جلس بنكيران أمام قارئة الفنجان، متلهفا لمعرفة طالعه المشؤوم  في ذلك اليوم المعلوم؛ وقد تملكه الخوف وأخد منه مأخده، بعد أن قض مرقده.وإذ هي تتأمل فنجانه المقلوب، قالت:

ياولدي، إن فنجانك المقلوب ينذر بفشل مكتوب، بعد أن خدعت هذا الشعب المغلوب، وأوهمته بتحقيق كل ما هو مطلوب ومرغوب.

يا ولدي، بئس من نكت وعده، وأخطأ مع التاريخ موعده؛ فقد جرفك هوى الكراسي، وأقحمت الشعب في بحر من المآسي، ووليت فاشﻻ بعد أن جعلت الحق باطﻻ.

لقد صعدتم إلى سدة الحكم على صهوة المطالب الشعبية، بعد تجرع الشعب قهرا خطبكم الغوغائية وأحﻻمكم السرابية، وأغرقتم دماغه بسفائف كلامكم الطويل المقرف، ثم مارستم عليه حكمكم المجحف.

أتيتم حاملين سيف العدالة وسط هتافات التكبير ﻹحداث التغيير، متوعدين بجز رؤوس الفاسدين، وتخليص البلاد من براثن الفساد والمستبدين.

كنتم باﻷمس للفساد مهددين، وباﻷقوال ﻻ باﻷفعال مناهضين، وبدقكم طبول الحرب عليه مفزعين؛ غير أنه أركعكم بعدما بالغتم في البصبصة تحت أقدامه بأذيالكم، فوليتم خائبين ﻻتلوون على شيئ مما كنتم به متعلقين؛ وبذلك أطلتم عمر الفساد، وعرقلتم أي تطور في البلاد.

إنه أﻵن ينعم بعطفكم وصفحكم ورضاكم.فطوبى له بما غنمه، وليهنأ بما سلبه، وليرتح بما كسبه.

ألم تخجلوا من فضائحكم وقد أضحت مكشوفة، وأسراركم التي باتت معروفة.تحلون وتحرمون، تبيحون ﻷنفسكم تكفير ولعن اﻵخربدل إصلاح ذواتكم ومراقبة أفعالكم، حتى غرقتم في طوفان المصالح الشخصية والنعم، والعري اﻷخلاقي للقيم.

صادرتم حرية الرأي والتعبيروقلصتم من هوامش التغيير، وقمتم بلجم وتكميم اﻷفواه الحرة، وتجفيف مداد اﻷقلام الحرة.

آثرتم مصالحكم الشخصية في ظل صراخ العدالة التي تختفي أزليتها أمام إساءة الرأي اﻵخر، وتخوينه وشيطنته وإتهامه بالعمالة.

جعلتم من كل فاضح للفساد مشروع إنسان مضطهد ومعتقل، وعقل كل صاحب رأي وفكر مختل.

بمصادرتكم العمياء للآراء واﻷفكار الحرة، رسختم فكرة مجتمع بدون إنشغاﻻت بدون أفكار، وسعيتم إلى إخصائه من رجاﻻته اﻷحرار.

أخضعتم اﻵراء واﻷفكار لسيف ديمقليس ، تندب حظها في عهدكم البئيس.وأضحت ﻻتأمن نفسها من شر التأويلات واﻹستنطاقات والمحاكمات واﻹدانات.

في عهدكم تحول أشراف البلاد إلى أجساد مزقتها الحكرة، ونفوس حطمتها الحسرة؛ حتى غدا الوطن مأوى للانتحار جراء الظلم والطغيان والتنكر والخذﻻن، ومزرعة للموت وكأننا أمام كرنفال جنائزي بامتياز، في وطن ننتمي إليه بكل فخر وإعتزاز.

أشعتم فيهم السخط والتذمر، وجعلتم منهم مواطنين مهمشين، منبوذين محطمين، بعد أن ألقيتم بهم على رصيف اﻹنتظار وفي دوامة اﻹنكسار.

كسرتم جماجم الدكاترة واﻷطباء والمدرسين، والمعطلين والمتقاعدين، ومارستم قمع وسحل المحتجين.

رهنتم البلاد بالقروض ولعدة عقود، فأتعستم الفقراء وأسعدتم اﻷغنياء.

ألم تخجلوا من فضائحكم وقد أضحت مكشوفة، وأسراركم التي باتت معروفة.تحلون وتحرمون، تبيحون ﻷنفسكم تكفير ولعن اﻵخربدل إصلاح ذواتكم ومراقبة أفعالكم، حتى غرقتم في طوفان المصالح الشخصية والنعم، والعري اﻷخلاقي للقيم.

لقد صدقت فيكم مقولة ابرهام لنكولن:إذا أردت إختبار معدن رجل، فاجعل له سلطة.

وظفتم اﻷبناء واﻷقارب في المناصب، وألقيتم بأبناء الشعب في دوامة البطالة والمتاعب.

حشرتم الزوجات ومكفري أﻷشخاص والديانات في اﻹنتخابات،

عهدكم إتسم بالقفشات والضحكات وشراء السيارات، وإستغلال اﻷراضي والضيعات، وتفويت الصفقات للأقارب والعائلات في أفقر الجهات، وتوليد الحاملات بأبواب المستشفيات، وتوهيم اﻷرامل والمطلقات.

في عهدكم إنفضح أمر الوعاظ والواعظات، واﻹختلاء بحرا بالخليلات، أو في الشقق واﻹقامات.عهدكم عرف سياقة السيارات بعقول ثملة بفعل سحر تلك القنينات، والتعري في جلسات خمرية والرقص مع العاهرات على وقع الكؤوس واﻷقداح والقارورات، وإبرام صفقات الزواج بعد إفتضاح أمر العشاق والعشيقات من وزراء ووزيرات، ودعاة وداعيات.

وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا.

ياولدي، ﻻتستجدي سخاء التاريخ بالتشدق بمنجزات واهية أمام إخفاقاتكم، وبإغراءاتكم الغير قادرة على رتق جروحنا الدامية الغائرة التي هي من صنيعتكم، طمعا في الخلود بعدما تنكرتم لما إلتزمتم به من وعود.

لقد دقت ساعة الخلاص، وآن اﻷوان لوضع حد للاﻻم ، والثأر للكبرياء الجريح المتخن باﻷسقام.فقد إنفضحت مساحيقكم الرديئة، وخطبكم الغوغائية البذيئة، واحترقتم في محارق التناقض فكفوا عن الصراخ.

إن نيران محرقتكم تدنو من أقدامكم، وحبل الهزيمة يقترب من أعناقكم.

ظل بنكيران جاثما أمام قارئة الفنجان، واﻷلم يعتصر قلبه، والدموع تنهمر من مقلتيه.فقالت له:

يا ولدي، إن الدموع أسوأ خسارات الرجال.فلا تذرف الدموع التي لم تعد تجدي نفعا، فقد أهملت أطفاﻻ يذاكرون دروسهم على ضوء الشموع دون أن تحسن صنعا.

فخاطب بنكيران قارئة الفنجان.ما العمل اﻵن؟ أجابته :

في ذلك اليوم المعلوم، ستعرف مصيرك المشؤوم، وسترحل مهزوما مكسور الوجدان، وهذا مايقوله الفنجان.

أسألك الرحيل لخير هذا الوطن وخيرنا.فما لك من ذلك سبيلا.

معذرة للشاعر العربي الكبير

الراحل نزار قباني.