لقد كتبت قبل هذا إن النظام في المغرب ليس نظاما دستوريا فقط، ولكنه نظام يمتد لتاريخ من الأعراف، مما لا يتيح لنا التنبؤ بسلوكاته وردود أفعاله، فنتعامل معه فقط بما يحضرنا من أجزاء. فنقول بداية : إن تعيين السيد بنكيران مستشارا ملكيا هو أمر يخضع لمزاج السلطة ولا يمكن الاستناد فيه إلى أية دعامات علمية، فالقول بالنفي أو الاتباث يبقى بابا من أبواب الافتراض لا يتعداه.

تعتبر الاستشارة أمرا طبع الأنظمة مذ قديم عهد، فلا يعلم إلى اليوم حاكما حكم من دون حاشية ومحيط، بل إن الاستشارة إلى اليوم لم تقطع معها حتى الأنظمة العريقة ديمقراطيا، فالمستشارون في المغرب كما في غيره لا يخضعون لمزاج الشعب وإنما يتم اختيارهم من طرف المعتلين لمنصة الحكم، تحدد وظائفهم في الاستشارة لا تتعداها لأنهم في الغالب لا توكل إليهم سلطات تنفيذية.

إن اختيار السيد بنكيران مستشارا ملكيا لا يطرح أي مشكل من الناحية الدستورية والعرف أيضا، فالملك له كافة الصلاحيات في اختيار مستشاريه وحاشيته، فإنه ولئن لم يسبق للملك أن عين رئيس حكومة سابق مستشارا ملكيا فإنه تم ضم وزراء سابقين إلى التشكيلة الملكية، مثل وزير الخارجية السالف الطيب الفاسي الفهري.

عندما أشرت في البداية إلى أن نظام الحكم في المغرب لا يستند في سوكاته إلى روح الدستور فقط ولكنه نظام مزاجي أيضا، فإن فرضية تعيين السيد بنكيران تبقى حاضرة لا يمنعها شيء، لكن دستورية القرار هنا من غيرها لا تعنينا في شيء مادام أن طرح الفكرة على أي شخص لن تخطر في خلده دستورية الفكرة بقدر ما يستحضر طبيعة العلاقة التي تجمع الملك ومستشاريه بالسيد بنكيران.. وهذا هو ما يهمنا في هذا الصدد.

لقد أطنب السيد بنكيران في تقريظ الملك والملكية، فطوال الخمس سنوات التي قضاها على رأس الحكومة لم يخل تصريح أو تلميح من إقحام شخص الملك والملكية، وهو الأمر نفسه الذي جر عليه غضب الملك صراحة في الواقعة المشهورة. لكن الأمر لن يقف عند هذا الحد، فالعلاقة بين السيد بنكيران ومستشاري الملك لم تعرف الهدنة حتى في عز أيام الهدنة، فكثيرة هي التصريحات والتلميحات التي كان بنكيران يتخذ من مستشاري الملك وقودا لها بل ويحملهم مسؤولية ما آلت إليه البلاد والعباد، بل إنه ينسب إلى السيد بنكيران السبق في تفريقه بين الملك وحاشيته وهذه أمور أشرنا إليها في مقالات سالفة بالتفصيل.

لكن لماذا بنكيران مستشارا ملكيا؟ ما الذي سيربحه النظام من تعيين بنكيران مستشارا ملكيا؟ وماذا سيفعل الرجل الثاني في المملكة بعد فقده لرئاسة الحكومة وهو على وشك الرحيل عن الأمانة العامة للحزب؟ ما الذي سيفعله الرجل الذي وإن كثر شانئوه استطاع إقناع كثير من العامة والخاصة بخطابه ومظلوميته؟ هل يعقل أن ينتهي بهذه السهولة؟

إن فكرة تعيين السيد بنكيران مستشارا ملكيا فكرة لا تنطلق من فراغ، وهي فكرة تتجاوز أيضا حاجة النظام إلى شخص من فصيلة بنكيران، لكن قد يراها البعض محاولة من محاولات عديدة حاول النظام فيها قتل الرجل سياسا. فالجلوس إلى السيسي العدو الأول لجماعة الإخوان وحضوره لحفل الولاء في التصريح المشهور وكذا إجلاسه وجها لوجه امام المستشار الاول عالي الهمة كلها وغيرها كثير كانت مؤشرات عن رغبة الدولة في إحراج الرجل وإظهاره بمظهر الشيطان المتناقض، لكن دون جدوى مادام للرجل لسانه الذي يعيد به كل شيء إلى نصابه.

لا يخفى على العارفين أن الاستشارة تتطلب نوعا من الكفاءة خاصة، لا ترتبط عادة بالمستوى الدراسي والتحصيل العلمي، فالأمر هنا لا يتعلق بمنصب عمومي وظيفي وإنما يتطلب الأمر شروطا عالية في الدقة يمتزج فيها الولاء للمشروع السياسي بالمعرفة العالمة وواقع المجال، وهي أمور لا تتوفر حتما في السيد بنكيران صاحب التكوين المعرفي العلمي والديني البسيط، كما أن الولاء لمشروع الدولة السياسي أمر يرسب فيه السيد بنكيران باستمرار. فخرجات الرجل تظهر أنه صاحب نظرة للعالم ما تزال محكومة ببراديغم الاسلام الحركي، والذي به كسب شعبيته وسط مجتمع تقليدي. وهنا لا يمكن الخلط بين الزعامة التي يجب أن تبقى حكرا على الملك وبين الكفاءة والولاء للمشروع. فالسيد بنكيران صاحب كاريزما وزعيم سياسي ناجح له قدرة مبهرة على دغدغة مشاعر العامة وكثير من الخاصة سببت له حرجا مع الملكية، لكنه بالمقابل رئيس حكومة ليس لديه ما يقدمه في منصب لا يصح فيه إلا الصحيح .

إن سلاح السيد بنكيران لسانه الذي جلب له كثيرا من المكاسب وحقق له كثيرا من المآرب، لكنه جر عليه كثيرا من المصائب، فكل ما في الرجل صلابة وجهه وقوة لسانه وسرعة بديهته، وهذه أمور للأسف هي أكثر ما تكرهها الاستشارة، التي تتطلب نوعا من الرزانة والصمت ونفي الذاث، كما تتطلب نوعا من التعالي عن العامة يحفظ للملكية هيبتها، وهي أمور لا يمكن لبنكيران أن يتحملها… وليت الأمر يتوقف عند هذا الحد، بل إن موقع الاستشارة الملكية هو موقع فوق سيادي يبقى منزها من أي اختراق من رجل ما يزال وفيا لأطروحات الحسن البنا، فولاء الرجل للملك وتقريظه له لا يفسر بالولاء للملكية التي تتجاوز الملك نفسه، بل وتعلو عن كل نظرة اصلاحية يقترحها الاخوان.

لن نطيل عليكم و نعود من حيث بدأنا ، فإمكانية تحويل السيد بنكيران إلى مستشار ملكي أو أي منصب آخر رغم كل ما قلناه يبقى واردا مادام الرجل يأبى أن يموت سياسيا. لكن القادم من الأيام وحده من سيتبث أو ينفي كل ما ادعيناه .