استمعت باهتمام شديد لجميع كلمات المتدخلين والمتدخلات (27 مداخلة) الذين شاركوا وشاركن في الندوة الفكرية “الحوار وضرورة البناء المشترك” المنظمة من طرف جماعة العدل والإحسان.

لما ألقى المعطي منجيب كلمته “آفاق الحوار” طارحا أسئلة موجهة لجماعة العدل والإحسان قام بتجميعها بعد ملاقاته ببعض ممثلي اليسار الديمقراطي بالمغرب (ما هي استراتيجيتكم السياسية؟ هل يمكن تحقيقها مع النظام الملكي أم يجب إطاحة هذا النظام؟ ماهي منهجيتكم في التغيير؟ ماهو مشروعكم المجتمعي؟ هل تعترفون بمبدأ الحريات والمساواة ؟)، كانت أغلبية ردود المتدخلين المنتميين للجماعة مبنية على خطاب واحد، هو أن هذه الأسئلة عبارة عن ملاحقة فكرية لن تفضي إلى نتائج وأن الحوار يجب أن يكون حول القضايا ذات أولوية والحقيقية المتعلقة ببناء الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والتعليم، والصحة، والشغل.

واخا ! وهل تظنون أنه يوجد مواطن مغربي واحد يستطيع يقول عكس هذا؟ لا أظن ذلك. الكل متفق على أنه من الضروري الانتقال إلى الديمقراطية، وترسيخ عدالة اجتماعية، وإصلاح المنظومة التعليمية، وإصلاح الصحة، وخلق مناصب الشغل … لكن عن أي مشروع ديمقراطي تتحدثون يا إخوان؟ هل تتلخص الديمقراطية في صناديق الاقتراع وفي ديكتاتورية الأغلبية؟ ما موقفكم من العدالة الاجتماعية (العمودية، المبنية عل تقليص الفوارق الطبقية والأفقية المرتكزة على المساواة بين الجنسين)؟ نعم يجب إصلاح المنظومة التعليمية، لكن ما هو المشروع المجتمعي الذي نطمح لتدريسه لأبناء وطننا؟ .. سامحوني يا إخوان، لا يمكن أن يكون هناك حوار تحت شعار “كم من حاجة قضيناها بتركها”، فهذه ليست أسئلة مطروحة فقط لإثارة الجدل بين الطرفين، بل هي أسئلة جوهرية من أجل الحوار والبناء المشترك الذي يجب أن يكون مبنيا على الوضوح.

في نظري الجد متواضع ونظرا لتجربتي الجد متواضعة من داخل حركة “20 فبراير” (اللي كانت متواجدة فيها جماعة العدل والاحسان)، أنطلق من فكرتين أساسيتين. الأولى هي أن الفكر ليس ثابت وأنه بفضل الحوار وتقبل الاختلاف يمكنه أن يتطور. الثانية، لا حوار ممكن دون تصور واضح وضوح الشمس يجيب على جميع النقط التي سبق ذكرها، “الأولوية” منها و”الثانوية”. رغم أنني لست من دعاة من يصنفون الإصلاحات. فالنضال من أجل العدالة الاجتماعية والحقوق لا يتجزأ، هما وجهان لعملة واحدة. فالتاريخ شاهد على أن تجربة الاتحاد السوفيتي كانت مبنية على أولوية العدالة الاجتماعية على حساب الحقوق (المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية) والحريات (الجماعية والفردية) وكانت المرأة أكبر متضررة من الفقر، البطالة، والتهميش، لكون العقلية الذكروية مهيمنة آنذاك. من جهة أخرى، نجد السيناريو الآخر المتعلق بتجارب عدد من الدول الليبرالية التي فضلت بناء مشروع ليبرالي اقتصاديا مبني على احترام الحريات على حساب العدالة الاجتماعية، فنشأت عن ذلك فوارق اجتماعية جد مهمة وكانت الطبقة الفقيرة أكبر متضررة من الفقر والبطالة والتهميش.

فلما أراد كل من “إدغار موران” (اليساري) و”طارق رمضان” (الإسلامي) أن ينشروا كتاب “Au péril des idées” على سبيل المثال، قاموا بفتح حوار حقيقي من أجل “البناء المشترك” ولم تكن هناك محاور ذات أولوية وأخرى هامشية، وكان حوارهم حول المعتقد، والاختلاف، والعدالة الاجتماعية، والديمقراطية، والارهاب؛ والعولمة، والتعليم، والأسرة، ومكانة المرأة في المجتمع، والفلسفة، والفن، وحقوق الأقليات، والحريات الفردية .. وأعتبر شخصيا هذا الكتاب من أجمل ما قرأته لكون الطرفين، رغم اختلافهما، قاموا بتحليل موضوعي حاملا حقيقة نسبية لكل واحد منهما في وضوح تام لمواقفهم المختلفة أحيانا والمنسجمة أحيانا أخرى، بدون طابوهات ولا لغة خشب.

صحيح أنه من الضروري أن تساهم جميع نخبنا السياسية والاقتصادية والفكرية في خلق حوار من أجل مشروع نهضوي جديد جوهره الديمقراطية وثوابته العدالة الاجتماعية وحماية حقوق الانسان. لكن ومن أجل تحقيق ذلك، يجب على التنظيمات اليسارية أن تخرج من ماضيها الحنين وأن تطور عملها الجماهري أولا كي يكون لها وزن داخل هذا الحوار. لأن الواقع هو أن جماعة العدل والإحسان تنظيم حقيقي له قاعدة جماهرية واسعة التي من الممكن أن يسمع بها صوته ويغير بها موازين القوى. والعمل السياسي لا يرحم، إما أن تكون لك قوة جماهرية أو لا تكون. ومن جهة أخرى، لا بد أن توضح جماعة العدل والإحسان تصوراتها السياسية والمجتمعية مع الشعب المغربي. وإلا فلن يفيد الحوار في شيء وسيتحول إلى استنطاق فكري من الطرف الآخر في محاولة منه أن يفهم ما يمكن فهمه .. وضاحو معنا أ الإخوان !