إنها دعوة تأتي في زمن استُبيحت فيه الأحزاب السياسية، وتحولت إلى تنظيمات مسلوبة الإرادة .. لا تقوى على الدفاع عن نفسها فبالأحرى تمثيل المواطنين والدفاع عن مصالحهم.

إنها دعوة تستحضر المشهد السياسي السوريالي في المغرب الذي أصبحت فيه كل قيم النضال والنبل والتضحية معروضة للبيع في سوق البروباغندا السياسية.

إنها دعوة تستلهم روح الكتلة الديمقراطية التي تأسست سنة 1992 والتي خلخلت موازين القوى السياسية في المغرب، وكان لها أثر بالغ في ما عرفه المغرب من انفراج سياسي ومصالحة مع الذات وإعادة الاعتبار للممارسة السياسية.

إنها كذلك مبادرة مُلِحَّة أعتبرها أحسن جواب على الوضع السياسي المغربي وما يعرفه من اختلالات بنيوية تنطوي على الكثير من المخاطر لحاضر البلاد ومستقبلها.

نعم، إنها كذلك مبادرة للهروب من الواقع المرير للأحزاب التي سُلبت إرادتها ورضخت لكل الإملاءات، وأضحت عالة على الشعب عوض أن تكون لسان حاله، ومعبرة عن انتظاراته، وخادمة لمصالحه.

إنها فرصة لإعادة تمرين الأحزاب السياسية على قول “لا” التي تكاد تنمحي من معجمها السياسي، وفرصة كذلك لبعث الروح في كيانها من جديد بعد الأعطاب المتتالية التي طالتها، والتي أفقدتها الكثير من وهجها وبريقها.

إنها شمعة أصبح من الضروري إيقادها لإضاءة طريق السياسة المعتمة في المغرب، والتي بات وضعها البئيس يؤرق كل الوطنيين وكل الديمقراطيين.

إن بلوغ هذا الهدف يتطلب تحقيق تراكمات سياسية وشروطا ذاتية وموضوعية، كما يتطلب تنسيق الجهود بين الأحزاب على المستوى البرلماني وعلى المستوى الشعبي وعلى صعيد المؤسسات الجماهيرية ..

هي دعوة تهدف إلى المحافظة على ما تبقى من هيبة السياسة في المغرب، وتجاوز أعطاب الممارسة السياسية الوطنية، كما تسعى إلى ترسيخ الديمقراطية، وحشد القوى الحية للمجتمع وتعبئتها وراء المشروع الديمقراطي، دون إغفال المطالبة بتعديل الدستور، وقطع الطريق على قوى التحكُّم، وإعادة الاعتبار للأحزاب المنبثقة من رحِم الشعب المغربي  ووقف الحملة الشرسة التي تستهدف الأحزاب الوطنية ..

إن الأحزاب السياسية المؤهلة في نظري – وبالنظر لعدة اعتبارات – للدخول في هذه الجبهة هي حزب العدالة والتنمية وحزب الاستقلال و حزب التقدم والاشتراكية والحزب الاشتراكي الموحد، ومن الاعتبارات التي أعتبرها جوهرية هي استقلالية القرار الحزبي، والخروج من دائرة الوصاية المخزنية، والالتزام بالقضايا العادلة للشعب المغربي وعلى رأسها الديمقراطية والكرامة والعدالة الاجتماعية.

لكن هكذا مبادرات تنتصب أمامها صعوبات جمة تتمثل في التموقع السياسي للأحزاب الأربعة بين الحكومة والمعارضة؛ فحزب العدالة والتنمية يرأس الحكومة، وحزب التقدم والاشتراكية يشارك فيها كحليف قوي، أما الحزب الاشتراكي الموحد فيتموقع في المعارضة، في حين مازال حزب الاستقلال متأرجحا بين المساندة النقدية والمعارضة بالنظر إلى التطورات التي عرفتها العلاقة بين حزبي الاستقلال والعدالة والتنمية منذ إعفاء الملك لبنكيران، والمواقف المعلنة لفريق الوحدة والتعادلية من البرنامج الحكومي وعلى وجه الخصوص التصويت بالامتناع عليه يوم الأربعاء 26 أبريل 2017، وهو تصويت يحمل أكثر من دلالة، وله ما بعده..

هذا التموقع يعتبر عاملا سلبيا من شأنه أن يئِـد الفكرة لأن خلق جبهة ديموقراطية على هذا المستوى يحتاج إلى ترتيبات وتنسيق جهود الأحزاب على المستوى البرلماني من خلال تقديم مقترحات قوانين مشتركة وأسئلة مشتركة وتعديلات مشتركة لمشاريع القوانين بالإضافة إلى عقد لقاءات دراسية وندوات مشتركة لتسليط الضوء على بعض القضايا الوطنية، كما يتطلب نقل هذا التنسيق إلى المستوى الجهوي والمحلي  …

كما أن سؤال المرجعية ينتصب عقبة كؤودا أمام تقارب هذه الأحزاب .. فالحزب الاشتراكي الموحد الذي يجمع فصائل مناضلة من اليسار الجديد وجزءا من الحركة الاتحادية يتبنى المرجعية الاشتراكية، بينما حزب العدالة والتنمية يتبنى المرجعية الإسلامية، أما حزب التقدم والاشتراكية وريث الحزب الشيوعي المغربي الذي تخلى عن شيوعيته سنة 1995 فيتبنى المرجعية الاشتراكية الديمقراطية، في حين يتبنى حزب الاستقلال التعادلية الاقتصادية والاجتماعية ..

إن بلوغ هذا الهدف يتطلب تحقيق تراكمات سياسية وشروطا ذاتية وموضوعية، كما يتطلب تنسيق الجهود بين الأحزاب على المستوى البرلماني وعلى المستوى الشعبي وعلى صعيد المؤسسات الجماهيرية ..

إن هذه المبادرة التي تمتح مشروعيتها من الواقع السياسي المغربي – الذي لا يرتفع – تعترضها تحديات كبيرة من جملتها استهداف زعماء الأحزاب وقادتها السياسيين من خلال توجيه الأعيان وخدام المخزن للانقلاب عليها، وهو الأسلوب الذي يُلجأ إليه لتأديب السياسيين ومنعهم من الاقتراب من الخطوط الحمراء التي لم تعد مقتصرة على حقل الملكية كما هو الشأن فيما سبق، بل امتدت إلى حقول أخرى، وأصبح مطلوبا من الأحزاب السياسية أن تتفاعل مع أجندات غريبة عنها، وأن تنصاع لتعليمات فوقية تحت مبرر “المصالح العليا للوطن” ..

كما أن الأحزاب التي تفكر بصوت مرتفع وتطالب بنفض الغبار عن السلطوية التي تقض مضجع الفاعلين السياسيين مهددة بالتجزيء والتقسيم حتى لا أقول الانقسام .. ولنا في منظمة العمل الديمقراطي الشعبي والتقدم والاشتراكية العبرة، حيث انشق الحزب الاشتراكي الديمقراطي عن منظمة العمل بسبب مواقفها الراديكالية وبسبب موقفها من دستور 96، وانشقت جبهة القوى الديمقراطية عن حزب التقدم والاشتراكية .. وهذان الحزبان من مؤسسي الكتلة الديمقراطية .. لذلك لا يستبعد التجاء المخزن إلى إضعاف كل حزب يقدم على خطوة كهذه لما تنطوي عليه من خلخلة لموازين القوى السياسية في البلاد.

إن المكتسبات التي حققتها الكتلة الديمقراطية منذ إرهاصات تشكلها كبيرة سواء على المستوى السياسي أو الحقوقي أو على مستوى الحريات.. فيمكن اعتبارها من أهم الأحداث السياسية التي عرفتها تسعينيات القرن الماضي؛ فميلادها جاء طبيعيا بالنظر للاحتقان السياسي الذي عاشه المغرب لثلاثة عقود .. وبالتالي فقد أسهمت الكتلة الديمقراطية في  تدشين دينامية الإصلاحات الدستورية، وإطلاق الحريات، كما مكنت المغرب من تحقيق الانفراج السياسي وتجنب السكتة القلبية.

إن ما جاء بالكتلة الديمقراطية أوائل تسعينيات القرن الماضي  كان وضعا مأزوما على مناحي الحياة السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية، لكن ما جاءت به الكتلة كان يصبُّ في اتجاه تحقيق الانفراج السياسي، كما كان نواة صلبة للارتقاء بالحياة السياسية المغربية على كافة الأصعدة والمستويات ..

لكن – في نظري – الكتلة الديمقراطية أصبحت جزءا من الماضي؛ لقد استنفذت أغراضها .. لأن مغرب اليوم يحتاج إلى جيل جديد من الإصلاحات .. إصلاحات تتطلب جرأة أكبر وتنظيمات سياسية قوية تشدُّ على استقلالية قرارها الحزبي بالنواجد، كما تتطلب خلخلة ميزان القوى لصالح دعاة الإصلاح والتغيير.

وبناء على ما سبق، فإن تأسيس جبهة وطنية ديمقراطية يبقى ضرورة مُلحة لحمل إصلاحات العهد الجديد، ومواصلة النضال من أجل تأمين الانتقال الديمقراطي .. لأن الانفتاح السياسي لم يعد كافيا؛ وأن المواطن المغربي أصبح نافرا من السياسة والسياسيين، وأن المشهد السياسي تميع بشكل غير مسبوق.