بعد معاناة مع المرض، يرحل المناضل والمثقف الملتزم المغربي صاحب مجلة “وجهة نظر” الدكتور حسني عبد اللطيف.

  يرحل الرجال، وعند الرحيل يفتح الملف الاستثنائي لهم، من خلالنا نحن، نحن بسطاء الناس، نحن عامة الشعب، يفتحون الأبواب لمشاعرنا، وأحزاننا عليهم، حيث الإحساس بالخسارة.. هي أحاسيس، حجمها يتجاوز حدود أحاسيسنا.. هي الحياة، مجيء ورحيل .. وبينهما عمر ينقضي .. هكذا هو الموت.. يأتي، بالغياب ورحيل الأجساد .. ولا يكشف حياة المرء شيء، كما يكشفها موته. كأن الحياة لولب متحرك، والموت دائرة مغلقة.. دائرة تثبت الحركة، وتنغلق عليها، تلم كل التفاصيل المتناثرة. ويلبس الحزن الوجوه .. وينزل ألم لا يحسن صنعه غير الموت ..إنه ألم الفراق .. والإسم ينزلق على اللسان، كسمكة بين يدي صياد .. هو الموت يرحل ويأتي كالليل، حين يرحل .. يفر بقطعة الروح .. وعندما يأتي، ينهب ما تبقى من القلب. هو السفر  نحو السماء المفتوحة، تزينها غيمة طويلة .. لا تنتهي .. وأنت، عاشق السفر .. أنت القائل .. ((الحياة عموما سفر متواصل، وانأ متيم بالسفر، زادي فيه الخيال، والسحر، والعطر والجمال)).

      يرحل الجسد ولا يرحل الفكر .. لقد كان عبداللطيف حسني مولعا ومتيما وعاشقا للحرية. مؤمنا بها بوصفها مناخا، ومجالا مطلقا لكل فكر. فنظر إلى الفكر اليساري بتفاصيل البحث عن الحرية. وكان من الرعيل الذي آمن بالحق في التحرر وكسر القيود .. من أولئك المثقفين القلائل، الذين آمنوا بالتغيير والتغيير. كان يرى في وجوه أبناء شعبه لفظة التغيير موشومة فيترصدها. كان يرى على جفونهم الحلم بالتغيير .. ويناضل .. نعم يناضل بالقلم من أجل التغيير والحرية .. كان يؤمن بمقولة أستاذه محمد البوزيدي، أستاذ القانون الدستوري ((إن علم السياسة لا يمكنه أن ينمو إلا في أجواء ومناخ الحرية السياسية)).. كانت الحرية معشوقته الأولى. وصلت حد القداسة .. مما جعله يندر حياته لخدمة الوطن .. وطن حر. لم تكن الحرية رغبة ذاتية، بما هي مطلب ملح، في حياة عبداللطيف حسني. لكن .. ها هو القلم، ينام على الكتاب .. والحب الصغير يتألم حزنا.

حين يرحل الشرفاء، ترحل أجسادهم فقط، لكن أعمالهم، عطاءاتهم تظل خالدة داخل الذاكرة الجماعية .. الآن، كأنه الفراغ يحط على البياض. نحس بالغياب ومعنى الغياب

   يفقد المغاربة والعرب مفكرا وأستاذا ومناضلا يساريا .. قلما جريئا، ومفكرا بالغ التفرد والتميز والإبداع. من القلائل في عصرنا وفي بلدنا. كرس حياته وجهده وفكره للإنسان، وحق الإنسان، وعدالة الإنسان، وحرية الإنسان. إن رحيله خسارة للحقل الثقافي، والحقوقي في المغرب، يرحل في صمت، صمت موجع، إننا إذ نعزي أهله وذويه .. نعزي أحبته، أصدقاءه، وشعبه ووطنه .. نعزي هيئة التحرير في “وجهة نظر” و”دفاتر وجهة نظر”. لا يسعنا إلا نقول وبألم .. رحل مثقف كبير. نعم، إننا لا نرثي رجلا عاديا، ولا قلما مأجورا. وشخصا عابرا .. إنه عبداللطيف حسني. لم يكن بوقا أعمى .. صالحا للكراء والمساومة والبيع والشراء .. لم يكن  سلعة للعرض والطلب .. لم يكن مهرجا، أو دمية يحركها الطمع وشهوة السلطة والمنصب والكرسي .. .بل اختار حنظل علقم  الواقع المر، على عسل السلطة وإغراءاتها .. انحاز إلى الناس .. جعل من وظيفة الثقافة، الدعوة اليومية للحرية .. الحرية للجميع ومن دون عناوين .. إنه المثقف الملتزم بقضايا شعبه وأمته،عرف بمبادئه الملتزمة. حتى الرمق الأخير .. كان المثقف الحقيقي المخلص لثقافته ووعيه وإدراكه، ولمسألة الحرية بروح الانتماء الحقيقي لأبناء شعبه ولمرحلته والتزامه، في الوقت الذي غادر فيه الكثير ممن يحملون الشعار، في رحلة البحث عن المصالح والمكاسب .. بعد أن تخلوا تماما عن كل ما يربطهم بمعنى مثقف. لنعزي أنفسنا في هذا الفقيد المتميز. الفكرة لا تموت .. وإن تخلى المثقفون عن قضايا أمتهم فإن القضايا ستخلق مثقفيها ..

    حين يرحل الشرفاء، ترحل أجسادهم فقط، لكن أعمالهم، عطاءاتهم تظل خالدة داخل الذاكرة الجماعية .. الآن، كأنه الفراغ يحط على البياض. نحس بالغياب ومعنى الغياب. آه يا عبداللطيف. نقيس اللحظة، البرودة، التعب، التثاؤب، والاسترخاء .. لحظة من اللحظات الأخيرة لرجل نام في ثيابه للمرة الأخيرة .. من الصعب أن تتأمل الأفق المستدير، كسماء مثقبة بالنجوم، وأنت الطائر الجميل في قفص الرحيل، بينك وبين السماء شعب .. وأنت لا تستعاد بالكلمات، ولا حياتك تختصر بالكلمات .. كما كنت تترصدنا .. تحكي لنا عنا.. توضب المشهد المؤلم فينا .. الآن سنترصدك  يا حسني .. روحك لا تقترب .. من يبشر بالربيع؟ من يصعد الجبل الآن؟ الموت حادث عادي، لكن موتك موجع إلى حد الانكسار .. كن أكبر من الحاضر، أكبر من مستقبل، كن أنت قبل أن تولد، كن جزءًا من حياتك السابقة، التي عشقت هذه الأرض، ولم تعبر سوى هذا الزمن .. إلا نضالا .. من أجل الكرامة الآدمية ! كن تاريخ بلادك في خطوط الطول والعرض .. وأنت  تمرّ في وجوه أهلك .. جيلًا وراء جيل .. كن جيلك حين يتشكل إذا ما أخذك الحنين إلى الغياب .. الغياب الذي لا يجيء منفى أو حقيبة سفر ..، كن حفنة حنطة في يد، ومنجلًا في يد أخرى، كن بسمة على  شفاه النساء، أمام المعتقلات والأقبية السرية، ينتظرن صاحبا أو قريبا. كن دهشة على وجه طفل، يفوز بمقعد ومحفظة .. كن دمعة للفرح والحزن معا.  كن سنابل الحصاد، كن نظرة لا تتزحزح من شابٍ يأمل مستقبلا جديدا..كن  فكرا. رأيا .. ووجهة نظر .. يرحل الجسد .. ولا يرحل الفكر.