أبانت عمليات “داعش” الإرهابية، خاصة عمليات السبي التي تعرضت لها الإيزيديات وفرض الجزية على مسيحيي الموصل وقطع الروس والأيدي والأرجل وحرق الناس وهم أحياء.. عن الوجه الحقيقي للفكر السلفي، وكيف يتصور منظروه الدولة والاجتماع الإنساني.

وبما أن هذه الأعمال الوحشية التي اقترفها تنظيم “داعش” الإرهابي، أثارت صدمة حادة لدى الرأي العام المحلي والعالمي، وخلقت الكثير من التشويش على المنتسبين أو المتعاطفين مع حركات الإسلام السياسي عامة.سارعبعض رموز السلفية إلى التبرؤ من هذه الأعمال.

لكن، هل هذا التبرؤ، تبرؤ مبدئي أم تبرؤ تكتيكي؟ وقبل ذلك، لماذا يعترض السلفيون على جرائم “داعش”، وهي في الأخير لم تطبق إلا ما نظروا له وطمحوا إلى تطبيقه؟ 

يكمن الخلاف الأساس بين الفريقين في التكتيك وليس في النموذج. فإذا كانت  “داعش” قد ذهبت رأسا إلى الهدف الذي تتفق حوله جميع أدبيات الحركات الإسلامية الحديثة وهو إقامة “دولة الخلافة الإسلامية”. فإن الشيوخ المناوئون لهايقولون بالتدرج في تطبيق الشريعة الإسلامية، فإقامة الخلافة على المنهج النبوي، تتطلب تهييء الشروط الموضوعية والنفسية لهذا التطبيق.

إذا، تبرؤ بعض رموز السلفية من “داعش”، ليس إلا شكلا من أشكال التقية، لأنها بتسرعها في تطبيق الشريعة، عملت “داعش” على تنفير الناس العاديين من الحركة السلفية، وسلطت الأضواء الكاشفة على “جهالاتها” (الحركة السلفية)، من خلال التغطية الإعلامية المحلية والدولية الواسعة لهذه الأعمال.

تبرؤ بعض رموز السلفية من “داعش”، ليس إلا شكلا من أشكال التقية، لأنها بتسرعها في تطبيق الشريعة، عملت “داعش” على تنفير الناس العاديين من الحركة السلفية، وسلطت الأضواء الكاشفة على “جهالاتها” 

إذا كانت هذه الحركات جادة في تبرئها من “داعش” فإنها مطالبة بالضرورة، ليس فقط بما تسميه في بعض أدبياتها مراجعات تطال بعض المسائل العرضية، بل هي مطالبة بقطيعة معرفية مع أسسها النظرية. ومن أهم هذه الأسس في اعتقادي، فرملة عجلة التاريخ،والتي تتمظهر عمليا في تعطيل فاعلية الفكر.

فمن خلال سلسلة من المقدمات الأصولية والفقهية تصل السلفية إلى القفز على التاريخ، لتبرير استيراد نموذج للاجتماع تبلورت ملامحه الكبرى خلال العصر الأول للإسلام، ولا تقيم أي اعتبار للتحولات التي عرفتها المنطقة والعالم.

وبعد القفز على التاريخ يسهل عليها إلغاء الواقع بكل إكراهاته السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية.. فتبني نماذج للاجتماع متوهمة تنتج يوتوبيا يجد فيها المهمشون والمحرومون والمقصيون والمنسيون والمضطربون.. مكانا لهم تحت رايتها، بعد أن لم يجدوا مكانا في النموذج المتحقق على أرض الواقع.

إنهم بذلك يعمقون غربة الإنسان المنتمي للثقافة الإسلامية عن العالم الذي ينتمي إليه، والأخطر أن هذه الأزمة ستتفاقم بالنظر إلى مخلفات العولة المهددة لقيمنا الثقافية والأخلاقية من جهة ومن جهة أخرى تقوقع هذا الإنسان وعزلته المفروضة أو المختارة، لذلك فإن هؤلاء سيستمرون بالحلم بالهجرة أو الهجرة الفعلية، كلما أطلقت مجموعة ما دعوة للالتحاق بها (“دولة البغدادي” كنموذج متحقق) أو أي دولة ستعلن عن نفسها مستقبلا في أي نقطة من العالم.