عرفت بلادنا في السنين الأخيرة موجة من الأحداث التي أدت، في الكثير من المناسبات، إلى نزول الشباب المغربي للاحتجاج في الشوارع، والتعبير عن سخطهم إزاء تدهور الظروف المناسبة للعيش الكريم.

وفي كل مرة يخرج هؤلاء، إلاَّ وانقسم المغرب إلى قسمين، بين مؤيد ومعارض. لكِنَّ ما شدّ انتباهي هو تلك الخرجات الإعلامية لبعض أئمة المساجد، وبعض الأحزاب وخُدّام الدولة لنصْح الناس من أجل إقناعهم بالمكوث في منازلهم مخافة نشوب الفتنة !!.. كل هذا باسم الدين، أو إنّ الظرفية التي تمر بها البلاد لا تسمح!

هنا بدأ فضولي، وطفِقتُ أتساءل عن المعنى الحقيقي للفتنة؛ فإذا كانت كل شعوب العالم التي تتقدم، يوماً بعد يوم، تخرج، من حين لآخر، للمطالبة بحقوقها إذا ما ستدعى الأمر ذلك؛ فكيف يمكن لشعبنا الأبيّ، المُسالِم على مرّ التاريخ، أن يصمُت، وهو يرى الفتن ليل نهار؟!

الفتنة، يا سادة، هي الرضوخ والرضا بالظلم، ونحن أمة العدل؛

الفتنة، يا سادة، هي تفشي الفقر في كل قريةٍ قرية، وفي كل مدينةٍ مدينة، في وطن حباه الله من الخير الكثير (فوسفاط، معادن نفيسة، ثروة سمكية، موقع جغرافي متميز…)؛

الفتنة، يا سادة، هي التوزيع غير العادل لثروات الوطن؛

الفتنة، يا سادة، هي الجهل المقصود الذي يعاني منه مواطنونا؛

الفتنة، يا سادة، هي أن المغرب يحتل الرتب الأخيرة، وأؤكد على الأخيرة، من حيث جودة التعليم!

فمن المسؤول إذاً عن هذه الفتن؟! الفتنة – للأسف الشديد – هي واقعنا المُرّ الذي نعيشُه!

لهذا أتوجه إلى بعض الأئمة والدكاكين السياسية بالآتي: من فضلكم، قولوا ما شئتم، لكن دَعْكُم من الفتنة؛ لأنكم لا تعرفون معناها. لقد مزجتم بين أمل التغيير الحضاري السلمي والفتنة!  وشتّانَ بين هذا وذاك!

وإذا كانت أوضاعنا الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الحالية لا تسُرّ أحداً، فإن التغيير السلمي الحضاري أصبح خياراً واقعياً يَفرِضُ نفسه. أما الأصوات المُنادية بالرضا بالظلم لاعتبارات بعينها، والقابلة بالتطبيع مع الفساد المستشري، وتنويم المواطنين عبر حكايات لا تنتهي، فقد أصبح خطابها غير مقبول بتاتاً!

وإذا كنتم حريصين على استقرار البلد، فإننا أحرص منكم عليه؛ لأن مصيرنا مرتبط به دون سواه. كما أننا واعُون بأنَّ طاعة ولي الأمر واجبة بمقتضى النصوص الشرعية والأعراف، ولا يختلف اثنان على هذا. لكن هذا الولي وجب مساعدته إيجاباً حتى يتمكن من قيادة هذه الباخرة/ الوطن. الوطن بدون شعب واعٍ كجسم بدون روح. وعليه، فإن كل مظاهر النفاق الاجتماعي؛ من قبيل: “قلْ العامْ زِينْ”، لا تمكِّن القبطان من القيادة الحكيمة. اليوم، الملكية هي الأجدر بأنْ تلعب هذا الدور الإصلاحي؛ لأنها في حاجة إلى ذلك لضمان بقائها واستمراريتها. كما أنها في حاجة إلى شعب واعٍ للعمل يداً في يد من أجلِ غدٍ أفضل.

إنّ كل مبادرة تسعى إلى الرقي بالمواطن ليصل إلى درجة المواطنة الحقيقية يجب دعمها بكل الوسائل. لهذا، فإنَّ التربية والتثقيف والعمل على نشر الوعي من أولى مسؤوليات الدولة المغربية؛ إذْ لا يُعقل للدولة أن تُلزم المواطنين بأداء واجباتهم؛ من دفع للضرائب، ودفاع عن الوطن… وتتغاضى – في نفس الوقت – عن دورها المهمّ والحيوي في صيانة حقوقهم؛ من مثل: حقهم في التعليم، والتطبيب، والعيش الكريم… وعليه، فاحتراماً للتوازن الرياضي بين طرفي هذه المعادلة، وحتى نكون مُنْصفين، فإنّ التغيير يستدعي تضافر الجهود من الدولة المغربية ومواطنيها على حد سواء.

وفي الواقع، فإن كلمة “التغيير” أخافت – وما زالت تُخيف – الكثير من المسؤولين المغاربة؛ هؤلاء الذين ليس لهم أيُّ شرعية تاريخية، كاريزما، مؤهلات، غيرة على الوطن… فحينما نسمع بشكاوى المواطنين؛ من رداءة الإدارة المغربية وفسادها مثلاً، نتيقن أنَّ هؤلاء المسؤولين يَعيثون في الأرض فساداً، وكأنهم ما خُلقوا إلا ليستنزفوا ثروات البلد وخيراته مقدّراته. وعليه، فإن التغيير يجب أن يبدأ من هؤلاء أولاً، وألاّ يقتصر – بخلاف ما عوّدونا عليه – على معاقبة الموظف الصغير الذي لا يُنفّذ إلا أوامر عليا.

إن كل محاولة لتأخير هذا التغيير تعقِّد الوضعية الحالية وتؤزّمها أكثر فأكثر؛ الشيء الذي يزيد من حدة الفتن.. حينها قد لا ينفع الإصلاح! الإصلاح؛ كما قال الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله، شبيه بالعملية الجراحية.. كلما تأخر إجراؤها صعُب أو استحال نجاحها.

وفي الأخير، نقول إن الواجب على الدولة أنْ تقلِّص الهوة الفاصلة بينها وبين الشعب حتى تتمكن من مواكبة ومجابهة التحديات الآنية والمستقبلية، ثم العمل على التصالح مع تاريخها، والتقارب مع كل الشرائح المجتمعية. 

ولولا حبّي لوطني ولأبنائه لمَا عمَدتُ إلى كتابة هذه السطور، إيماناً منَّي بأنَّ مصلحة الوطن هي قبل كلِ اعتبار لدينا جميعا نحن المغاربة في الداخل كما في العالم كله!

– دكتور مختص في علوم التسيير من جامعة بوردو الفرنسية

بوردو، 06 أبريل 2017.