يذهب بعض المحللين السياسيين، إلى أن المغرب يعيش أزمة سياسية حقيقية سيكون لها ما بعدها على مستقبل البلاد السياسي والاقتصادي، وعلى مستقبل علاقته مع مختلف الأطراف الدولية الشريكة له في الاقتصاد وفي العلاقات السياسية والاستراتيجية، بسبب تأخر تشكل الحكومة، الذي تسبب فيه “البلوكاج” السياسي الذي لازال يراوح مكانه. ويقدمون على ذلك تحليلات، ومُبَرهنات متعددة، يوحي أغلبها بأن الأزمة الحالية ستكون قاصمة للمغرب، ومؤثرة على استقراره الاجتماعي، والاقتصادي، والمالي، فضلا عن استقراره السياسي، والمؤسساتي، ووو.. وهكذا في تهويل غير مسبوق، يجعل المتتبع له يظن أن انقلابا جذريا سيقلب البلد رأسا على عقب، وسيحول المغرب إلى بلد “أشباح”؛ لا قانون، ولا مؤسسات، ولا أحزاب،…!! والحقيقة أننا لا ندري من يستفيد من هذا التهويل المبالغ فيه، رغم أن الحالة المغربية ليست بِدْعاً. فالكثير من دول العالم عرفت  حالات مشابهة، بل أعوص منها، ودام “البلوكاج” في بعضها عدة شهور (لبنان، البرتغال، أسبانيا،…)، ومع ذلك شُكِّلَت الحكومات، ومورست الصلاحيات، وانطلقت البلاد لا تأْلُو على شيء.

 فمَنِ المستفيد من هذا التهويل المبالغ فيه؟ وهل المغرب يعيش فعلا أزمة سياسية خانقة ومكسرة للعظام، أم هي سحابة صيف عابرة تنتظر تدخلا مَا يرفع هذا الغيم الكثيف الملبِّد لسماء السياسة المغربية، ويعيد المغرب السياسي إلى سكته الآمنة، والحكم إلى مساره المعهود؟

في الحقيقة، لا يمكننا أن ندعي معرفتنا بخلفيات- كل خلفيات- هذه القراءات المهولة التي بدأت تتداعى تَتْراً على بساط النقاش السياسي العمومي؛ المسموع منه، والمرئي، والمكتوب. ولكن الذي يمكننا أن نجزم به –هاهنا- هو أن غرض أغلب الذين يُسَوِّدون الحال السياسية والحكمية المغربية هو مجرد الإثارة، وخلق ما يسمى بـ”البوز”، في عالم خاص لا يَلِجُه إلا الخاصة، ولا يفقه فيه إلا خاصة الخاصة. فكانت المراهنة على تحويل أُحْجِيَّتِه إلى اهتمام رأي عام، وتحويل اهتمامات الشعب المغربي “الخبزية”، والفنية، والكروية،… شَطْرَ شيءٍ ممَّا يخربشه قلم المحلل السياسي، وجعل كل ذلك رهانا إعلاميا أساسا. فكان لا بد من إثارة جرعات من التخويف والتهويل في ساحة الناس، لتحويل انتباههم إلى هذا العالم الخاص، وجعل رسائل وإشارات “المحلل السياسي الفذ”، محطَّ اهتمام يزيد من منسوب القراء، والمعجبين، والمشاركين، وتحول الشأن السياسي، إلى صدارة الاهتمام، جنبا إلى جنب الأخبار والقصاصات الفضائحية، والإشاعات المُسيلة لِلُعاب المتربصين بخصوصيات المغاربة، وخُوَيْصَات مسؤوليهم.

إن السلطة التحكيمية للمخزن المغربي، في دواليب السياسة، وفي مناحي التدبير المؤسساتي لمختلف القطاعات، وفي توجيه مسارات الأحزاب وقناعاتها، وفي جعلها أدوات لتنزيل السياسة، واتخاذ المواقف الاستراتيجية الموحدة كما يريدها هو لا كما تريد هي، وجعل الإجماع على الإذعان لتنبيهاته، وتوجيهاته، وأوامره، جزء من المصلحة العامة للوطن.. إن كل هذا يجعل الحديث عن أزمة خانقة، وتسونامي يهدد منظماتنا الحزبية، ومؤسساتنا البرلمانية، وعلاقاتنا الدولية، واقتصادنا المحلي، ووو… مجرد كلام للاستهلاك الإعلامي الرخيص، وهرطقة لإثارة الانتباه ليس غير.

فلقد اجتمعت الأحزاب، يسارييها وليبرالييها وإسلامييها؛ معارضة وأغلبية، يسارا تقليديا، ومُمَانِعا، بإشارة من ملك البلاد، حينما تعلق الأمر بالمصلحة الوطنية، وكان في انتخاب رئيس مجلس النواب الواجب الذي لن يتم الواجب إلا به. فلم يَشُذَّ كائن من هذه الكائنات عن الاستجابة لهذا الأمر الملكي، رغم الخلافات المفتعلة، والصراعات المُنْبَتَّة، والمزايدات المضحكة.. فاجتمع الجميع برئيس الحكومة، وخرج الجميع بخطاب واحد، وقرار واحد، وقناعة واحدة: “المصلحة العليا للوطن” فوق كل اعتبار؛ فحيثما كانت، كان الاتفاق، وكان الإذعان، وذابت الخلافات.

الأمان الحقيقي للمغاربة من كل أزمة سياسية حقيقية، هو خضوع الجميع لإرادة النظام المغربي الذي يمثل الحامي الحقيقي للبلد من كل انزلاق سياسي ( أضع خطين تحت كلمة سياسي) نحو الفوضى، والسقوط.

فتأخر تشكيل الحكومة لم يَرْقَ بعدُ إلى أزمة سياسية حقيقية تهدد “المصالح العليا للوطن”، أو تهدد الاستقرار الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو الأمني الوطني، ولو كان الأمر كذلك لتدخلت الجهات العليا، وألزمت كل الأطراف للدخول في مشاورات جماعية حقيقية، وكلفت من يشرف عليها، ويسهر على متابعتها حتى تخرج الحكومة إلى الوجود، وتَخْرُج معها- كما العادة-  الكائنات السياسية تبرر الاتفاق، وتشيد بالحوارات، والمشاورات، وتستنجد بالمصلحة العليا للوطن كما دائما، وكما استنجد بها السيد بنكيران حينما أراد أن يقنع، نفسه أولا والمغاربة ثانيا، بفك الارتباط مع حزب الاستقلال بعد تصريحاته المسيئة للعلاقة مع الشقيقة موريطانيا !!.

فاعتبار المغرب يعيش أزمة حقيقية، وأنه على شفا جُرْفٍ هَارٍ من السقوط، وذهاب ريح الدولة، ووو… كلام يحتاج، على أحسن تقدير، إلى دقة في الطرح، ومرونة في المناولة. وهو الأمر الذي لا يناسب بعض الذين اعتادوا أن يصطادوا في الماء العكر، وينتعشوا من الأزمات، والفضائح، والفوضى..

فإلى حدود كتابة هذه الأسطر، ورغم امتداد عمر “البلوكاج” للشهر الرابع على التوالي، لازالت سياسة المغرب، واقتصاده، ومؤسساته، وعلاقاته الخارجية،… بخير، ولا شيء يدل على أن المغرب يعيش أزمة حقيقية، تستدعي تدخلا استعجاليا. فالوزراء، أو من ينوب عن المستقلين منهم، لا زالوا يمارسون صلاحياتهم بشكل عادٍ، وإنْ على قاعدة تصريف الأعمال. والموظفون، في كل القطاعات والإدارات،  لا زالوا يباشرون أعمالهم، ويتقاضون أجورهم بشكل عاد، والاستثمارات، كما الإقبال عليها، لا زالت تتم بدون تلكؤ أو تخوف. والسِّر في هذه “العادية” أو السلاسة في استمرار الدولة وأجهزتها، عائد إلى الإيمان بأن ما يعرفه الحقل السياسي والحكمي المغربي في هذه الأيام من حراك، هو من صلب الممارسة الديمقراطية التي تجعل مجال الرأي والرأي الآخر ( المفاوضات والمشاورات) حقلا للمدافعة، ومجالا للسِّجال من أجل التوافق، وألا شيء يوحي إلى أن ثمة اختلافا حول الحكم في المغرب، أو منازعة له، بل المؤكد أن الإجماع حوله، بين مختلف ألوان الطيف السياسي، باعتباره الضامن الآمن للاستقرار والاستمرارية، هو الحاصل.

ففي اعتقادنا، الأمان الحقيقي للمغاربة من كل أزمة سياسية حقيقية، هو خضوع الجميع لإرادة النظام المغربي الذي يمثل الحامي الحقيقي للبلد من كل انزلاق سياسي (أضع خطين تحت كلمة سياسي) نحو الفوضى، والسقوط. فمهما اختلفت الأحزاب، وتصارعت، وارتفعت أصواتها، لا تستطيع أن تُبَارِح الفضاء الذي سُطِّر لها، وإن بدا في بعض الأحيان أنها قادرة على اتخاذ قرارات مستقلة. ولكن تبقى “المصلحة العليا للوطن”، التي قد تَتَّخِذُ معانيَ كثيرة  حسب الأحداث والوقائع؛ هي الجامع الذي يوحد الجميع، ويدعن له الجميع…!!

 وإنما وَسَمْنا الحال بـ”الخيرية”، اعتبارا للصورة القاتمة التي يروجها البعض، وليس للدور الذي تضطلع به هذه القطاعات، والمؤسسات. وإلا فإن في التسيير، وفي الاستجابة للانتظارات، وحل المشاكل، وإرضاء المواطنين،… الكثير مما يُقال !!.

فكفى من التهويل والتخويف؛ فالمغرب بخير، والأزمة لا توجد إلا في رؤوس من يقتاتون منها !!

دمتم على وطن..!!.