بعد حملة انتخابية ساخنة استمرت لأكثر من عشرة أيام، وما حفلت به ولاية حزب العدالة والتنمية من سجال وأخذ ورد، تعلن وزارة الداخلية صبيحة هذا اليوم الموافق للثامن من أكتوبر عن النتائج شبه النهائية عن فوز حزب العدالة والتنمية متبوعا بغريمه حزب الأصالة والمعاصرة . سنحاول في هذه القراءة السريعة الإشارة إلى العوامل الكبرى التي ساهمت في الخروج بهذه النتائج والتي من ضمنها النسبة المتدنية للمشاركة في العملية الانتخابية .

حزب المقاطعين ..نصر بطعم الانتظار

أعلنت النتائج الرسمية عن أن نسبة المشاركة بلغت 43 في المائة، وهي نسبة ضعيفة جدا مقارنة بما شهده الاستحقاق الجماعي السابق الذي قدر البلاغ الرسمي نسبتها ب53 بالمائة. إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن هذه النسبة تخص فقط المسجلين لدى السلطات الوصية دون احتساب الملغاة والنسبة العظمى من غير المسجلين الذين يصل عددهم إلى سبعة ملايين.

وسواء سلمنا بصحة هذه النسبة أم لا إذ إن الدوائر غير الرسمية تؤكد أنها لا تتجاوز 23 في المائة، فإن هذه النسبة تبقى كارثية على اعتبار أن سبعين في المائة من المغاربة خارج اللعبة السياسية التي يفترض فيها تصويت غالبية الشعب على مشروع سياسي مثل ما يقع في دول ديمقراطية، تصل فيها نسبة المشاركة لخمسة وثمانين في المائة أو أكثر، وقد يحصل فيها حزب مثل حزب العدالة والتنمية على ما يقرب من 12 مليون صوتا.

إن حزب المقاطعين يرسل رسالة يجب أن تقرأ بعناية من لدن المراقبين الرسميين والدوليين، إذ أنها تؤثر سلبا على سمعة البلد في الخارج وما يرتبط بذلك من مآلات سياسية واقتصادية. لكنها بالمقابل تعبر عن رأي غير مفهوم بالكلية للغالبية الساحقة من المغاربة والتي تكون مجبرة على الرضوخ لقرارات حكومة لم تخترها أصلا مما يفقدها شرعيتها الدمقراطية.

حزب العدالة والتنمية النصر الذي لا يكتمل

لم يتوقع الكثيرون أن يحل حزب العدالة والتنمية أولا في هذه الاستحقاقات، لكن خابت كل التوقعات شيئا ما. فالذين بنوا توقعاتهم بنوها على حسابات صورية استنادا إلى الثابت في المعرفة السياسية، الذي يعتبر أن الحزب الذي يقود التجربة الحكومية يكون معرضا لفقدان الكثير من وزنه السياسي، كما حصل مع أحزاب الكتلة التاريخية وما يقع عادة في التجارب العالمية، بحيث يكون معرضا لا محالة للتصويت العقابي في مثل تجربة حزب العدالة والتنمية. فالمؤشرات الاقتصادية المتدنية جدا وما تلاها من تراجع على كافة المستويات الحيوية والاجتماعية، بالإضافة إلى القرارات غير الشعبية التي وسمت تجربة الحزب كلها مؤشرات دالة على أن الحزب كان معرضا لهزيمة نكراء.

قد يكون هذا المؤشر لا ينطبق على التجربة المغربية التي تعرف نسبة متدنية من المشاركة، بحيث يقاطع العملية سبعون بالمائة من مجوعهم العام. وهذا ما يجعلنا ندخل في حسابات أخرى غير صورية.

إن تدني المشاركة السياسية يكون غالبا في صالح الحزب الإسلامي الذي يتوفر على كتلة ناخبة ثابتة لا تتأثر بالمردودية الحكومية ولكن تتأثر بالخطاب الحزبي، كما أن داخل المدن ينتشر التدين الذي هو بالضرورة سياسي مما يجعل الناخب المتدين والمؤمن بالمشروع الديني يميل أوتوماتيكيا لحزب العدالة والتنمية الذي يوافق هوى في نفسه. فالتصويت للحزب هو غالبا ما يكون تصويتا على المشروع الإسلامي الذي يظهر في خطابات رئيس الحكومة والأتباع والمتعاطفين،والذي ازدادت حدته في الشهور الأخيرة من ولايته الحكومية والذي يوهم الناخب أن التصويت ضد الحزب هو تصويت ضد المشروع الإسلامي.

ليس هذا فحسب ولكن حزب العدالة والتنمية هو أكثر الأحزاب التزاما وتنظيما داخل المدن، ساعده في ذلك بنية حركته الدعوية والتي تنشط بالتوازي وتمد الحزب بخطابه الأخلاقي ومرشحين ينتمون فعلا للتوجه الأيديولوجي الإسلامي.

هذا بالطبع دون أن ننسى خطاب المظلومية الذي يتفنن الحزب في ترديده، والذي يكسبه المزيد من التعاطف داخل بنية نفسية وثقافية مغربية مؤزمة.

الأصالة والمعاصرة عروج قوي لم يكن كافيا

على عكس العدالة والتنمية فإن المراقبين كانوا يتنبئون بفوز كاسح لحزب الأصالة والمعاصرة لاعتبارات فوق انتخابية تستند على رغبة الدولة في تقديم مشروعها الإنقاذي، وجل المؤشرات كانت تصب في ذلك خاصة في جو اقتصادي مشحون ومتعثر جراء التجربة الحكومية السابقة . لكن يمكن القول تبعا لما ذكرناه آنفا: إن تجربة العدالة والتنمية ليست كتجربة أي حزب وطني داخل تجربة ديمقراطية ، فالحسابات الدقيقة كانت تؤشر على فوز حزب العدالة والتنمية في المدن بينما يكون دور الأصالة والمعاصرة محاولة فقط لوقف الزحف والتقاط الساقطين من كفي الحزب الإسلامي .

إن خطاب الأصالة والمعاصرة يحتم عليه الاندحار نحو البوادي والمعاقل الرئيسة حيث يضعف الإسلام السياسي، وحيث بالإمكان التبشير بخطاب ضد الإسلام السياسي أو بخطاب اجتماعي ثقافي بسيط بدلا من التصويت في زحمة المدن المكتظة.

فالناس في البوادي لا يصوتون للحزب بل يصوتون للأشخاص في صفة أعيان يقدمون مساعدات عينية وقت الشدة والأزمات، في حين لا يستطيع حزب العدالة والتنمية التبشير بخطابه السياسي، كما أنه من الصعب استقطاب الأعيان بخطاب الإسلام السياسي الذي يتوجسون منه ويعتبرونه ضد المخزن ويفضلون دونه الركون للأحزاب الوطنية العتيقة أو القريبة من القصر. وهذا ما يجعل الأصالة والمعاصرة بارعا في ترديد خطابه القريب من الدوائر الرسمية.

فما كان لحزب الأصالة والمعاصرة أن يبلغ أكثر مما هو عليه، ذلك أن البوادي التي يعول عليها يزاحمه فيها أحزاب الدولة وأحزاب الكتلة أيضا رغم غياب الغريم داخل البوادي والمدن الصغيرة.

أحزاب الكتلة الوطنية التي لم تستفد من دافعة آرخميدس

إن أحزاب الكتلة الوطنية التاريخية يفترض فيها أن تكون على دراية بالمقالب السياسية، على اعتبار أنها أكثر خوضا للتجربة الانتخابية كما قيل، لكن بالنظر إلى موقعها وسلوكها الحالي يمكن القول إنها تسير نحو نهايتها، والنتائج الأخيرة مؤشر كبير على ذلك. فبالإضافة إلى تخليها عن مرشحيها الحركيين واستعانتها بالأعيان في البوادي والمداشر والتي كانت سمة مميزة لأحزاب الإدارة ، فإن أحزاب الكتلة تعاني من خلل تنظيمي كبير وقيادات ثقيلة  تفرض نفسها على الحزب بقدرة قادر، مما يجعلها دكاكين لتصريف الخطاب المتقادم والمثير للشفقة في كثير من الأحيان.

إن ما قلناه بصدد حزب العدالة والتنمية هو عكس ما يقع بالنسبة لأحزاب الكتلة التي فقدت وزنها إلى حد الهزال. فإنه لان استطاع حزب العدالة والتنمية تكوين كتلة ناخبة ثابتة استنادا إلى خطاب ديني حركي ملتزم فإن أحزاب الكتلة لم يعد بمستطاعها تقديم شيء ولا إقناع الشباب بخطابها . فحزب العدالة والتنمية يستطيع إيجاد مرشحين منتسبين لتبنيه الإيديولوجي في حين أن أحزاب الكتلة تستعين بالأعيان غالبا أو ترشح أشخاصا خارج منظومتها الإيديولوجية التاريخية بل إنها غالبا ما لا تمحص مرشحيها. كما أن خطابها غالبا ما لا يأتي بجديد بل هو يتشابه ويختفي في الخطاب الرسمي للدولة.

لقد تخلت أحزاب الكتلة التاريخية عن دورها التوجيهي والتربوي الذي طبع تاريخها والذي أسس للفعل الجمعوي والعمل الحزبي والممارسة السياسية للمغاربة ككل، بل تحولت في الغالب إلى دكاكين للريع السياسي والنقابي والانتخابي الذي استنفذها قواها.

لقد تحولت إلى أحزاب إدارية بل لا تختلف عليها في شيء تتأرجح في سلم المقاعد استنادا إلى قوة الأعيان .

فدرالية اليسار الديمقراطي الحلم الذي في المهد

لقد كان من الممكن تسمية فدرالية اليسار بالحزب الذي يعبر عن شعور المثقفين المغاربة، الذين يمتحون من النسق المعرفي الحداثي، فهو الحزب الذي استطاع أن يحضى بثقة كبيرة واحترام من لدن جل المثقفين. فهو يمثل الخط الثالث الفاصل بين ثنائية حزب الدولة والحزب الإسلامي الحركي، فإنه لئن كان حزب العدالة والتنمية يدخل العملية الديمقراطية وسيلة بينما يفتقد الغاية التقدمية رغم التزامه وتنظيمه المحكم، فإن الفدرالية هي الحزب الذي كسر هذه الثنائية وجمع بين القوة التنظيمية والالتزام وغاية الديمقراطية والأفق التقدمي.

إن الفدرالية رغم التزامها المشهود به وحسها النضالي لم تستطع أن تحضى بمقاعد محترمة وهذا له سببان رئيسان ولا ينقص من قدرها شيئا.

الأول: هو أن الفدرالية لم تستفد من نوعية المجتمع الذي صنعه المخزن لتثبيت سلطته وشرعيته، في حين استفادت منه جل الأحزاب وكان حزب العدالة والتنمية وصيفا للنظام في الشرعية الدينية . كما أن الخطاب الفوبي الذي أطلقه حزب العدالة والتنمية بين العوام للتخويف من مشروع الأصالة والمعاصرة الخطر على الإسلام كما يدعون امتدت نيرانه للسيدة نبيلة منيب الذي شابه خطابها خطاب إلياس العماري في تصريحاتها هنا وهناك خاصة وأن الفدرالية تعلن صراحة انتصارها للمشروع العلماني للدولة وهو ما يشوهه أنصار حزب العدالة والتنمية .

ثانيا: المتعاطفون مع الفدرالية هم من جملة المقاطعين في الغالب، وهذا هو ما لم تنتبه إليه الفدرالية والتي لم تبذل مجهودا في دعوة المقاطعين للتصويت على مشروعها. فقد كان من الواجب التنبه لهذه المسألة إذ أن خيار المقاطعة هو خيار ينبع من وعي سياسي كما أن خطاب الفدرالية يحتاج إلى وعي سياسي شبيه هو نفسه موجود عند المقاطعين مما يجعل الفدرالية تحث رحمة المصوتين خارج خطابها والذين لا يفهمونه أصلا في مجتمع تغشاه الأمية .

إن مقعدين داخل دائرتين لا ينتميان للدوائر الشعبية يؤكد ما قلناه آنفا. وهذا يستدعي الاستفادة من خطاب اليسار القديم وبعده الاجتماعي والتنظيمي والتزامه المبدئي الذي هو أحق به تاريخيا.

وختما

لقد مرت العملية السياسة دون أن تأتي بجديد، بل لا تبشر بجديد سوى خمس سنوات لتصريف الأعمال والتباكي، بينما تبقى دار لقمان على حالها في انتظار القادم من السنوات لعل وعسى تشرق علينا شمس الديمقراطية، وننتظر دورنا في طابور طويل للإدلاء بأصواتنا آملين أن تحقق شيئا مما نصبوا إليه .