
عنف الفضاء العمومي

في طريقي للبحث عن تعريف لكلمة “عنف” وبعد بحث ليس بالمضني صادفت ما مضمونه هذا الكلام: “بعد بحث مضني، لم أجد أي تعريف ينقل لكلمة “عنف”، ربما هذا المصطلح من المفاهيم الأنثربولوجية القليلة التي لازالت في صف الانتظار لتجد لنفسها تحديدا، وبالتالي تعريفا يوازي ثقلها وكثافة استعمالها، فالذين تناولوا هذه الظاهرة بالدراسة والتحليل ربما لا أحد منهم تجرأ ليضع لها إطارا. لقد تحدث الكثيرون عن أنواع وأشكال العنف وتجلياته وعن كيفية اشتغاله وممارسته -من العنف الرمزي إلى العنف اللفظي مرورا بالعنف النفسي حتى العنف المادي- لكن هل الإحالة على الأصناف والأنواع كافية للتعريف بالظاهرة ؟ أم أن ظاهرة العنف لا تحتاج إلى تعريف بل إلى الاجتثاث والنفي؟”. عن محاضرة للأستاذ نور الدين الزاهي في مؤسسة “مؤمنون بلا حدود” تحت عنوان “قراءة في كتاب العنف والمقدس لروني جرار”. وبتصرف مني.
آراء أخرى
روح المسؤولية والمحاسبة وكذلك سياسة التخطيط والتمدن والمدينة والاعتناء بالعنصر البشري لدى مسؤولينا ،وكذا سيادة عقل ترميقي ترقيعي
وماذا عن عنف الفضاء العمومي؟ وأين يتجلى هذا العنف إن كان موجودا بالفعل؟ وكيف يمارس عنفه علينا؟ وهل هذا الفضاء هو الذي يمارس عنفه علينا أم على العكس نحن الذين نمارس عنفنا عليه؟ أم نحن فقط من يمارس العنف في الفضاء العمومي؟ وإن كان كذلك فعلى من نمارسه؟ هل ينحصر الفعل على “من” أي “نحن” الإنسان فقط ؟ أم ينتقل إلى “ما” أي “الكل” إذ يشمل كل ما عليها من الإنسان مرورا بالحيوان حتى الشجر والحجر؟ ألا يمكننا الحديث على عنف متبادل وعلى تفاعل وعلاقة تأثير وتأثر؟.
تكفيك جولة نصف نهار، أو أقل من ذلك مشيا على الأقدام، في مدينة مغربية ما، لتقف على أشكال وركام من الأفعال والممارسات والسلوكيات والخطابات والمظاهر غير المستساغة، فيها ما هو رمزي وما هو لفظي وما هو نفسي وكذا ما هو مادي. وأي مراقب لفضائنا المشترك سيلاحظ أن المشهد العام، أصبح يعج برداءة دسمة وفوضى عارمة مترامية الأطراف وإلغاء لكل ما هو جميل واستدعاء للقبح بجميع أشكاله. إنه العنف الصلب بلحمه وعظامه ودمه وفي أبهى حلله، يمشي على قدميه، يصول ويجول بيننا، في أزقتنا وشوارعنا وساحاتنا وفي بيوتنا ومؤسساتنا مرحبا به في كل لحظة، دون تأشيرة دخول. فنحن نستشعره ونستأنس به ونتنفسه كما نتنفس الأكسجين في حياتنا.
إن غياب الكفاءة وروح المسؤولية والمحاسبة وكذلك سياسة التخطيط والتمدن والمدينة والاعتناء بالعنصر البشري لدى مسؤولينا، وكذا سيادة عقل ترميقي ترقيعي، عقل أفقه (R+4)، أعني: طابق سفلي زائد أربع طوابق، وهيمنة عقول ملفوفة بالإسمنت والزفت في خدمة أكبر مشروع حضاري تاريخي أخرج للأمة، إنه مشروع “تعميم المقاهي وتوزيعها بعدل بين المدن والقرى والبوادي بين الشوارع والأزقة في أفق توفير مقهى لكل مواطن“. هذا العقل، حول هذه المدن إلى مراعي مفتوحة وفضاءات مغلقة، كأنها سجون مفتوحة على السماء: ركام من الرداءة الصلبة المستشرية تظهر وتطفو أينما وليت وجهك، الزحف الرمادي على الأراضي الفلاحية وتحويلها إلى غيتوهات وصناديق إسمنتية، فالإسمنت المسلح أصبح يؤثث كل واجهات المدينة، وواجهات البنايات والعمارات والمنازل غير المتجانسة وغير المنسجمة وبدون أدنى جمالية تطل علينا من كل الزوايا، طرق محفورة – الحفر أعدل قسمة بين الطرق في القرى والمدن- غياب فضاءات للترفيه، وإن وجدت فهي بدون روح، غياب المساحات الخضراء، فضاءات وشوارع بدون أرصفة، وإن وجدت فهي متآكلة ومتهالكة، وأخرى غير مبلطة، غياب مآرب للسيارات، بالوعات الصرف الصحي بدون أغطية، أشجار على جنبات الطرق دون تشذيب، هرمت في انتظار ريح قوية لتقوم بمهمة اقتلاعها وإسقاطها، أوعلى الأقل تكسيرها، إنارة عمومية منعدمة وإن وجدت فهي خافتة تكاد لا تضيء حتى على نفسها، جدران المدارس والمؤسسات مهترئة ومخربة وما خفي أسوأ (اكتظاظ وتكدس، كراسي متآكلة غياب التجهيزات الأساسية فوضى وعدم الانضباط ومناهج فاقدة لمنهج، ومربي في حاجة إلى تربية، ومؤطر في حاجة لتأطير، وبنايات طالها النسيان والتشويه، كما نام عليها الدهر بعد أن أكل منها وشرب، غياب الطلاء، وإن وجد فبدون جمالية وانسجام، أطراف من الزجاجات المكسرة مغروسة على قمم الجدران كسياج)، مستشفيات في حاجة إلى الصحة،- فاقد الشيء لا يعطيه-، غياب الممرات لتسهيل الولوج إلى المرافق العمومية خاصة لذوي الاحتياجات الخاصة، الترخيص لمحلات الحدادة والنجارة والميكانيك للاشتغال وسط دور السكن، واستنبات مصانع في قلب المدينة، أنابيب دخان موجهة نحو السماء لحمامات وأفران تنفث دخانها بشكل مسترسل ليل نهار، أزبال رائحتها معممة تزكم الأنوف في كل الجهات. حتى الغابات لم تسلم من بصمات الأيادي المخربة، كما لم تسلم شواطئنا وبحورنا من متلاشيات وأزبال متنوعة، إنه السخاء، عفوا الدمار. مشاريع غير مكتملة تتحول إلى أطلال، وتصبح مآوي وأعشاشا للمهمشين والمقصيين. البدء في أشغال الحفر وما يشبه الصيانة، دون سابق إشعار أو توجيه وفي غياب وسائل التشوير والإخبار والتعويض.
أشكال من السرقة الموصوفة (عن سابق إصرار وترصد) مرخص لها: مقاهي ومتاجر قضمت -ما شاء الله- عفوا ما شاء مالكوها وما شاء مسيرو ومسؤولو المدينة من الأرصفة، كما استحوذوا على أجزاء من الطرق أي الجنبات المجاورة لأرصفة مقاهيهم ومحلاتهم التجارية، هذا الاستحواذ الممنهج على الأرصفة، إذ بعد أن تراموا عليها وقضموا منها ما شاؤوا وتركوا ما عرضه مترا واحدا من هذه الأرصفة كممر للراجلين، عادوا واستحوذوا على ما تبقى بعد ذلك. مما دفع بالمارة ليتراموا ويتزاحموا وسط الطرق المعبدة المخصصة للسيارات، متمايلين في سيرهم، يجتازون الطريق وهم راسمون خطا مائلا غير مستقيم، ربما عن غريزة أو فطرة يطبقون نظرية فيتاغورس PYTHAGORAS.
إن استشراء واستفحال ظاهرة احتلال الملك العمومي، حول أية بقعة أرض فارغة لمشروع مستودع أو براكة، أو مرتع للمهمشين والمقصيين، أو مزبلة. وكل الأزقة وكل الشوارع مرشحة في أية لحظة لأن تصبح أسواقا يومية أو على الأقل أسبوعية، كما أن غياب أمكنة للنظافة وقضاء الحاجة يحول أية زاوية خصوصا إذا كانت مظلمة إلى مراحيض عمومية.
في ميدان النقل والتنقل، تجوب شوارعنا كما أزقتنا، وسيلة عجيبة وغريبة، إنها “التريبورتور”le triporteur“، أو “البراكة المتحركة”، أو الموت الذي يتجول في أزقتنا وفي شوارعنا بترخيص. حافلات منتهية الصلاحية بكراس متآكلة، قد تغامر بثيابك إن كانت من النوع الثمين وأنت تجلس عليها، سيارات أجرة مهترئة لا تقفل أبوابها إلا إذا استعملت معها العنف، عفوا أريد أن أقول القوة، دخانها الموجه نحو أنوف المارة يخنق الأنفاس وربما يحملك على الغثيان، مما يؤشر على وقود من النوع الرديء، وصوت محركاتها يسبب صداع الرأس، دون أن ننسى تكديس البشر كما تكدس السلع. التوقف المستمر: لحافلات النقل وللشاحنات وكذا لسيارات الخواص ولسيارات الأجرة الصغيرة منها والكبيرة، دون إشعار أو إشارة أو احترام لأماكن التوقف والوقوف، سائقون يستعملون المنبه الصوتي klaxon بمجانية وبسخاء مفرط وآخرون لا يحترمون حق الأسبقية والسرعة المسموح بها وسط المدينة، كما لا يحترمون علامات التشوير إن وجدت. وأزقة عليها علامات تشوير مهترئة ومتآكلة بخيلة لا تفصح عن شيء إلا عن استهتار مكشوف بسلامة الناس وأرواحهم.
وأنت تتجول بأحد الأسواق: ضجيج لا متناهي، واكتظاظ مكتمل، مرغم أنت لا مخير على سماع كل أنواع الموسيقى في نفس اللحظة وفي نفس المكان كما أنت مرغم على سماع أشكال من القراءات والتجويد القرآني، معذرة -إن ترتيل القرآن دون مستمعين منتبهين وخاشعين لا يعدو أن يكون إلا ضجيجا ينضاف إلى الضجيج المستشري-. في دكاكين بعض التجار، تصادفك مجاملة زائدة عن اللزوم حتى تتحول إلى نفاق مستشري لا يحتمل ملفوف لطمع طافح يأتي على الأخضر واليابس، كل ذلك من أجل تمرير الزيادات غير المبررة وغير المعقولة في الأسعار غير المحددة ولا المعلنة أصلا.
مع كل آذان للصلاة عدا صلاة الصبح، تتحول فضاءات المساجد إلى أسواق وضجيج وعراك وأوساخ متناثرة. وداخل المسجد قد تصلي وأنت غير خاشع بل خائف حتى لا تعود إلى منزلك حافي القدمين وعند الخروج الكل بتسابق إلى الأبواب في غياب للتسامح ولنظام طال انتظاره مما يسبب في اكتظاظ مفرط -لا أدري إن كانت صلاتنا فعلا تنهانا عن الفحشاء والمنكر أو حتى دون ذلك؟-. في ليالي فصل الصيف تكثر حفلات الزفاف التي لا تخلوا من ضجيج وصخب مترامي الأطراف مسترسل حتى الصبح دون مراعاة الآخرين.
البائعون المتجولون في كل مكان استحوذوا على “نصيبهم” مما تبقى من الأرصفة. وأي عاطل هو مشروع بائع متجول، هو مشروع حارس سيارات، أو رجل أمن خاص “agent de sécurité“، أو نشال قد يحصل على وسام من درجة “مشرمل”.
الكلاب والقطط الضالة تكون مجموعات متجانسة مع المهمشين والشحاذين والمتسكعين والمقصيين في كل مكان. لا أدري لماذا يستفزنا الإنسان الذي يفطر جهرا في شهر رمضان؟ ولا يستفزنا منظر طفل أو شاب أو عجوز متخلى عنه ينام على الرصيف، أو مشهد علني لفعل تقديم رشوة مقابل عمل غير قانوني، إن لم نكن نحن الراشين أو المرتشين. أو فعل احتلال ملك عمومي، أو مشهد لشاب أو لرجل يعاكس ويتحرش ببنت أو امرأة وسط الطريق، خصوصا إن كان راكبا على سيارته مما يعرقل حركة السير في الشارع العمومي. كما لا يستفزنا السكر العلني والعربدة والكلام النابي والشتم والسب بسخاء قد يشمل جميع المارة ويكون لك أنت أيضا نصيبك في ذلك. أو التبول، التنخيم، البصق، تفريغ محتوى الأنوف المثقلة، التدخين ثم القذف بأعقاب السجائر في كل الاتجاهات وفي كل الأمكنة حتى دون إشعار.
وسط الشارع العمومي، وأنت تسير في الرصيف أو جالس على كرسي في مقهى، يثير انتباهك راكب على سيارة قد تكون مهترئة أو فخمة يقوم بفتح الزجاجة الجانبية ليس ليستنشق الهواء، لكن ليقذف بعلبة سجائر فارغة أو قارورة مشروب ما أو أعقاب سجائر أو على الأقل بصق، دون أي إحساس بذنب أو حرج أو استحضار لضمير لقد طال غيابه.
في أحد أهم وأشهر شوارع الرباط عاصمة المملكة حيث الاستعراض اليومي والروتيني لكل تضاريس الأجساد،– للأنثى مثل حظ الذكرين- (وقس على ذلك شوارع جل المدن المغربية) وعلى الأرصفة “النظيفة” وفي كلتا الضفتين، تسترعي انتباهك رقع رمادية تميل إلى السواد في لونها صغيرة في حجمها كثيرة في عددها، إنها للعلكة إذ بعد لوكها ومضغها، يتم القذف بها على هذه الأرصفة مباشرة من الأفواه، في حركة لا تزيد تحضرا عن حركات الأنعام، وبعد ذلك تداس بأقدام المارة، أجزاء منها تلتصق بأحذيتهم، وأخرى تلتصق بالأرض كأنها أجزاء لا تتجزأ من رخام وزليج الأرصفة، تؤثث لمنظر مشمئز وغير حضاري.
هذه الممارسات والسلوكيات والأفعال لا تقتصر على عامة الناس فقط، بل نجدها حتى عند خاصتهم أيضا، بل حتى عند النخبة والصفوة، مما يجعلنا نتحدث عن ظاهرة عامة وشاملة. هل يجوز لنا أن نتحدث عن خلل في القيم؟ هل نتحدث عن اضطرابات سلوكية وبالتالي معرفية؟ هل نتحدث عن عادات مألوفة من غير المفكر فيها؟ هل نتحدث عن تخلف اجتماعي وحضاري؟
إنه العنف الصلب ثلاثي الأبعاد “3D“، إنها الفوضى الخلاقة، خلاقة للفعل وللحركة، وفي الحركة بركة،- فاليمن كاليبن، ومريطانيا كبريطانيا، والمغرب كالمشرق-. ورغم ذلك فهي تدور، عفوا ليست الأرض، وإنما عجلة الحياة والاقتصاد. هي فوضى خلاقة للسوق وللتجارة “الحرة” غير المهيكلة. إنها ركام من الرداءة في قمة عطائها وفي أبهى حللها، وفائض من الضحالة في زمن الحضارة.
في الفضاء العمومي، نحن في حاجة ماسة إلى احترام أنفسنا وبالتالي احترام الآخرين. نحن في حاجة للتربية على ثقافة الاختلاف والتنوع. نحن في حاجة إلى استيعاب قيم الحرية. ينقصنا الإيمان بالفرد كذات مستقلة داخل جماعة. ينقصنا فهم معنى التميز وليس التمييز. هناك خصاص وفقر مدقع لقيم وأخلاق تسترعي المشترك والجماعي. هناك إقصاء لكل ما هو جميل وترحيب بقبح مكتمل. تنقصنا التربية على المسؤولية والمحاسبة. هناك تغييب للعقل والإبداع وبالتالي للإنسان في جوهره.
ماذا لو وضعنا مرآة ضخمة على سمائنا ونظرنا كلنا جميعا إلى ذواتنا وأنفسنا في لحظة واحدة وقلنا بصيحة واحدة كفى؟.
تنبيه : دون أن تكون مرآتنا هاته مقلوبة أو معوجة أو في حالة مهترئة.