
"العدالة والتنمية"بين الانتصار والانكسار

يختلف سياق انتصار حزب العدالة والتنمية في معركة 2011، عن سياق انتصاره في معركة 2016، حيثإن الانتصار الأول جاء في ظل وضع إقليمي عرف اندلاع انتفاضات شعبية امتدت ألسنتها لمعظم الدول العربية، وأدت إلى تغييرات جذرية في عدد من أنظمة الحكم.
آراء أخرى
أما الانتصار الثاني لعام 2016، فإنه جاء في سياق إقليمي ودولي تطبعه تراجعات في الحقوق والحريات وإجهازعلى محاولات التحول الديمقراطي داخل الأنظمة العربية، وهو ما كان له تداعيات سلبية على الوضع السياسي العام بالمغرب، حيث سجل عدد من المراقبين عودة السلطوية إلى الحياة السياسية.
وكانت هذه النزعة السلطوية قد تراجعت بعد الحراك الشعبي، ما سمح لحزب سياسي معارض بالوصول إلى الحكومة، لكن بعد الاضطرابات التي شهدتها عدد من الدول العربية، واستعادة الأنظمة المستبدة لسلطاتها، بدأت تظهر ممارسات سلطوية داخل الدولة، تريد الهيمنة على مدخلات ومخرجات الانتخابات التشريعية للسابع من أكتوبر الماضي، من خلال التدخل المباشر في العملية الانتخابية، من أجل التحكم في نتائجها.
وقد تجلت عودة السلطوية في الدعم غير المحدود الذي تلقاه”البام” الحزب المقرب من السلطة في الانتخابات الأخيرة، في مقابل التضييق على غريمه حزب العدالة والتنمية، ومع ذلك حصلت المفاجأة.. وفشلت السلطوية في كسب المعركة الانتخابية، واحتل البيجيدي مرتبة الصدارة، بفارق كبير عن خصمه اللدود، وهو ما كشف عن عجز السلطوية على هزم حزبله شعبية بالاحتكام إلى الصناديق، وهوما دفع خصوم الحزب إلى تغيير تكتيكي في اللاعب السياسي، حيث استبدل “الجرار” بـ”الحمامة”،وكان الهدف هوالانقلاب على نتائج انتخابات 7 أكتوبر، حسب ما أعلنعنه حميد شباط، الأمين العام لحزب الاستقلال، الذي رفض مشاركة حزبه في “المؤامرة”، ولذلك يؤدي وحزبه اليوم ثمن هذا “العصيان”.
لمتقبل السلطوية بالهزيمة، ولذلك كانت معركة تشكيل الحكومة، معركة حاسمة ومصيرية، بالنسبة للطرفين، بين حزب يستمد قوته من الشرعية الانتخابية، وبين قوى تستمد قوتها من قربها منالسلطة، وقد برز ذلك من خلال عملية تعطيل مشاورات تشكيل الحكومة، التي دامت لأكثر من 5 أشهر، عنوانها الأساسي إثقال كاهل ابن كيران بالاشتراطات الممنهجة، التي وضعها “مبعوث” السلطوية، وذلك لفرض الأمر الواقع، والتحكم في مخرجات الهندسة الحكومية، بعيدا عن النتائج الانتخابية.
وبعد تعثر مشاورات تشكيل الحكومة، لم يعد هناك مجال للحديث عن الإرادة الشعبية، وأصبح ميزان القوى لصالح حزب “السلطة” الذي لم يحصل سوى على 37 مقعدا، وحل رابعافي الاستحقاقالانتخابي، ومع ذلك أصبح هو الذي يقودمشاورات تشكيل الحكومة، ويفرض الشروط التي تمليها عليهالقوى السلطوية في محاولة لوضع هيكلة حكومية بعيدة عن الشرعية الدستورية.
من دون شك أن حزب العدالة والتنمية كان يدرك هذا التوجه السلطوي (التحكم)الذي يسعى لإبعاده عن قيادة التجربة الحكومية، ولذلك أظهر بعض المقاومة،وتشبث باستقلالية قراره، وعدم إذعانه لشرط استبعاد حزب الاستقلال من الحكومة، لكنه لم يستطع الاستمرار في المقاومة، واستسلم بعد الضغوط التي تعرض لها، لتتوالى التنازلات بعد ذلك، ليجد الحزب نفسه في مواجهة سلسلة من الاشتراطات،تروممن جهة تعقيد مهمة ابن كيران تشكيل حكومة منسجمة، ودفعه إلى الفشل، ومن ثم استبعاده من رئاسة الحكومة، ومن جهة ثانية إحداث انقسام داخل حزب “المصباح”، الذي أصبحت شعبيته تثير قلق خصومه، خاصة بعد حفاظه على موقعه كقوة سياسية أولى، في ظل تراجع وضعف الأحزاب الأخرى،وهو ما وضعه في مواجهة مباشرة مع السلطوية، التي تريد أحزابا ضعيفة ومنكسرة ولا تملك قرارها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي تداعيات الخسارة التي مني بها حزب العدالة والتنمية في معركة تشكيل الحكومة؟
لا توجد هناك مؤشرات إيجابية بعد كل هذه التراجعات، تدعو إلى التفاؤل بأن البلاد تسير في طريق تكريس “الاختيار الديمقراطي” الذي صار من “الثوابت الدستورية”، خاصة بعد الإفراج عن التشكيلة الحكومية الجديدة، والتي حملت مفاجآت غير مطمئنة على مصير التجربة السياسية المغربية، وأعادت البلاد إلى النماذج القديمة من الحكوماتالمفصلة على مقاس السلطوية.
إن التشكيلة الحكومية الجديدة، جاءتخارج كل الانتظارات المجتمعية، وقد اعترف ابن كيران الأمين العام لحزب المصباح أمام شبيبة حزبه، بأن حزبه خسر معركة تشكيل الحكومة أمام السلطوية، لكنه رفض الاستسلام، وأكد عزمه على مواصلة النضال والعمل من كل المواقع لأجل الإصلاح.
يبدو أن اختيار العثماني بديلا لابن كيران، كان قرارا مدروسا بعناية، الهدف منه إرباك الوضع الداخلي لحزب المصباح، وزرع بذور الشقاق والانقسام داخله، وقد تجلى ذلك في الخلافات التي تفجرت مباشرة بعد إقالة ابن كيران
وهناك شبه إجماع على أنه الحكومة الجديدة جاءت مخيبة للآمال، يغلب عليها التقنوقراط، وهيمنحزب أخنوش، على الوزارات الوازنة،رغمتمثيليته الهزيلة في البرلمان 37 مقعدا، وهذا ما يجعل هذه الحكومة لا تحظى بثقة ورضى أغلبية المغاربة، الذين كانوا ينتظرون حكومة سياسية تترجم الإرادة الشعبية.
قيادةحزب العدالة والتنمية، هي الأخرى لم تكن راضية على هذه الحكومة، بما في ذلك سعد الدين العثماني رئيسها المعين، الذي عبر في حديث للصحافة عن عدم رضاه، قائلا: ” حينما يكون هناك تحالف حكومي من ستة أحزاب، فلا بد أن تتنازل.. ولا يمكن أن تكون راضيا مائة بالمائة”.
أثارت التنازلات المهينة التي أقدم عليها العثماني، موجة من الانتقادات الواسعة من داخل الحزب ومن خارجه، حيث عبرت قواعد الحزب عن غضبها من التخلي عن الشروط التي وضعها الحزب في مشاوراته الأولىلتشكيل الحكومة، وأهمها رفض مشاركة الاتحاد الاشتراكي، واعتبر أغلب مناضلي الحزب، أن تراجع الأمانة العامة عن تضمين بلاغاتها العناوين السياسية القوية، من قبيلالتمسك بالإرادة الشعبية التي عبر عنها الناخبون في 7 أكتوبر، هو تخلي غير مبررعن المبادئ التي دافع عنها الحزب.
وحتى داخل قيادة الحزب هناك استياء كبير من التراجعات السياسية التي حصلت، بعد إقالة ابن كيران واستبدالهبالعثماني، وأيضا من التشكيلة الحكومية المعينة، حيث عبر عدد منهم عن غضبه من الالتفاف على نتائج الانتخابات، وفرض حكومة لا تعكس الإرادة الشعبية.
عبد العالي حامي الدين، عضو الأمانة العامة لحزب المصباح، عكس هذا الغضب من الردة التي شهدتها الممارسة السياسية بعد إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة، موضحا في مقالة له بعنوان ” نقطة نظام” “مشروع التحول السياسي بالمغرب تلقى ضربة كبيرة، والمرحلة المقبلة ستكون أصعب..”، وأضاف أن “الكثيرون ممن انتقدوا قبول الحزب بشروط لم يكن يقبلها في السابق، دافعهم الأساسي هوالحفاظ على نجاح هذه التجربة من الفشل، لأن فشلها سيكون مكلفا للجميع وهذا ما لا يريد أن يستوعبه البعض..”، مؤكدا أنه ” لا مجال لتنزيه الذات عن الوقوع في الأخطاء، وينبغي معالجتها بالسرعة اللازمة، وترميم ما فات استعدادا لما هو آت، وهو الأصعب”، مشيرا إلى أن” حزب العدالة والتنمية لا يمكن أن يسمح بمتتاليةالتنازلات أن تستمر، وأن ينسى الهدف الذي جاء من أجله ألا وهو الإصلاح”.
عبد العزيز أفتاتي، القيادي في الحزب، كان أكثر جرأة في التعبيرعن غضبهمن التراجعات التي عرفها المشهد السياسي، وصرح للصحافة بأن ” الحكومة التي تم تعيينها لا علاقة لها بالانتقال الديمقراطي، وتم تلغيمها بعناصر مناوئة لاختيارات الشعب”.
نفس الموقف عبرت عنه عضو الأمانة العامة لحزب المصباح، عندما تحدثت عن ما أسمته تعرض حزبها “لإذلال غير مبرر، وما يتعرض له المسار الديمقراطي من نكوص، وما تعرفه السياسة من اغتيال للمعنى، منتقدة الذين يدعون لعدم القلق من هذه التراجعات، مؤكدة على أن “رفع أولوية وحدة الصف حق لا يمكن أن يراد به باطل”.
حتى من خارج الحزب، هناك أصوات خرجت لتعلن عن عدم قبولها بالمسار غير الديمقراطي الذي دخلت فيه مشاورات تشكيل الحكومة، والذي أفرز حكومة ضعيفة وغير منسجمة، وفي هذا الصدد، أشار حسن طارق أستاذ العلوم الساسية، أن ” هاجس صناع الحكومة الجديدة، كان هو محو الإرادة الشعبية، والالتفاف على رسائل الناخبين،وهو هاجس تم تدبيره بالكثير من الحرص والدقة والرمزية، إن على مستوى بناء الأغلبية أو على مستوى الأسماء التي اقتضى الترتيب السياسي إبعادها أو اقتضت الحاجة دفعها للواجهة، في إجهاز واضح ومشهدي على فكرة الحكومة المنتخبة”.
ولم يبتعد كثيرا السوسيولوجي محمد الناجي، عن القراءة التي قدمها الأستاذ طارق، والذي انتقد بشدة قيادة المصباح، وحملها المسؤولية عن التنازلات لأجل تشكيل الحكومة، وأوضح الناجي أنه ” ليس هناك أي مسوغ للتراجع إلى الوراء”، مضيفا ” أن الطريق الوحيد للمناضلين المسؤولين هو التموقع في المعارضة، وتنظيم انتخابات جديدة”، محذرا من كون “الحزب سينهار، بسبب القيادات التي باعته.. البيجيدي لن يعيد قصة اليسار..”.
تأسيسا على ردود الفعل الرافضة، للتراجعات السياسية الحاصلة، بعد الالتفاف على نتائج الانتخابات، والتنازلات التي قدمتها قيادة “المصباح”، وقبولها بكل الاشتراطات التي كانت ترفضها من قبل عندما كان ابن كيران يقود مشاورات تشكيل الحكومة.
من كل سبق، يبدو أن اختيار العثماني بديلا لابن كيران، كان قرارا مدروسا بعناية، الهدف منه إرباك الوضع الداخلي لحزب المصباح، وزرع بذور الشقاق والانقسام داخله، وقد تجلى ذلك في الخلافات التي تفجرت مباشرة بعد إقالة ابن كيران، بين قياديين ومناضلين غاضبين من إقالة زعيمهم من جهة، ومن جهة أخرى قبول العثماني بمشاركة الاتحاد الاشتراكي، بعدما كانت الأمانة العامة متمسكة بالرفض.
ومن تجليات هذه الانقسامات بشأن التعاطي مع المستجدات السياسية، خروج قياديينفي البيجيدي بتصريحات متعارضة، تعكس مدى الخلاف والتضارب في تقدير الموقف السياسي المناسب،لما بعد إقالة ابن كيران،وتدبير هذه المرحلة الدقيقة منحياة الحزب، وهكذا خرجت أمينة ماء العينين البرلمانية وعضو الأمانة العامة لتعبر صراحة عن موقف سياسي يتبناهعدد من قواعد ومناضلي الحزب، والرافض للتنازلات التي قدمها العثماني من أجل تشكيل الحكومة، قائلة ” أتابع ردود فعل مناضلي الحزب ومتعاطفيه، وأغلبها ردود فعل ناضجة تعبر عن الغضب وتدعو إلى وقف النزيف” مضيفة ” قمع الرأي المخالف وتبخيسه وتصوير المناضلين في الميدان (…) لا يمكن نعتهم اليوم باللانضج، خاصة وأن قيادة الحزب لا تتواصل معهم..”، في رد على الموقف الآخر داخل الحزب، الذي يدعو للتهدئة وعدم انتقادالتنازلاتالمقدمة، حفاظا على وحدة الحزب، وهو الموقف الذي دافع عنه محمد يتيم عضو الأمانة العامة.
حالة الغليان غير المسبوقة في تاريخ الحزب المحافظ، يبدو من التطورات المتلاحقة، أنها لن تهدأ في الأمد القريب، خاصة بعد توالي التنازلات، التي أدت إلى حرمان الحزب الحائز بالرتبة الأولى، من الوزارات المهمة ، وبدأت الأصوات تخرج من دائرة الاحتجاج الافتراضي، إلى الدعوة للاحتجاج الميداني..
كل هذه التطورات، تجعل مستقبل حزب العدالة والتنمية غامضا، وهناك مخاوف متنامية لدى قطاع واسع من الأعضاء والمناضلين، من تداعيات هذه التراجعات على وحدة الحزب، وهذا ما يفسر دعوة بعض القياديين إلى ضرورة تجاوز الخلافات السياسية، من أجل الحفاظ على تماسك الحزب.
لكن، لا يبدو أن هذه الدعوة سيكون لها صدى داخل الحزب، بعد نجاح النظام في تصدير نتائج أزمة تشكيل الحكومة إلى داخل الحزب، وحدوث خلافات في صفوفه، قد تتسع لتعصفبتماسكه في المستقبل، إذا لم يتم تدارك الموقف.
وبعيدا عن لغة العواطف، بعد حديث بعض القادة عن ضرورة وضع مسافة بين رئاسة الحكومة وبين الأمانة العامة للحزب، فإن هذا مؤشر دال على أن القرارات التي اتخذها العثماني لم تحظ بالموافقة داخل قيادة حزب المصباح، والشيء المؤكد هو أن ذلك يهدف الحفاظ على وحدة الحزب واستقلالية قراره، حتى لا تتحمل القيادةالمسؤولية عن التراجعات التي أقدم عليها العثماني.
وإذا أراد الحزب أن يحافظ على تماسكه، عليه بممارسة نقد ذاتي لأداءه ومواقفه السياسية التي اتخذها خلال مرحلة تدبيره للمشاورات وما بعدها، وتفويت الفرصة على الخصومالذين يتربصون به الدوائر،ويسعونلإضعافه من خلال ضرب وحدته، ومحطة المؤتمر القادم فرصة حاسمة للقيام بالمراجعة والتقييم الموضوعي للأخطاء، وتحديد المسؤوليات ، من أجل إنقاذ الحزب من الانكسار.