية الكبرى التي تستفرد بها الجهات العليا كما نعلم جميعا.

 الصورة الثانية

 كل المؤسسات السياسية التاريخية ذات التوجه اليساري المعتدل، أضحت تقريبا اليوم متصدعة داخليا، صارت قابلة للاختراق بكل الأشكال، ومهيأة العدّة تماما لإحتضان الأعيان الجدد النابتين كالفطر والحائمين حول الدوائر العليا الرقيبة المشرفة على كثير من المواقع النافذة الحساسة.

 الدليل على ذلك أنّ كل أولئك الذين كانوا يطمحون فيما مضى إلى التغيير يأملون الآن تسيير المؤسسات المنتخبة جنبا إلى جنب مع الوافدين التكنوقراط الجدد غير المتمرسين بفن السياسة أو تعاطيها.

 وبموجب الشروط المملاة استشاريا، والمعطلة نسبيا في رأيي، للصلاحيات التي أتت بها مقتضيات دستور جديد، يبقى غير منزل كفاية وبالسرعة المطلوبة. واحتكاما كذلك لموازن القوى القائمة، التي رست في الأخير، طواعية، على النهج القديم في انتظار الثقة الممنوحة من فوق ومن أصحاب السيادة. ويأملون قيادتها تماما كما هي بكل ما تتضمنه من السلطة والهيبة. بحيث صار يحدث هذا، كما لو أنه قد قُضي على تلك الفكرة القديمة التي تقول: كل مؤسسة منتخبة شرعيا كيفما كانت هي قابلة للنقد والتغيير.

ثمّ إنه لم يعد يحدث هذا بخلق تبريرات جديدة ودفعها إلى الواجهة لتبرير مرحلة بطيئة في تسريع موجبات الإنتقال الديموقراطي الملموس والفعلي المرغوب فيه و الذي مازال يراوح مكانه، ذلك لأن فعل التبرير نفسه صار عندهم غير مجد الآن وببلوغ هذه النتيجة سيهتمّ الكلّ بالتدرب على وسائل السيطرة والتعبئة وكيفية استثمارها سريعا داخل القنوات الحزبية والمنتخبة، عوض الالتفات إلى وعود الثورة الإصلاحية كما ظهرت بوادرها الإحتجاجية في مطلع سنة 2011.

 ولهذا في مرحلة يوهم فيها بعض مشعوذي صناديق الإنتخابات أنّها أبعد ما تكون عن التأزّم، يصعب كثيرا تشريح صور ودعاوى القضايا السياسية على الواضح وبالملموس لأنّ أدنى شروط الفهم التاريخي لما يعتمل في تحولات الهياكل الحزبية وما جاورها الآن شبه منعدمة لدى الأفراد المستهدفين انتخابيا. هنا في دائرة التجاهل كما هو الحال هناك، في هاوية النسيان، لا يتم تحاشي الإشكال إلا من أجل السقوط في أحضان التبلد الإنتخابي…