منذ سنوات طويلة وجماعة العدل والإحسان تدعو إلى الحوار مع من تسميهم “فضلاء البلد”، لكن دعوة هذه السنة التي أطلقتها بمناسبة الذكرى الرابعة لرحيل مرشدها الأستاذ ياسين، تبدو مختلفة عن سابقاتها، فطيلة أسابيع وفروع الجماعة بمختلف المدن والجهات ينظمون ندوات ولقاءات حول “مبادرة الحوار”، ومحاولة قيادات الجماعة التأكيد على جدية المبادرة، بحضور مختلف الأطياف المجتمعية المؤمنة بالمشروع التغييري. 

كما أن التنظيم الأكبر سياسيا بالمغرب، نظم مركزيا ندوة تحت عنوان: الحوار وضرورة البناء المشترك، جمعت من المكونات اليسارية والإسلامية وطنيا وإسلاميا.. ما لم يجمع من قبل من طرف أي تنظيم سياسي بالمغرب، وبحضور أسماء بارزة سياسيا ونقابيا وأكاديميا ودعويا وإعلاميا.. أكد مرة أخرى الحضور القوي والوازن لجماعة العدل والإحسان على مستوى الساحة السياسية المغربية.

لكن ومن خلال متابعتي عن قرب لبعض تلك اللقاءات، وحضوري لندوة طنجة التي نظمتها الجماعة يوم 7 يناير 2017، وتواصلي مع عدد من الشخصيات اليسارية والإسلامية.. التي حضرت في ذلك اللقاء، سجلت العديد من الملاحظات بشأن دعوة الجماعة إلى الحوار، والظروف المحيطة بها، ومما شجعني أكثر على إبرازها هو الوضوح الذي تؤكد عليه الجماعة على مستوى الحوار.

أول ملاحظة، هي عبارة عن التساؤل الملح التالي، وهو كيف لجماعة العدل والإحسان أن تبدي جدية بهذا المستوى في دعوتها إلى العمل المشترك، وهي لم تقم بعد بنقد ذاتي لسلوكها السياسي؟ لأن النقد والاعتراف بعدم صوابية بعض ما صدر عن الجماعة في علاقتها بالآخر، وبالمعنيين اليوم بمبادرتها، من شأنه أن يحفز المترددين، ويدفع المشككين إلى مراجعة مواقفهم من دعوة الحوار، ويعزز ثقة الملبين، فعلى سبيل المثال، انسحبت جماعة العدل والإحسان من الحراك الشبابي سنة 2012 دون أن تشعر على الأقل شركاءها بخطوتها المفاجئة التي فاجأت حتى أعضاء الجماعة المتواجدين بلجن الدعم المحلية بمختلف المدن، مما جعلهم في حرج مع باقي الشركاء، ومن باب الحفاظ على شعرة التنسيق في القادم من المستقبل، كان على الأقل إخبار الإطارات التي تنسق معها الجماعة في الحراك بخطوة الانسحاب قبل تفعيلها عمليا لتظهر فعلا نيتها الاستمرار مستقبلا في العمل المشترك، بمعنى آخر، وفي غياب هذا النقد حتى الآن، كيف لشركاء الجماعة أن يثقوا مستقبلا في العمل والتنسيق معها بعد هذا السلوك الذي وصف في حينه بـ”الغير مقبول” في العمل الميداني من طرف العديد من المكونات التي تبدي حماسا زائدا في التنسيق مع العدل والإحسان؟ خاصة وأن الانسحاب جعل “أصدقاء الجماعة” في حالة “الاندهاش والصدمة”، وبوضوح أكثر، من سيضمن للإطارات المؤمنة بالتنسيق مع العدل والإحسان، والمتفقة معها مثلا على برنامج محدد أن تمضي الجماعة حتى نهاية ما اتفق عليه، وأن لا تخرج مجددا في وسط الطريق، وتترك باقي الفرقاء “تائهين مترددين” كما حدث بعد انسحابها من الحراك، فأدبيات العمل المشترك تقول، انطلقنا مجتمعين، نوقف الفعل معا بعد أن نتناقش ونقنع بعضنا البعض، أو على الأقل إخبار المتوافق معهم على ما تخطط وما أنت بصدده وهذا من حقك.

إن على جماعة العدل والإحسان أن تعيد الاستماع ومن جديد إلى أصداء وردود الأفعال الأخيرة، خاصة تلك الصادرة عن شخصيات وتنظيمات وازنة، لإعادة تقليب ومراجعة طريقة دعوتها إلى الحوار والعمل المشترك، وإلا فإن المبادرة (ولنكن واضحين) ستلقى مصير سابقاتها

الملاحظة الثانية متعلقة بالسقف الذي وضعته الجماعة في مقترحاتها المتعددة، وأثار الكثير من النقاش، كما أنه أسال ولا زال يسيل العديد من ردود الأفعال، وهو “مقترح الجمعية التأسيسية”، وهو مقترح اعتبرته بعض الأطراف بمثابة إقصاء لها، وإبعاد غير معلن لمكونات معتبرة لها مكانتها في المشروع التغييري، التي حددت عبر مؤسساتها التنظيمية مطالبها وفصلتها بشكل يثير ويفتح شهية شريحة واسعة من النخب للانخراط في صفوفها، التي يمكن أن تقدم إضافة نوعية للقطب المنتظر إن اصطفت إلى جانب القوى التغييرية.

لنأخذ بعض الأمثلة حتى تتضح الصورة أكثر، الحزب “الاشتراكي الموحد اليساري”، ويمكن أن نضيف إليه حتى حزب “الأمة الإسلامي”، هؤلاء حددوا شكل النظام الذي يريدون ويناضلون من أجل تحقيقه، وهو “الملكية البرلمانية”، فعندما تقترح جماعة العدل والإحسان “الجمعية التأسيسية” فإنها تضع جميع القوى في المغرب خارج هذا الحوار باستثناء بعض الشخصيات وحزب “النهج الديمقراطي” الأقرب على ما يبدو في عمومه لمواقف الجماعة على هذا المستوى مع استحضار طبعا خصوصية كل تنظيم، بمعنى أن الجماعة باقتراحها هذا تفشل الحوار حتى قبل أن ينطلق.

من هذا المنطلق، ولجمع أكبر قدر معين من القوى التغييرية على الطاولة، فالمطلوب تخفيض المطالب إلى حدودها الدنيا لضمان توسيع الدائرة “بفضلاء البلد”، ثم على جماعة العدل والإحسان أن تعلم أن كل الشخصيات التي تحضر أو حضرت إلى لقاءاتها مركزيا وجهويا.. حضرت بصفاتها الشخصية، وليس التنظيمية، ولا داعي إلى التذكير أن مؤسسات حزبية خاصة اليسارية منها، والمعنية بالحوار الذي أطلقته الجماعة تعرف نقاشات داخلية حادة على هذا المستوى، بل إن المتتبع ليلحظ وببساطة كيف أن قيادات يسارية ولتجد لها مكانا ضمن المؤسسات القيادية خلال مؤتمرات تنظيماتها التي من المنتظر أن تعقد في غضون الشهور القليلة القادمة، فإنها تكثف من هجومها على الإسلاميين وخاصة جماعة العدل والإحسان، وتنعتهم بأقسى النعوت، ولنكن واضحين فحزب “الطليعة” و”الحزب الاشتراكي الموحد” أحزاب رافضة رسميا لهذه الدعوة، ثم يأتي سلوك الجماعة ليقضي على ما تبقى من أمل لجمع القوى التغييرية على مطالب محددة، والعمل على تنزيلها والنضال من أجلها، فالعمل النضالي هو تراكمي بطبعه، والفعل الكبير هو نتاج انتصارات صغيرة كما هو معلوم.

إن على جماعة العدل والإحسان أن تعيد الاستماع ومن جديد إلى أصداء وردود الأفعال الأخيرة، خاصة تلك الصادرة عن شخصيات وتنظيمات وازنة، لإعادة تقليب ومراجعة طريقة دعوتها إلى الحوار والعمل المشترك، وإلا فإن المبادرة (ولنكن واضحين) ستلقى مصير سابقاتها، وهو ما لا نريده، فجدية المبادرة (وهو ما لا نشك فيه) يجب مقابلتها بمقدمات وتفاهمات للوصول إلى المبتغى، لما للجماعة من مكانة داخل المشهد السياسي المعارض.