غالبا ما تعتمد وزارة الداخلية، ومن ورائها مدبّري القرار داخل الدولة، سياسة التعمية بدل التنمية؛ ذلك أن هذه الجهات تعرف جيدا العزف على الأوتار التي يهتزُّ لها الرأي العام، وتجعله يتبع سمفونياتها، دون إعمال للعقل أو استحضار للشرع. فما الداعي إلى إصدار هذا القرار في هذا الوقت بالذات؟ وإلى أي حد نجحت أم الوزارات في توجيه الرأي العام إلى معركة وهمية عنوانها “البرقع والنقاب”؟ 

   فمنذ أن أصدرت الوزارة قرارها، تعالَت الأصوات، وسال مداد الكثير من الأقلام، وكثُر القيل والقال؛ إلى أن أصبح الحديث عن البرقع والنقاب حديثَ المجالسِ في المقاهي والحافلات، والأُسَر والعائلات، وعلى صفحات الجرائد والمجلات، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي داخل الفضاء الأزرق؛ لتكون المُحصّلة النهائية لكل ذلك، بروز أصوات وجهات مُؤيِّدة للقرار ومُدافِعة عنه بالحجج والبراهين، في مقابل أصوات وجهات رافضة للقرار وطاعِنة فيه بالأدلة والبراهين. وكِلا الفريقيْن مُتشبِّت برأيه ومُنافِح عنه انطلاقا من قناعاته الراسخة، وأدِلّته الدامغة التي اطمَأنّ إليها قلبه طبعا.

  والحقيقة أن هذه المسألة، قد حُسم القول فيها شرعاً منذ قرون من قبل علماء الأمة، وأصبح العلم بأحكامها من قبيل ما يُعرف من الدين بالضرورة؛ إذ أن جمهور العلماء أجمع على أنه لا يظهر من المرأة إلا الوجه والكفّيْن، وأن القِلة من العلماء الذين أخذوا بوجوب النقاب لهم أدلتهم المعتبرة التي يستندون إليها. فلماذا نُناقش أمرَ مسألةٍ قُتِلت بحثا، والحُكم فيها واضح لا لَبس فيه؟ ومن جهة ثانية؛ فإن مسألة الزّيّ وحرية الفرد فيه، محسوم أمره في القوانين الدولية ولدى الجمعيات والمنظمات الحقوقية، التي تُجمع على حرية الأفراد في هذا المجال. 

  ثم إن نمط اللباس المُتجادَل بشأنه ليس وليداً لليوم أو الأمس، وغير مرتبط بدولة بعينها، أو جهة دون أخرى؛ بل إنك تكاد تلحظه في جميع دول العالم، فقد اخترق جميع الحدود الجغرافية؛ لتُصبح جنسيتة عالمية. فهل يا تُرى سيتم منع الأمريكية المنقبة، والألمانية صاحبة البرقع وغيرهما، من النزول بهذا الزي في مطارات المملكة؟ أم أن المنع مرتبط فقط بالجنسية المغربية؟ 

إن نمط اللباس المُتجادَل بشأنه ليس وليداً لليوم أو الأمس، وغير مرتبط بدولة بعينها، أو جهة دون أخرى؛ بل إنك تكاد تلحظه في جميع دول العالم، فقد اخترق جميع الحدود الجغرافية؛ لتُصبح جنسيتة عالمية.

  إن الجواب عن هذا السؤال الأخير وأسئلة أخرى مرتبطة به؛ سيجعلكَ تُدرك أن المُستهدَف الأول بقرار المنع هو الرأي العام المغربي، وأنّ المُقاربة الأمْنية التي يتذرَّعون بها، إنما هي حق أُرِيد به باطل؛ ويكون الهدف من ذلك ليس المنع لذاته؛ وإنما منع المغاربة – إلى حينٍ – من التفكير في الأمور المصيرية المرتبطة بحياتهم اليومية، من قبيل تحسين ظروف العيش ونوع التعليم ونمط العلاج، وتوسيع هامش الحريات، ورفع التهميش، وحُسن توزيع الثروات، وغير ذلك..

 فلا تحسبنّ الساهرين الحقيقيين عن شؤون الدولة في غفلة من أمرهم، أو أنهم يتركون الأشياء للصُّدف؛ لا وألف لا، إنهم يَقيسون نبض الشارع باستمرار، ويَستوردون أحدث النظريات الغربية، ويَستعينون بالخبراء الذين يفترضون الفرضيات ويخضعونها للتجربة العلمية؛ ليتم توظيف واستثمار النتائج التي تخدم مصلحتهم، واستبعاد ما تعارض منها مع مصالحهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

   وإذا استحضرنا لُبّ الموضوع الذي اختارته الجهات المعنية، لتعزف سمفونيتها عليه في هذه اللحظة؛ ستجده يحمل دلالات عميقة مرتبطة بالدين، والمرأة، والإرهاب، والأمن، وهامش الحريات وغيرها. وأنتَ تعلم تأثير هذه العوامل في المجتمع المغربي الذي يعاني من ويْلات الأمية والتهميش، والمرتبط أشدّ الارتباط بجذوره التاريخية وبهويته الثقافية، وفي الوقت نفسه بانفتاحه على الآخر؛ فلا شك أن قرارا كهذا سيجعل جميع أطياف الشعب تتحدث عنه، وجميع المنابر الإعلامية تسلط أضواءها عليه؛ حتى يصير حديثا للساعة كما يقال. وهو الأمر الذي يُمكّن الجهات التي تقف خلف هذا القرار من ربح المزيد من الوقت؛ من أجل تمرير سياساتها المرتبطة بحاجات الأفراد الاجتماعية وبواقعهم المعيش. وما الزيادات الصاروخية في أسعار المحروقات وبعض المواد الغذائية، وضرب مجانية التعليم العمومي والصحة العمومية، ومهزلة انتخاب رئيس مجلس النواب وما سبقها مما يُسمّونه بـ”البلوكاج” الحكومي؛ منك ببعيد. 

   والطامة الكبرى، أن تجد فئة من المثقفين والعلماء، قد انساقوا فعلا وراء هذه الأساليب وسخروا أقلامهم، بين مزكٍّ أو معارض لها. بل إنك تجد من يدعو العلماء المتبصرين الذين التزموا الصمت، بالإدلاء بدلوهم في الموضوع لخلق المزيد من الإثارة حوله. وهو الأمر الذي لن ينجحوا فيه؛ لأن علماءنا ممن تفتّقتْ بصيرتهم وكثُر علمهم وصلُحت أخلاقهم، لا يتبعون كل صيحة، ولا يميلون حيث تميل الرياح؛ بل إنهم يَجمَعون بين الشرع الصريح والعقل السديد، ويَعملون على جلب المصالح ودرء المفاسد، وغيرها من الآليات التي تجعلهم يترفّعون عن الوقوع في كل ما من شأنه أن يُثير الفتنة أو يكون سببا إليها. 

  إن المجتمع المغربي لن يطال شيئا من هذه المعركة الوهمية؛ لأنه بكل بساطة لن يجني من ورائها ثمرةً تُذكر، ثم إن أشياءً من قبيل: الزي والكرة والمهرجانات وجلسات البرلمان وغيرها، تُعتبر من الوصفات الدسمة، التي تُقدَّم لنا على فترات متفرقة؛ لنتبادل الحديث عنها في مختلف الوضعيات الحياتية، دون أن نظفر منها بشيء، ليبقى النصر حليفا لهم؛ لأنهم ينجحون في توجيهنا الوجهة التي يريدونها، متى شاؤوا وأنى شاؤوا؛ أما الخسارة فهي من نصيبنا دائما، إذ نفقد أعصابنا ويرتفع ضغطنا، وعوض أن نتحد ضد الظلم والفساد، يُصبح بأسنا بيننا شديدا..

   فكما هو الحال على المستوى السياسي، إذ ينجحون كل مرة في خلق معارضة وهمية وحكومة صورية، يكون هاجسهما التناوب والتهافت على الكعك؛ فإنهم ينجحون في تقسيم الرأي العام إلى فِرَقٍ مؤيدة وأخرى معارضة لبعض القرارات أو المذكرات أو الأشخاص أو الأحداث المستجدة بين الفينة والأخرى.. 

  وإلى خرجة أخرى من خرجات أم الوزارات، دمتم بين الأخذ والرد، والتأييد والمعارضة، لمسألة البرقع والنقاب.. مع العلم أني كنتُ أقدّر أن السمفونية المقبلة ستُعزف على أوتار كرة القدم، ومشاركة المنتخب الوطني في بطولة الكان؛ إلا أن الظاهر من خلال الظهور الأول للمنتخب، أن هذا التقدير كان خاطئا؛ وبالتالي ضيع المنتخب آمالنا، وفي الوقت نفسه ضيع آمال الجهات التي كانت ستوظف تفوُّقه لأغراضها الشخصية..