التعليم حق وليس امتيازا
إن أحسن ما يمكن أن تفتخر به الحضارة المعاصرة، هو الاعتناء بالقضايا الاجتماعية والإنسانية وكذا استعمال الضوء الأحمر لتنظيم حركة السير على الطريق. قد يحدث أن يقود إنسان سيارته على الساعة الرابعة صباحا ويتوقف عند إشارة الضوء الأحمر رافضا خرق القانون رغم خلو الطريق من السيارات. فلماذا يقوم بهذا السلوك؟ وماذا يريد أن يحترم بواسطته؟
آراء أخرى
إن المرور غير ممتنع، إذ ليس هناك شرطي، بل يمكنه المرور دون أن يراه أحد. لا يحترم هذا الفرد الضوء الأحمر في حد ذاته، وإنما يحترم وجودا افتراضيا. فالضوء الأحمر يرمز إلى وجود افتراضي لشخص غير موجود هناك في مفترق الطرق. ونفس الشيء ينطبق على العناية بالشؤون الاجتماعية للأفراد. إنها نوع من الاحترام للوجود الافتراضي للآخر، بل نوع من الاحترام للوجود. إن هذا المبدأ رائع، حتى وإن كان تطبيقه من قبل الإدارة عبثا في بعض الأحيان. ويعتبر القضاء على هذا المبدأ كارثة حضارية، إذ بذلك ستقضي الرأسمالية المتوحشة على الإنسان.
يجب أن يجد الطفل عند ولادته سندا ومأوى ورعاية. فإذا فقد أبويه الطبيعيين أو لم يكن في مستطاعهما تلبية حاجاته، أو إذا امتنعا عن ذلك، فمن واجب الدولة أن تحل محلهما. وقد يعادل حرمان الطفل من هذا الحق الحكم عليه بالإعدام. وإعدام البريء هو ما تقشعر له كل النفوس! ويعد الحفاظ على الحياة الحيوانية فقط للطفل غير كاف. فللطفل مصالح أسمى بكثير من تلك المتصلة بوجوده البدني. قد يقبل أحيانا غض الطرف عن مطالب حياته الطبيعية، لكن لا يمكن إهمال المصالح الأسمى الخاصة بشخصيته.
وإذا كان الطفل في حاجة إلى الغذاء .. لتجنب الهلاك، فإن فيه حاجة أسمى إلى المعرفة لحفظه من الخطأ وما يجره من نكبات على ذاته وعلى محيطه الحضاري والطبيعي. وإذا كان الطفل في حاجة إلى المسن لحمايته من العوامل المهلكة، ففيه حاجة أسمى إلى العلم والمعرفة لكي يفلت من الفقر والإسفاف والتردي والجريمة… وبناء على هذا، فإن الذين يتخلون عمدا عن إعالة طفل حديث الولادة فيموت، مذنبون بقتله. وبنفس الاستدلال، فإن أولئك الذين يرفضون تنوير عقل الجيل الناشئ مذنبون بالحط من الجنس البشري! وأولئك الذين يأبون تعليم الأطفال وتكوينهم، إنما يعدون الحرائق والمجانين لتحطيم الحياة ولانتهاك مقدسات المجتمع وتدنيسها!. وفي كلمة واحدة: إذا كان الذهن يشكل جزءا جوهريا من الوجود الإنساني مثل البدن على حد سواء، فإن الاستعدادات العقلية تتطلب أثناء فترة الطفولة غذاء لا يقل ضرورة عما تتطلبه حتما الحاجات البدنية.
إذا كان قتل الأطفال محرما، فلا يكتمل الحفاظ على حياتهم الطبيعية، بدون القيام برعايتها وحمايتها لنجعل من وجودها فيما بعد وجودا له فائدة، لا يمسه الفقر ولا الرذيلة .. وهكذا نخلص إلى نتيجة واحدة لا يمكن تجنبها: يجب إيجاد الوسائل التي تنقد حياة الطفل من أن تكون خرابا لذاته ولعنة على مجتمعه. وفي هذا برهنة على الحق المطلق لكل كائن إنساني يخرج إلى الوجود، في التعليم. ومن تم يكون التعليم حقا وليس امتيازا.
يعد التعليم سلاحا ضروريا ولازما للإنسان في المجتمع الحديث، وكلما تزود الإنسان بالأسلحة الضرورية، كلما كان قادرا على أن يصنع حياته، وأن يرقى ويتقدم. وتستوجب الحياة المعاصرة من الفرد أن يكون مبدعا وممتلكا للقدرة على التكيف المستمر مع مختلف التطورات والفعل فيها، وقادرا على العمل مع الآخرين، فالأمية إحدى كبريات مشكلاتنا في سبيل تطوير مجتمعنا على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وإذا كان للتعليم والتكوين دور كبير في زيادة الإنتاج، فإن له أهمية قصوى في ممارسة الإنسان لحقوقه ووفائه بمسؤولياته، إذ لاشك أن المعرفة تعد من الأدوات الأساسية في تحقيق شروط المواطنة ومسؤولياتها في المجتمع الحديث.
يتم تمويل التعليم العمومي في المغرب من الميزانية العمومية، وعندما نتأمل في البنية الضريبية لبلادنا، نجد أنها تتكون في أغلبها من الضرائب غير المباشرة والضريبة العامة على الدخل التي يؤديها موظفو القطاع العمومي وبعض مستخدمي القطاع الخاص. أما مترفو هذا البلد. فإن أغلبهم يمارسون التهرب والغش الضريبيين.
ويكفينا هنا أن نؤكد أن المعرفة عاملا من العوامل الهامة في إزالة الفوارق بين الفئات والطبقات الاجتماعية وفي استمتاع المواطنين بمصادر الثقافة والمعرفة والفن. ويعد استفحال الأمية في بلادنا عاملا من عوامل العبث بالحياة الديمقراطية وحقوق الإنسان، إذ قد يسهل على أعداء الديمقراطية إحكام السيطرة على المجتمع من خلال تجريد الإنسان من أسلحة كنيرة من بينها المعرفة.
وهم يقصدون بذلك “L’ecole communale”، لقد لجأ بعض الناس في السنين الأخيرة إلى الحديث عن المدارس الجماعية أو الترابية. وهم يقصدون بذلك تسليم المدارس إلى الجماعات المحلية متذرعين بضرورة إشراك ”ممثلي السكان” في ”تدبير” شؤون التعليم، لكن هذا الكلام لا يخلو من خداع، بل هو الخداع ذاته، إذ يعني هذا تملص الدولة من تمويل التعليم وتركه للجماعات المحلية التي ستفرض ضرائب إضافية على السكان بحجة تحملها الإنفاق على التعليم. وهكذا ستتخلص الدولة من تمويل التعليم، وسيقال للمغاربة: ”إن ممثليكم الذين تم اختيارهم من قبلكم، هم الذين يقررون في تعليم أبنائكم..”. لكن، إذا كانت التربية تقتضي حرية حتى تكون مثرية، فهل تستطيع الجماعات المحلية توفير شروط ذلك؟ أليست هي ذاتها في حاجة إلى التحرر من الوصاية المفروضة عليها؟ ألا يتم تسيير أغلب الجماعات المحلية من قبل أميين هم دمى في أيدي من وضعوهم على رأس هذه المؤسسات؟ ألا تشوب الانتخابات في بلادنا عيوب كثيرة وكبيرة؟
لقد أدى انكشاف عيوب هذا الخطاب إلى انتقال هؤلاء الناس إلى الحديث عن مدرسة الجماعية السكانية، وعللوا ذلك بضرورة المشاركة المباشرة للسكان في تدبير شؤون التعليم. وعندما يتأمل المرء في مقاصد هذا الكلام يجده مناقضا بدوره لفكرة الديمقراطية، بل يرمي إلى تمكين الدولة من تخلصها من مسؤوليتها على التعليم وجعل السكان يمولونه. أضف إلى ذلك أنه تنازل للدولة على التعليم لصالح القبائل والطوائف .. وهذا ما ستنجم عنه كوارث كبيرة.
يتم تمويل التعليم العمومي في المغرب من الميزانية العمومية، وعندما نتأمل في البنية الضريبية لبلادنا، نجد أنها تتكون في أغلبها من الضرائب غير المباشرة والضريبة العامة على الدخل التي يؤديها موظفو القطاع العمومي وبعض مستخدمي القطاع الخاص. أما مترفو هذا البلد. فإن أغلبهم يمارسون التهرب والغش الضريبيين. وهكذا فإذا كان التعليم العمومي يمول بالمال العمومي، فإنه يمول من قبل الفئات المتوسطة والدنيا بواسطة الضرائب المباشرة وغير المباشرة. كما أن أبناء الطبقات العليا قد شدوا الرحال منذ سنين إلى المدارس الخصوصية التابعة للبعثات الأجنبية أو التي يمتلكها مغاربة.
وإذا كان البعض يروج أن أبناء الموسرين هم الذين يستفيدون من التعليم الثانوي العمومي، فإن هذا مجرد ادعاء لا علاقة له بالواقع، اللهم إلا إذا كانوا يعتبرون متوسطي الموظفين وصغارهم، والتجار الصغار والحرفيين.. موسرين. وهل يمكن اليوم اعتبار موظف في السلم العاشر موسرا؟ ألم يسبق لإحدى الحكومات السابقة أن اعتبرت كل من يمتلك دخلا يناهز الثلاثة آلاف درهم شهريا موسرا، واعتمدت ذلك مقياسا لحرمان أبنائه من الاستفادة من منحة التعليم العالي.
وهكذا حرم فقط أبناء الموظفين الصغار.. من المنحة، أما الملاك الكبار فقد حصلوا على المنح لأبنائهم، وذلك راجع إلى الإعفاء والتهرب الضريبيين والفساد الإداري. إنه لم يبق في المدرسة العمومية سوى أبناء الطبقات الدنيا التي لا تستطيع تلبية تكاليف التعليم الخصوصي. ومادام المواطن يؤدي الضرائب المباشرة وغير المباشرة، ويتحمل يوميا وبشكل مباشر جزءا من نفقات تمدرس أبنائه (اقتناء الأدوات المدرسية، النقل..)، فلا يمكن قبول الفكرة الشائعة التي يدعي أصحابها أن بلادنا تطبق مبدأ مجانية التعليم. وما دام المواطن المغربي يؤدي ثمن تعليم أبنائه فلا يمكن أن يستخلص منه ذلك مرة ثانية من خلال فرض رسوم عليه ليتمكن أبناؤه من ولوج المدرسة العمومية. إنه عاجز عن القيام بدلك ولا تسمح أسر التلاميذ الدين يوجدون في المدرسة العمومية حاليا بذلك.
وهكذا سينتج عن فرض رسوم في المدرسة العمومية، إقصاء أغلبية المغاربة من المدرسة، الشيء الذي يؤدي إلى الإقصاء الاجتماعي. فليس هناك مكان لغير المكونين في عالم اليوم، ولا يمكن للجهل أن يحل أزمتنا الاقتصادية أو مشكل بطالة حملة الشهادات إذ ليس الداء دواء. أضف إلى ذلك، أن مزاولة الدراسة بالتعليم الأساسي وحده لا تضمن اليوم تعلم القراءة والكتابة والحساب .. وبالتالي لتؤهل التلميذ للنجاة من الأمية والحصول على منصب شغل .. وهكذا لن تساعد على حل المشاكل التي نعاني منها الآن أفرادا ومجتمعا. بل إنها ليست كافية للتكيف مع معطيات المجتمع المعاصر..
وإذا تم فرض رسوم على التسجيل في المدرسة العمومية، فيعني هذا أن بلادنا ستتخذ الجهل أساسا لسياستها التعليمية، ولن ترفعه إلا عن عدد ضئيل من الأفراد كل سنة، وستبقي على أغلبيتهم في الغفلة والانحطاط. وبالتالي فذلك يعني تعميق التفاوت الطبقي، حيث يغدو تحصيل العلم أداة للتسلط الاجتماعي والسياسي تستحوذ عليه فئة محدودة العدد وتتخذه وسيلة لتسلط الأقلية على الأغلبية. ومعنى ذلك أن هذه الأقلية هي التي ستحتكر الحقوق الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية. وهكذا تكون الحياة النيابية-إضافية إلى ما يشوبها من عيوب – مظاهر لا تدل على حقيقة الأشياء وألفاظا لا غناء فيها ولا جدوى منها.
فلا تتعايش الديمقراطية مع الجهل إلا إذا كانت قائمة على الكذب والتضليل. ولا تتفق الحياة البرلمانية مع الجهل إلا إذا كانت قائمة على العبث .. والديمقراطية تعني من بين ما تعنيه، تثقيف المجتمع حتى يكون بوسعه أخذ أموره بحزم وتصريفها عن دراية وبصيرة وحتى يصبح في مأمن من أي تضليل ولا ينقاد إلى الشر كلما أريد دفعه إليه.
ولا يمكن الجمع بين الاقتناع بالديمقراطية والرغبة في تضييق مجال التعليم وحصره في فئة محدودة فقط. فلا توجد الديمقراطية مع الجهل والغفلة، إنها توجد مع الأفراد المثقفين الذين يعرفون حقوقهم ويصرون على الاستمتاع بها، ويعرفون ما عليهم، فينهضون به ويؤدوه كاملا وبطواعية. وإنه لمن السخرية حقا أن يقال: أن الناس يختارون ويقررون وأن يعتقد أن هذا الكلام يدل على شيء في بلد أغلبيته جاهلة غافلة وأقلية مثقفة.
تحولت أعداد متزايدة من الشباب المغربي إلى مستهلكين للإقصاء من التمدرس والتكوين الشيء الذي يقود إلى إقصاءات اجتماعية وسياسية وثقافية واقتصادية. وتزداد هده الإقصاءات خطورة بالعجز الاجتماعي لأغلبية الأسر. فهذه الأخيرة نفسها غير مندمجة في النسيج الجماعي، إنها ذاتها مقذوف بها إلى الهامش الاجتماعي. وهذا النوع من المجتمع قاس، لأنه يحرم فئات اجتماعية عريضة من حقها في المواطنة. كما أنه يولد لدى هؤلاء المقصيين إحساسات بالحرمان والتهميش الاجتماعي والاحتقار الشخصي والخروج عن المجتمع. وهذا ما ينتج عنه الحقد بسرعة.
لا يحدث الانسجام داخل المجتمع من جراء هذا الإقصاء، ولا بد من توفير الشروط ليستفيد كافة أبناء المجتمع من خيرات بلادهم ويختلطوا فيما بينهم. فالتفرقة تخلق جهل الإنسان بالإنسان، الشيء الذي ينتج بدوره استيهامات لدى كل واحد. إذ ستخاطب كل ذات قائلة :”إن الآخر يختلف عني كثيرا، إذن فهو خطير ”ويعد هذا من بين الأسباب التي تؤدي إلى ميلاد العنف. إن التعلم يؤدي إلى معرفة الأخر واحترامه. فلا الكتب وحدها قادرة على إنجاز هذا، ولا المدرسون الجيدون قادرون على مكافحة هذا الجهل الناجم عن الفروق الاجتماعية التي تنخر جسد مجتمعنا.
وأخيرا، ألا يتناقض فرض الرسوم على التعليم العمومي مع مبدأ تعميمه؟ وهل التحديث أخ للجهل؟ ومتى قامت دولة الحق والقانون على أقوام أمية؟ وهل الجاهل قادر على التعاقد؟ ألا يباع الجاهل ويشترى؟ وإذا كان الجاهل يبيع نفسه فما الذي يمنعه من بيع أبنائه ووطنه؟ وهل يتعايش الاستقرار السياسي مع الجهل؟ أليست البلدان المستقرة سياسيا هي البلدان التي يتوفر مواطنوها على مستوى ثقافي رفيع؟ أليست المشروعية الاقتصادية والاجتماعية ضرورية للحاكمين؟ ألا يمنح ضرب المكاسب الاجتماعية للمواطنين وفرض رسوم على تعليم أبنائهم وجها ضريبيا لدولة؟
ليس الجاهل عرضة فقط لأن يكون ضحية للمستبد، بل يكون هو ذاته مستبدا بالقوة. وبما أنه لا يعرف إلا حقه ورغباته الآنية. ولا يمتلك حدا أدنى من معرفة الأخر ووجهة نظره، ونظرا لأنه هو الطريقة التي تمكنه من معرفة الأخر ووجهة نظره، ونظرا لأنه هو نفسه ضحية للعنف، فإنه ينزع كلما أتيحت له فرصة التفوق على الآخرين إلى قهرهم واستعبادهم. وبما أنه يضيف إلى رؤيته الضيقة رغبته في الانتقام والإقصاء والتعصب، أو ببساطة رغبته في الهيمنة، فإنه يبقى متوحشا، بل يصير أكثر السادة قساوة وطغيانا. يقول كوندورسيه ”ليس الجاهل المتحمس إنسانا، إنه أكثر الحيوانات المفترسة فظاعة” (1984).
ينجم عن العلاقة بين العبد والمستبد جهل خطير. فالعبد مقهور لكونه أعمى، وكون المستبد ممتلكا لمعرفة جد ضئيلة، يجعله قاهرا. وتحول بلاهة المقهور دون فهمه أن الحرية والحق والعدالة أشياء مفيدة له. كما يكون السيد غير متنور ليدرك أن سحق كائن يمتلك عقلا هو حساب خاطئ، فكل واحد منهما مفترس للأخر ولذاته، وكلاهما مفترس لكافة أعضاء المجتمع.
والسؤال الذي يطرح نفسه :كيف يمكن أن تساس المدينة عندما يستفحل الجهل وتغيب الطمأنينة وتنعدم الثقة، وتسود الريبة والرعب والمعاناة من الاحتقار..؟