هل يتعلق الأمر بقوى خفية تعمل في اتجاه  إعاقة كل محاولات تشكيل حكومة يرأسها الحزب الحائز على الشرعية  الانتخابية، سعيا من هذه القوى نحو توفير شروط تسمح لها بالانقلاب على هذه الشرعية، تحت ذريعة عجز رئيس الحكومة المعين عن تجميع أغلبية مريحة تمكنه من بناء حكومة الولاية الثانية، أم يتعلق الأمر بتعثرات عادية ومألوفة في التقاليد الديمقراطية ، حينما تلجأ كل الأطراف لوضع شروط ضامنة لحسن الاصطفاف الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بعد حوار ومفاوضات و توافق و معارضة  وغيرها من المفاهيم التي تصنع الحياة السياسية في أفق التوصل إلى اتفاقات و التعبير عن اختلافاتها و معارضتها؟            

 يرى فريق من المتتبعين أن سبب هذا التعثر الذي طال أمده يكمن في غياب الوعي الكافي لدى الماسكين الحقيقين بسلطة القرار بما تقتضيه الديمقراطية من إقرار بما تسفر عليه  صناديق الاقتراع التي تعبر عن الإرادة الشعبية ، إذ لا زالت قوى التحكم غير قادرة على إخراج صناعة القرار من  دائرتها، و تسليمه لمن يمثلون الشرعية الانتخابية،و ذلك على الرغم من كون هذه القوى قبلت بقواعد اللعبة الديمقراطية  و عملت على تسويقها و استثمارها من أجل تحسين صورة البلد داخليا  وخارجيا. كما عملت في سياق ذلك على إبداع مفاهيم جديدة من قبيل الاستثناء المغربي الذي يعني من بين ما يعنيه، التفرد و التميز وسط محيط يعاني كما هائلا من الأعطاب على أكثر من صعيد، وتبعا لذلك يعتبر دعاة هذه الأطروحة أن أصل الخلل يكمن في هذه الازدواجية التي تطبع تعامل قوى التحكم، إذ لا زالت مترددة تراوح مكانها لا تملك القدرة ولا الإرادة من أجل القطع مع العادات القديمة التي يفترض أن مغرب ما بعد 2011 قد تجاوزها بدون ردة، كما أنها لا زالت غير قادرة على المغامرة لولوج عهد جديد يطبعه الوضوح والشفافية الكاملين، و ما يفتضيه ذلك من احترام للمنهحية الديمقراطية ككل لا يتجزأ ، ومهما كانت كلفة ذلك على مصالحها، ساعدها على ذلك مشهد سياسي تؤثته أحزاب انتخابية  وضعت نفسها -ومند نشأتها وتطورها ووصولا إلى ما هي عليه الآن- رهن إشارة هذه القوى المتحكمة في اللعبة الساسية كأحزاب عند الطلب و لا تستطيع أن تتخذ من القرارات إلا ما هو مهموس لها به من طرف هذه القوى، وآية ذلك ما نراه اليوم من مواقف تكاد تكون متماثلة بهدف واحد هو تعطيل عملية البناء الحكومي لأطول وقت ممكن إما من أجل الابتزاز أو الانهاك أو العقاب إن لم يكن الانقلاب على الشرعية الانتخابية.                                                                              

أما فريق آخر فيعتقد أن السبب في هذا التعثر الذي طال أمده يعود بالدرجة الأولى إلى خلل في التواصل، وتدبير الاختلاف،ذلك أنه إذا جاز نعت من اشترطوا شروطا قبل الدخول إلى حكومة الولاية الثانية يالقوى المعطّلة التي تضع العصا في العجلة سعيا منها إلى إفشال عملية البناء الحكومي، جاز القول كذلك في نظر هذا الفريق بان أكبر عائق أو خطأ سياسي تم ارتكابه هو المسارعة إلى الإعلان عن تعاقدات قبل الأوان وقبل أن تنكشف الخريطة السياسية و قبل أن تظهر نتائج استحقاقات كان من المتوقع أن تحمل مفاجآت فضلا عما تعانيه من أعطاب على رأسها ظاهرة العزوف الانتخابي التي جرت العادة أن تؤثر في كل الاستحقاقات الانتخابية و تحول دون إفراز خريطة واضحة المعالم تسمح بشكل سلس ببناء أغلبية حقيقية تعبر فعليا عن الإرادة الشعبية،و بناء عليه يطرح دعاة هذا الراي السؤال التالي : ألا يحق لحزب شريك في الولاية الأولى يعترف رئس حكومتها بخدماته وكفاءته ومن تمة الحاجة الماسة لبقائه في الولاية الثانية ، ألا يحق له أن يختار بدوره فريق العمل الذي سيواصل معه استكمال الأوراش التي بدأها وأن يرفض تبعا لذلك كل من وقفوا أمام هذه الأوراش و من شككوا في صدقيتها و قللوا من أهميتها ووصفوا الحكومة المؤطرة لها بأرذل النعوت؟ و بماذا نفسر يقول هؤلاء هذا الحماس الغير مسبوق في العودة إلى حكومة آل رئيسها المعين على نفسه أن يواصل السير على نفس النهج لاستكمال  الإصلاحات التي كانت السبب في تفجير الأغلبية و مغادرة السفينة الحكومية السابقة في نسختها الأولى بدعوى لا شعبية هذه الإصلاحات، بل اعتبارها تخدم أجندات خارجية يتعذر على حزب وطني أن يعمل على تزكيتها و أحرى أن يتحمل مسؤولية المشاركة في تنزيلها؟ فكيف إذن لهذا الحزب الوطني أن يتمسك اليوم وبكل قوة و بدون شروط بالمشاركة في استكمال الإصلاحات التي  رفضها بشكل قاطع بالأمس القريب، و التي كانت سببا في انسحابه الشهير؟                                                                            

إلا أن فريقا ثالثا يعتبر الموقفين معا وإن ظهرا من حيث الشكل أنهما متعارضين إلا أنهما يصدران عن تصور ومنطق موحد في التفكير يشكل قاسما مشتركا بينهما، و هو التمسك بالسلطة أو السعي نحوها ليس بغاية الإصلاح كما يدعي كل فريق ، وإنما من أجل السلطة نكاية في بعضهم البعض ، ولحسابات ذاتية بعيدا عن كل إحساس بحجم المسؤولية الثقيلة التي تترتب عن الالتزام بمباشرة المعضلات الكبرى من تعليم وتشغيل و صحة وسكن.  وآية ذلك أن شعار الإصلاح الذي يرفعونه جميعا لم تعد له أية جاذبية وفقد بريقه بفعل فشلهم الذريع في مواجهة المعضلات الاستعجالية التي آل كل فريق على نفسه مواجهتها في كل الاستحقاقات السابقة وآخرها ما يصطلح عليه التناوب الثاني الذي برز في سياق حراك اجتماعي طالب بمحاربة الفساد والاستبداد ، وهو الشعار عينه الذي رفعه الحزب الحائز على الشرعية الانتخابية لما بعد دستور 2011، وبعد أن التزم إبان الحملة الانتخابية السالفة بتفعيل هذا الشعار في حالة فوزه ليجد نفسه أمام إكراهات اضطرته إلى الاعتراف بكونه أصبح في وضعية دفاع ضد الفساد، عوض محاربته كما تعاقد على ذلك مع من راهنوا عليه كحزب جديد قادر غلى الاضطلاع بما لم يستطعه كل من تعاقبوا على السلطة خلال أربعة عقود من الزمان على الأقل، وليجد نفسه عوض أجرأة الثالوث الذي رفعه الحراك المذكور “حرية – كرامة – عدالة اجتماعية” ، يجد نفسه أمام خيار وحيد وهو اتخاذ قرارات مؤلمة على أكثر من صعيد، مست بالكرامة وحدّت من الحرية وأضرّت كثيرا بالعدالة الاجتماعية ، ويقدم هؤلاء أمثلة عديدة على هذا الهجوم الشرس على المكتسبات خلال الولاية الحكومية الأولى، والتي لم تجرأ على اتخاذها أيا من الحكومات المتعاقبة . وبعودة سريعة بالذاكرة إلى العقد الأخير فجميع الراغبين في كراسي السلطة اليوم قد تعاقبوا عليها خلال هذه العشرية وهم أنفسهم من يحاولون إما التمسك بها أو العودة إليها مجددا رغم اعترافهم بفشلهم وعجزهم عن تحقيق الحد الأدنى من الإصلاح المطلوب، الأمر الذي يفسر هذه الأزمة باعتبارها نتيجة حتمية لواقع تجربة تحمل أعطابها البنيوية في ذاتها، وتفتقر إلى المشروعية الأخلاقية التي بدونها لن تقوم قائمة لأية شرعية قانونية .