عندما أصدرت وزارة الخارجية المغربية بلاغها الشهير تسترضي فيه موريتانيا وتقرّع زعيماً سياسياً مغربياً لخوضه في الحديث عن تاريخ المغرب وعلاقته بجيرانه، من وجهة نظره، رد الرئيس الموريتاني ومعه الموريتانيون: رب ضارة نافعة. والقصد هنا أن هذه السقطة أرغمت الدولة المغربية على تحديد لون منطقة ظلت رمادية في علاقة البلدين وتجفيف مستنقع يرتاده السفهاء من الطرفين وتكمن فيه عوامل الحمى الموسمية التي تصيب إعلام المغرب وموريتانيا دون مقدمات.

ما قد لا يدركه الساسة الموريتانيون أن نيل رضاهم لم يكن على الأرجح الغاية الأولى من وراء جلد شخصية سياسية محلية جداً في ساحة دولية. لو كان قصد البيان توضيح موقف الخارجية لكان حسبه النأي بالنفس عن “التصريحات الخطيرة وغير المسؤولة” للأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط، ورفض الضرر الذي تلحقه “بالعلاقات مع بلد جار وشقيق”. إلا أنه لا يلبث أن يستدير نحو السياسي المتحذلق لينهره أمام أقرانه ويصمه ب”الجهل العميق بتوجهات الدبلوماسية المغربية التي سطرها الملك محمد السادس.”

تعود المغاربة على أن دبلوماسيتهم صوتها خافت وبياناتها نادرة، وإن وُجدت فهي تخاطب الخارج بلغة لبقة ورصينة، ولا تفجر في خصومة حتى في أعظم النوازل. أما البيان الذي بين أيدينا فقد تفرد في المبنى والمعنى، وكان أشبه بمنظومة في فقه الخارجية، صدرها موجه للموريتانيين وعجزها يقصد به المغاربة أنفسهم.

ولغته اللينة تجاه الخارج والغليظة تجاه السياسي التعيس، تنم عن قلق حقيقي من بداية تسرب شأن السياسة الخارجية إلى الفضاء العام، وتوجس “أولاد الناس” من انتهاك حرمته هذا المجال من قبل العوام، بعد أن بقي مرتعا خالصا لهم منذ نشأة الدولة المغربية. كيف لا وقد تواترت زلات زعماء اندمجوا في السيناريو وصدقوا أنفسهم.

فمن مفارقات السياسة المغربية أن زعيماً حزبياً، أو حتى ناشطاً مبتدئاً، يمكنه كيل النقد والاتهامات للمؤسسات الداخلية بالحجة أوالباطل، فيبيت بين أهله آمناً وقد لا يكترث أحد لما يقول. أما إن سولت له نفسه إبداء رأي مسموع يمس “شقيقاً” أو”صديقاً”، حتى لو كان موضوع الرأي لا يعني المغرب في شئ، فلا يلومن إلا نفسه.

النماذج كثيرة ولكن أكثرها غرابة هو عبد الإله بن كيران  نفسه، الذي أعادته الخارجية إلى جادة الصواب، وهو رئيس الحكومة، ويُفترض أنه مسؤول عن الخارجية وأبرز ممثليها. وإمعاناً في التوضيح، نص بيان الخارجية على أن تصريحاً أدلى به بن كيران لوكالة “القدس بريس” بشأن الوضع في سوريا وتصعيد النظام السوري وحليفته روسيا في حلب، “لا يعدو أن يكون رئيا شخصيا لرئيس الحكومة ولا يمثل المواقف الرسمية للمملكة المغربية وسياستها الخارجية”.

ينقشع الغموض إذا ذكرنا كيف بقيت الخارجية، إلى جانب الجيش والأمن وتدبير الشأن الديني، محلّ شد وجذب بين القصر والحركة الوطنية منذ الاستقلال، وأفلح محيط الملك في إبقائها من جملة ما أبقاه ضمن اختصاصه، حتى في أكثر الدساتير تطوراً. فالفصل 55 من دستور عام 2011 يقضي بأن الملك هو من “يعتمد السفراء لدى الدول الأجنبية والمنظمات الدولية، ولديه يُعتمد السفراء، وممثلو المنظمات الدولية” وهو الذي “يوقع على المعاهدات ويصادق عليها”، ويُستثنى من ذلك المعاهدات التي تترتب عنها نتائج تمس السيادة أو الحدود أوخزينة الدولة أو تدابير تشريعية، فتلك ينبغي أن تتم “الموافقة عليها بقانون”.

حرص السلطة التقليدية في المغرب على إبقاء الخارجية مجالاً ملكياً محضاً هو خطيئة منشأ، ورثها النظام السياسي المغربي مع ما ورثه عن الحقبة الاستعمارية. وهو رجع صدى لمفهوم “المجال المحفوظ” الذي يحيل في القاموس السياسي الفرنسي على مجالات شرعت الدساتير أو أقرّت الأعراف أنها من اختصاص رئيس الدولة دون غيره (مثل الدفاع والأمن والخارجية..).

حرص السلطة التقليدية في المغرب على إبقاء الخارجية مجالاً ملكياً محضاً هو خطيئة منشأ، ورثها النظام السياسي المغربي مع ما ورثه عن الحقبة الاستعمارية. وهو رجع صدى لمفهوم “المجال المحفوظ” الذي يحيل في القاموس السياسي الفرنسي على مجالات شرعت الدساتير أو أقرّت الأعراف أنها من اختصاص رئيس الدولة دون غيره (مثل الدفاع والأمن والخارجية..).

التعبير نحته عام 1959 أحد أشهر سياسيي فرنسا في القرن العشرين، جاك شابان دلماس، الديغولي الصنديد الذي ترأس الجمعية الوطنية وبقي عمدة لبوردو نحو نصف قرن، لا ينازعه قيادة الديغوليين إلا شيراك نفسه. ولم يزد دلماس على أن وضع اسماً لأمر واقع في فرنسا منذ تحريرها من النازية واعتماد دستور الجمهورية الخامسة الذي أسبغ على رؤساء فرنسا المتعاقبين هالة الملوك بأن أفسح لهم هامشاً واسعاً من الحركة، وقدرة على تقدير الأمور وتصريفها بما يقتضيه الحال دون العودة إلى صخب البرلمانيين ونقاشاتهم في كل صغيرة وكبيرة، وهو ما كانت تبرره أوضاع العالم إبان الحرب العالمية وما بعدها، وفي ظرف ما كان الفرنسيون ليجادلوا فيه من وضعهم على خريطة العالم مجدداً بعد أن ابتلعتهم آلة الحرب.

كان طبيعياً أن يقتطع ديغول لنفسه من السلطات ما ينافح به عن مصالح بلاده في محافل الغرب الخارج لتوه من ليل الفاشية. فكان “ضامن استقلال الوطن والوحدة الترابية” (المادة 5) و”القائد العام للقوات المسلحة” (المادة 15). أما في السياسة الخارجية، فله اليد الطولى في اختيار السفراء والتفاوض وإبرام المعاهدات (م 52).. إلا أن مقتضيات الواقع والممارسة، لا الدستور، هي التي كرست انفراد رئيس الدولة بالدور الأبرز في ميادين السياسة الخارجية. وهو رداء خيط على مقاس شارل ديغول، وكافح خلفه لارتدائه فأفلح البعض وتعثر أغلبهم.

أما وقد دارت دواليب الديمقراطية دورات كاملة وتبين أن حسابات الانتخابات قد تضع حكيماً وترفع سفيها إلى رئاسة الجمهورية، فوجب رسم حدود الاختصاصات ودفع السطات بعضها ببعض حتى لا تتركز في يد من ليس لها أهلا فتكون الكارثة.

في كتابه “الانقلاب المستمر”، لم يخف الرئيس الفرنسي الأسبق فراسنوا ميتران استخفافه بفكرة “المجال المحفوظ” لرؤساء الجمهورية فقارنها بمبدأ “سر الملك”، في إشارة إلى أسلوب حكم الملك لويس الخامس عشر الذي نصب حكومة سرية إلى جانب حكومة العلن، تشير عليه في الخفاء ما لا يُذكر في العلن وتنفذ من المؤامرات والدسائس ما لا ينبغي أن تطلع عليه العاملة. ويوضح زعيم الاشتراكيين الفرنسيين تهافت هذه القاعدة “التي لا نجد لها أثراً في الدستور” ولا أصل لها سوى ما تبرره الحروب والقلاقل ولا تستسيغه الديمقراطية زمان الاستقرار والتداول السلمي على السلطة.

إلا أن نصيبنا من هذا الجدل قريب من الصفر، لأن تماهي الدولة المغربية الحديثة مع المؤسسات الفرنسية لا يتعدى الهياكل ولا ينفذ إلى الدينامية التي تحركها. وشتان بينهما.

وقد حاول المشرع المغربي بالفعل التخلص من وصاية العقلية الدستورية الفرنسية عند صياغة دستور 2011 الذي أوكل إنجازه إلى لجنة خبراء أعضاؤها التسعة كلهم مغاربة، برئاسة الفقية الدستوري عبداللطيف المنوني، خلافا للدساتير السابقة التي كان يصيغها على المستوى التقني فقهاء دستوريون فرنسيون من أمثال موريس دو فيرجي، ميشيل روسي، جون دوبوي… بينما كان الملك الحسن الثاني يصوغ خطوطها العريضة بنفسه.

إن هوس المشرع المغربي بالنموذج الفرنسي، مشكاة الحقيقة والغاية المثلى لديه، سرعان ما يتبدد لينزع نحو الخصوصية عندما ينخرط المشرعون والحقوقيون والنشطاء والإعلام في فرنسا بهمة في مساءلة تجاربهم وتمحيص أخطائهم وتعديل مسارهم لأنهم أبناء عقلية نقدية تجريبية لا تعرف من الثوابت إلا ثابت التغيُر.

فهل نحن مستعدون بدورنا لنحملق في الأساطير المؤسسة لتجربتنا الدستورية الوليدة دون خجل؟ هل نحن قادرون على التساؤل: متى يبلغ الرأي العام المغربي من الرشد ما يتيح له صياغة سياساته الخارجية بنفسه؟ وأي قوة لسياسة خارجية لا تستمد دعائمها من رأي الداخل عندما تمثله في الخارج؟ ولو فرضنا جدلا أن ذلك مما تقتضيه الضرورات رغم ما فيه من عسف، فلنحتكم إلى النتائج، وللنظر ماذا أورثتنا وصاية “أولاد الناس” على الدبلوماسية، فإن كان ما نحن فيه إنجازاً فلتكفّ عنا إنجازاتها، وإن كان غير ذلك فلم لا يفتح هذا القطاع للتباري والتنافس والجدل البناء؟

إن كلا من شباط أو بن كيران، مهما اختلفنا معهما في تقديرهما للأمور وفهمهما لقضايا خارجية، لم يزيدا على أن أعربا عن وجهتي نظرهما كمواطنين أولا ثم كزعيمين سياسيين، وهو حق مكفول بموجب مبادئ الدستور نفسه. وهل من المنطق أن يُعاقب زعيم سياسي على تقديمه وجهة نظر سياسية في قضية تشغل كل الناس ويدلي فيها الجميع برأيه في كل حين؟

ولعل أبلغ فهم لأبعاد التأنيب المتكرر للسياسيين من قبل الخارجية المغربية حمَلهُ رد فعل الإعلامي والقيادي السابق في حزب الاستقلال، خالد الجامعي، الذي اعتبر أن الذين هاجموا وقمعوا “بعثوا بذلك رسالة إلينا جميعا مضمونها أنهم وضعوا لنا خطوطا حمراء جديدة يتعين علينا عدم تجاوزها”.