
رسالة إلى طالبة

« Je déteste l’Un, l’union de la pensée et de l’action, de la recherche et de la découverte, de la vie privée et de la vie publique… »
آراء أخرى
Alain Touraine, lettre à une étudiante
كاد فجر الليل الصيفي على وشك الانبلاج لما فتحت بالصدفة علبة الرسائل، وقلما أفتحها في الصيف. وحتى وإن فتحتها، وبطقس غريب لا أقرأ البراءات، لكني في ذلك الصباح البهي لمحت في لائحة الميساجات الجديدة اسما لا أعرفه، قلت في نفسي هو من الأسماء المستعارة التي يتخذها مستعملو البريد الإلكتروني، ودفعني الفضول لمعرفة المرسل، وحضر صاحب الخطاب الحقيقي بعد الفتح…
ووجدت الرسالة، كانت طويلة ومتعددة المضامين إلى حدود الحشو عندما نقرأها القراءة الأولى، لكن أسلوبها البليغ والأنيق والصادق والحماسي يدفعك دفعا لإعادة القراءة مرات ومرات لتجد وحدة موضوع مركزي ودقيق وهو الوضع الاجتماعي لشابات وشباب اليوم ابتداء بالثانوي، كانت الرسالة تكرر، لا ننسى الثانوي… ! والمعدلات والإعداد للمدارس والجامعة وطابعها المنغلق وثقافة التزمت، بنايات عملاقة بدون روح تقول الرسالة…والموسيقى والفيس والمسنجر وتفكك التواصل الأسري بسببهما … حتى التعليم العالي برمته والتسجيل والاستقطاب المفتوح وغير المفتوح والمنحة والحي الجامعي وتاريخ أوطم، كانت تتردد الكلمة كثيرا، والفصائل والسداسيات والمجزوؤات والميزات والماسترات ومعايير الانتقاء… وسلوك الأساتذة، والاحترام الشديد الذي لا زال الطلبة يكنونه لهم وتركهم وحالهم للتفكير والبحث… والحرية بين الجنسين والدين واللحية والخماروالحب …والتخرج والزواج والسياسة وبن كيران والبام وداعش وتفكك العراق وسوريا وليبيا ومصر والقضية الفلسطينية والصراع الجزائري المغربي …والإصلاح الجامعي وإفسادات التعليم، هكذا …لم تترك الرسالة أي شيء…
كانت الكلمات منتقاة كما تنتقى الفساتين يوم عرس، وكانت المضامين تخرج كالأمواج تباعا، وكان الحجاج قويا وغنيا، استعمل القياس والمقارنة والتاريخ والأمثلة والكتب، كثيرا من الكتب، وحتى بعض المقابلات…
أتكلم باسم كل الطلبة وكل الشباب وهمومنا مشتركة ذكورا وإناثا، لكن جراحنا نحن الإناث أقوى وهمومنا مضاعفة، وأحيانا نظلم حتى من زملائنا، وغالبا بدون سوء نية، بحكم الثقافة الذكورية المتغلغلة في كل شيء، في المنزل، في تعامل أبائنا مع الأمهات، في تعامل الإخوة مع الأخوات، في الشارع والتحرش الجهنمي، في المدرسة والصور النمطية للمقررات، وكذلك في الجامعة، وفي التوظيف، وحتى في الحوار والاحتجاج لما تطفو على السطح فلتات اللسان…
أمثل الشباب، لكن الإناث أكثر … في الخوف مما يسمونه العنوسة، والطلاق والترمل، والظلم في قسمة الإرث، والمحاكم والقوانين المبيحة للتعدد، وفي قراءة النصوص ذكوريا، وفي التراث، وحتى في ظلم الأنثى لأختها في الحسد والنميمة، والفرح في غلبة الابن لزوجته ولو في نفس المستوى الاجتماعي والأكاديمي، هو يقرأ الجريدة وهي في المطبخ، هو في المقهى وهي تهدهد الطفل لينام… ثم قبل كل ذلك في الآم الحيض، وليلة العرس والبكارة، والحمل، وما يسمونه سن اليأس، وتعب العواطف ونقص الهرمونات، والفوران التيستيروني للذكر، أكاد أحمل الطبيعة المسؤولية قبل الإنسان… هناك القانون والطب والمعرفة تسوي كل شيء …
أسعدتني الرسالة كثيرا وأعادت الطمأنينة والأمل إلى نفسي. قلت ربما طلبة اليوم نزل مستواهم في أشياء لكنه صعد في أشياء … هم طلبة متفتحون وتلقائيون، متعاونون وقليلو مرض القلوب من حسد وغل ومنافسة غير بريئة، طلبة يستحيون ويعيشون العفة والزهد، مكافحون يشتغلون في أوراش البناء والضيعات صيفا لتوفير تذاكر السفر للمدن الجامعية من أجل مقابلة. يتابعون تكوينات في المعلوميات واللغات في المراكز الثقافية والجمعيات، يساهمون في الاحتجاج ووضع معايير للتسجيل في الأحياء، أقل عنفا و أقوى توجها نحو الفهم، أكثر نقدا للمجتمع الذي يتعفن من رأسه وذكائه: من جامعته، بتعبير ميشيل كروزيي … دون نسيان بعض المثالية ومحاولة إحلال عالم مغلق مكان الحالي المتزمت، بلغة مشيل كروزيي نفسه في رسالته الشهيرة إلى طلبة 68، طلبة الثورة الثقافية الفرنسية.
لقد كان الربيع العربي ثورة ثقافية عربية مجهضة، لكن إلى حين، وكانت 20 فبراير حركة، رغم “هجانتها وجمع المتناقضات” بداية ثورة ثقافية، أيقنت أنها لن تتوقف، في الشكل الاحتجاجي على الأقل، منذ قرأت الرسالة، طلبة اليوم أكثر إنصاتا لما يحدث في العالم وأكثر إلماما بحقوق الإنسان وأقل أرثودوكسية مما كنا عليه نحن طلبة السبعينيات…
أعجبني قولك بنهاية مجتمع الأبطال والزعماء، وأن الآتي لن يكون سوى مجتمع اللحظة والعفوية واليومي، وأن تيمة السلطة والقوة يجب أن تتزحزح نحو تيمات القدرات والذكاء والإبداع، ومن ثمة أهمية فنون الشارع و”الثقافات المضادة” والفلكلور والتراث… و”الحق في السعادة” بتعبير آلان تورين في “رسالة إلى طالبة” وأن نبتعد أكثر عن من نكون من أجل ما نفعل بتعبيره في نفس الرسالة…
أعجبني قولك بنهاية مجتمع الأبطال والزعماء، وأن الآتي لن يكون سوى مجتمع اللحظة والعفوية واليومي، وأن تيمة السلطة والقوة يجب أن تتزحزح نحو تيمات القدرات والذكاء والإبداع، ومن ثمة أهمية فنون الشارع و”الثقافات المضادة” والفلكلور والتراث.
شكرا أيتها الطالبة اللبيبة الطموحة في بلد ممكن أن نجد فيه عددا كبيرا من الطالبات الذكيات والمجدات، لكن مع عدد قليل من الطموحات، ربما ارتهان مصير الفتاة في تقاليدنا البالية بالزواج حسر أفق انتظار الأنثى وحبسه في الإنجاب وتدبير البيت، وهي القاعدة التي تكسرينها بإعلانك الرغبة في الوصول إلى أعلى المراتب الأكاديمية وحتى السياسية منها، محاججة بامتلاك الدماغ اليميني وكفايات التحليل والتركيب والإبداع، رغم نقص في التنظيم قلت نتركه للسكريتيرات صاحبات الدماغ اليسرى … ومن ثمة القدرة على القيادة والإدارة والتسيير.
أذهلني حسك السياسي والرغبة في خوض غمار الانتخاب وأن الحزب لا يهم، ورغم يساريتك أبديت براجماتية مدهشة لم نألفها نحن الجيل القديم… كما أذهلني حسك النقدي تجاه نظام التعليم واقتراحك بيداغوجيا الفايسبوك، التنوع والتلقائية وحرية الاصطفاء والاختيار، وتحدثت كثيرا عن غباء النظام البيداغوجي ل م د وتطبيقاته المعقدة، بل وحتى فلسفة استيراده بذريعة تساوي الكفايات والدبلومات … ونقدك الشديد لعدم فتح الدولة كل الاختصاصات أمام الراغبين، وأن يكون كل شيء بالمباراة لا بالانتقاء… وكم كنت جريئة في نقد الثانوي وفي اعتماده على الكم بدل الكيف والحشو بدل الفهم والإبداع والنقد …
رأيت أن أصل الداء بعيد ويرجع إلى عدم مأسسة ما قبل المدرسي، وعدم استيعاب بيداغوجيا تربية الحواس، ومن ثمة تنميط الناس ووضعهم في خانات التقويم بالقلم الأحمر الذي يتراوح بين الممتاز وسيل من صفات القدح الغبية من ضعيف ولا يعتبر …مرورا على الإعدادي وصعودا إلى الثانوي الذي أمطرته بكل السلبيات خاصة المنافسة الشديدة والتنميط الشديد … ليفوز التلميذ بأعلى النقط كمعيار تمييزي مطلق يتوج بالبكالوريا ذلك الكابوس العظيم.
فكرة أخرى كانت تتكرر في الرسالة بشكل كبير تحوم حول عدم إنصات الأساتذة لتلقائية وعفوية الطلبة والتلاميذ، وأن تدخلاتهم العنيفة لا يجب أن تؤخذ محمل الجد، وتمنيت لو يشارك الأساتذة الطلبة في الحلقيات، أو أن يلتقوا معهم في الكونسرفتوار…كثرة القواعد والمعيارية تقتل الذكاء … وأسهبت الحديث عن ضعف المنحة، والزبونية في التسجيل في الحي الجامعي، وطهي الطعام وعجن الخبز والذهاب به إلى فران مسالك الزيتون … والأسرة غير الواثقة في متابعة الدراسة وانتظار الذي يأتي ولا يأتي من الشغل والبيت والأبناء والزوج والسعد واليمن…
ثم وقفت كثيرا عند نقط الأساتذة وأشكال التقويم البليدة، كما نعت، وأحاديتها وتكرارها ونمطيتها وما تتسبب فيه من هدر جامعي … ورجعت تبررين بالاكتظاظ وكون الأستاذ يقوم بدور أستاذين أو ثلاثة، ولا مزايدة على راتبه وتقاعده …والهدر وما أدراك ما الهدر الجامعي، كم طالب يدخل إلى الجامعة وكم منهم يأخذ الإجازة، وقارنت وبذكاء حتى مع الجيران الذين يملكون ضعف ما نملك من الجامعات وضعف الطلبة، وانتقادك أسطورة الجودة وقيمة دبلوماتنا في الجامعات الدولية، هي لها قيمة لأنها تمر بغربال لا يخرج منها غير الطفيف الطفيف…
ثم عرجت على غوغائية الأحزاب والضحك على الذقون والإرادة الممنهجة في التضبيع، وما معنى السياسة في بلدي، والاحتجاج والربيع الذي أصبح خريفا وقوة المخزن في احتواء التمرد، وقوته في توفير الأمن مقابل الحرية وفق التعاقد الهوبزي، والضربات المسرحية والمفاجئات وصناعة الإلهاء وحرب الكلام…
واستوقفت نفسك كثيرا وبشكل نظري وملفت في مناقشة إمكانية الحديث عن حزب سياسي ديني وفي التهافت المنطقي للمشروع برمته في خلفية الخلافة والحاكمية لله وتاريخ الإخوان وحسن البنا وسيد قطب والإحياء القسري لرفات القيم من أجل الاستعمال والاستغباء…
ثم حددت برنامجا للنقاش حول حرية الاعتقاد، وأن لا إكراه في الدين، وأن عدد العقائد في الأرض بعدد النجوم وأن الكل يعبد الله بطريقته، وأن ليس لأحد الحق في أن يكره آخر عل معتقد، وأن الله جميل ورحيم على كل الناس، وأن النصوص المقدسة لما تقرأ لا تعتبر قراءاتها كذلك، وأن على الإنسان أن ينزل تشريعا وسلوكا وقيما وثقافة ما يسهل ويبهج الحياة وليس ما ينكر في الدين، وأن نبينا كان يحب الصلاة والنساء والطيب…
وحول الحكم، اخترت المدنية لأنها تعاقد العقلاء حول المصالح المشتركة والراعية للحقوق وفق القابل للتقويم والمحاسبة، وأن الأمر ليس عقيدة ولا نظرية، بل هو حصيلة تجارب البشرية جمعاء نحو الرقي ووضح الحدود للتجاوزات…
وحرية المرأة، وعلاقة ذلك بالجسد والحياء والحجاب والخمار والعفة ومفهوم الشرف والعار والعورة، وكانت ملاحظاتك لبيبة عندما حاولت فهم مقاصد الفئات المستفيدة والآليات المستعملة من التفسيرات المغرضة وانتقاء تاريخ السيرة وإقصاء الفلسفة وعلم الكلام…
وناقشت البنود واحدا واحدا كمن يعد تشريعات أو مشاريع قوانين… وحملت رسالتك استشهادات من القرآن والسنة و المذاهب وعلماء الكلام والفقهاء والفلاسفة …وبين الثنايا يتحدث الفرابي وابن رشد وابن خلدون والغزالي والأشعري واحمد أمين وطه حسين ومصطفى عبد الرازق وعلال الفاسي والعروي والجابري والخطيبي و نوال السعداوي وفرج وفودة وفاطمة المرنيسي والديلمي وبورديو ودوركايم وسيمون دي بوفوار …
وأفردت فقرة طويلة للمرأة ونضالها ودينامكيتها وقانون الأسرة، وبحسك الحداثي الكبير نبذت قيم القبيلة واستعباد النساء، لكنك تخوفت من الخروج من مجتمع الرجال والدخول في مجتمع النساء، أو وحدة الجنس بتعبير تورين، ودافعت وبقوة عن طبيعة المرأة والأمومة والعطف والجمال والتجمل، ورفضت وبقوة لفظة التبرج وأن الله خلق المرأة جميلة لترى نفسها كذلك، وليراها الرجل زوجها وحبيبها وابنها وأبوها وأخوها ورفيقها كذلك، كما نتمنى أن نرى كل شيء جميلا، بما في ذلك الرجال والأطفال والشوارع والمدن، وأكدت على حل التربية الجنسية وخطورة التفريق بين الجنسين وما يتبع ذلك من كبت وحرمان وإحباط …
أيتها الطالبة المجدة، أعتذر مسبقا عن حاجتي الأبوية رغم فجاجتها، و حاجتي الأستاذية رغم غبائها لأعلن بعض الوقائع السوسيولوجية التي أظنها ضرورية لأن يأخذها الشباب بعين الاعتبار لأنها مساعدة في الفهم، وأحصرها في أربعة أساسية:
1_ إننا نعيش مفترق طرق على كل الأصعدة، ابتداء بالتحول الديمغرافي حيث تصاعد مدى الحياة وتقلص الوفيات من جهة، وتقلص الولادات من جهة ثانية، وهي سمات المجتمعات الحديثة التي لا يترك فيها الشيوخ والكهول الفرصة للشباب في المشاركة السياسية واتخاذ القرار خاصة، ولا بد أن تقع المزاحمة والصراع.
عل المستوى الاقتصادي يحدث تآكل الإنتاج العائلي لصالح السوق والمنافسة والعولمة، موجتان مرة واحدة، ولا بد أيضا أن تحدث الموجات رجة في الفئات ذات القدرات المعرفية المرتبطة بالماضي العتيق واستفادة العائلات الريعية من تعليم جيد للأبناء، ومن ثمة التفاوتات الصارخة، بحبوحة من العيش من جهة وهشاشة من جهة ثانية، وهذا يحدث خلخلة اجتماعية على مستوى تفكك الأسرة وظهور الأسر الأحادية والأمهات العازبات، وتفشي البطالة والجريمة والأمراض الاجتماعية من تسول وبغاء وحشي وتعاطي للمخدرات و غير ذلك من نتائج عدم قدرة الدولة أن تؤدي حتى بعض أدوارها التقليدية مثل التحكيم، وتخليها عن الرعاية حتى قبل مأسستها وحتى بدايتها أحيانا…
2 التحول الاجتماعي يؤدي حتما إلى تحول القيم وتصادم التوجهات، خاصة التوجه إلى الماضي والقيم البالية ضد التوجه إلى المواطنة والقيم الكونية. وفي كل لحظات التغير تظهر فئات متاجرة تستغل التوجهين في سوق الاستعمال والإستغباء…
3 أمام هذه الأوضاع لابد من ثورة ثقافية تعيد ترتيب الأوراق المبعثرة، تعيد للقوى الحية الفتية نضارتها ومشاركتها في إنتاج الأفكار والحوار نحو الإبداع بدل الإتباع، نحو الخلق بدل التقليد لمسايرة ما يحدث كونيا…
4 المنهجية في السلوك يجب أن تكون متسامحة متحضرة لا تلغي أحدا في المساهمة في بناء وطن للجميع وليس لفئة دون أخرى… أما في الفهم فالتفييء يساعد على حد أدنى من الحتمية والتي بدونها ليس هناك علم بالاجتماع، مع العودة دوما للفعل من أجل تحمل المسؤوليات على لا نسقط في أسوأ السوسيولوجيات وهي التبرير…
عل سبيل الختم
لا نصح كما فعل كروزيي في رسائله إلى الطلبة، ولا إعداد للمستقبل كما فعل تورين في رسالته، أكاد أقول نحن الأحوج إلى النصح وإلى الإعداد لتقبل التغيرات التي تحدث أمامنا …
ربما تلك هي الرسالة. ونحن هم المرسل إليهم.