
ذاكرة الريف والعواقب الوخيمة للمقاربة الأمنية

شهدنا انتقال عدوى الثورة في المنطقة العربية وسط تغطية إعلامية مكثفة ومُوَجَّهة؛ فما أُطلق على تسميته الربيع العربي، مَثّلَ انتفاضة جماهيرية قوية، قامت فجأة ضد أنظمة قمعية ظنت نفسها سرمدية، ثورات أطاحت برؤوس زعماء كبار، وبرؤساء دول حَكَمَ مُعظمهم أزيد من أربعين سنة. حدثت هذه الثورات المتتابعة، بغتة، ودون سابق إنذار، كالإعصار المدمر، بعد عقود طويلة من الفساد، والظلم والقهر والاستبداد. وهذا الانتشار السريع والمذهل عائد في جزء منه إلى الفورة التي عرفها الإعلام خلال العقدين الأخيرين. لا أحد بإمكانه أن يُشكك في الدور الذي قامت به المحطات التلفزيونية، والشبكة العنكبوتية، ومواقع التواصل الاجتماعي في دينامية الثورات. ولا شك أنه عندما سيُكْتَبُ في المستقبل تاريخ الثورات سَيكون موضوع دور وسائل الإعلام، والأنترنيت، ومواقع التواصل الاجتماعي، حاضرا.
آراء أخرى
و بدورنا، ومن موقع المتابع للأحداث، وهي تجري أمامنا على الشاشات، لم نكن محايدين البتة، كنا نشاهد الأخبار، ونتابعها بقلق شديد، كنا نخاف على الثورة في كل مكان، كما لو أنها ثورتنا جميعا؛ فقد كنا نتمنى، وننتظر، في آن واحد، أن تنتصر إرادة الشعوب، وتنجح الثورات بفارغ الصبر. لقد مارس علينا الحدث الذي تابعناه، على القنوات التلفزيونية سطوة كبرى جعلتنا نعيش الأحداث خطوة خطوة، كما سببت لنا المتابعة اليومية، والمكثفة، انفعالات قوية؛ فقد عايشنا مع الشعوب المنتفضة لحظات الثورة بمشاعر جياشة، وبتعاطف كامل، وبشكل مطلق. وإن صدمتنا وأحبطتنا نتائجها لاحقا.
بعد الثورتين التونسية والمصرية، وفي شهر مارس من سنة 2011، انتفض السوريون أيضا؛ لم تكن الثورة بالنسبة إليهم سوى حلم، مثلما لم تكن عودة حماة إلى الحياة من جديد أمرا متوقعا؛ فقد كان مجرد الحديث عما وقع في حماة، يُعتبر جريمة يُعاقِب عليها النظام السوري المستبد. انبعث الحدث من جديد، وشَكَّلَ إحياء الذكرى الثلاثين لهذه المأساة، مناسبة للتأكيد على إدانة حزب البعث، ونظام الأسد. وهكذا يعود الحدث بدون توقف ليلعب بوجوده الطيفي، مرة أخرى أدوارا جديدة في أحداث مُوالية، ويتسبب كل مرة في ظواهر غير مسبوقة. بهذا المعنى، هناك عدد قليل جدا من الأحداث التي يمكن اعتبارها انتهت، لأنها قابلة دائما للظهور، والطفو على السطح من جديد؛ فالحدث نفسه، يظهر أو يختفي باعتباره واقعة فردانية، أقل مما يَظهر باعتباره نقطة عابرة منفصلة، قد تُضاف إلى الموقع أو تطرح منه. لقد دعا المجلس الوطني السوري، والهيئة العامة للثورة السورية، ولجان التنسيق المحلية، بمناسبة هذه الذكرى، السكان إلى التظاهر تحت شعار: “عذرا حماة سامحينا”، كما صُبغت الشوارعُ الرئيسية في المدينة باللون الأحمر، وكتب عليها: “حافظ مات، وحماة لم تمت”، و”بشار سيموت، ولكن حماة لن تموت”.
إن ما يحدث اليوم بالحسيمة يفرض علينا مراجعة الكثير من الأمور، فحدث 1958_1959 لازال حدثا حيا في ذاكرة الريفيين وجرحا عميقا لم تندمل تداعياته إلى اليوم. وهو الأمر الذي نفسر به الحجم المحدود للطلبات الواردة على الهيأة من الضحايا وأبنائهم.
في ليبيا أيضا، وقعت مجزرة رهيبة بعيدا عن وسائل الإعلام، وذلك عندما داهمت كتائب خاصة، يوم 29 يونيو 1996، سجن “أبو سليم”، الواقع في الضواحي الغربية من العاصمة، وأطلقت النار على السجناء، بدعوى تمردهم داخل السجن، الذي يُعَدُّ الأكثر تحصينا وحراسة في ليبيا، وقد تجاوز مجموع القتلى 1170 سجينا، تم إطلاق النار عليهم، وقتلهم ببرودة أعصاب، ثم قامت تلك القوات بدفن الجثث في مقابر جماعية متفرقة من العاصمة، ولم يتم لحد الآن كشف أمكنة رفات هؤلاء الضحايا. وقد طالب أهالي الضحايا، ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، طيلة سنوات، السلطات الليبية بالكشف عن مصير سجناء “أبو سليم”، إلا أن النظام الليبي ظل ينكر وقوع هذه الجريمة، محتفظا لنفسه بسر حادث القتل الجماع. وقد بقي التكتم والغموض يحيطان بالحادثة، حتى إن بعض الأُسَر كانت تجلب الطعام والثياب للسجن، كل أسبوع، دون أن تكون على دراية بوفاة أقربائها. ولم يتم الاعتراف بالحدث، علنا، إلا بعد مرور 13 سنة على وقوعه، أي في سنة 2009، وذلك بعد أن تسربت بعض المعلومات عنه إلى الخارج، الأمر الذي دفع بعض المنظمات الحقوقية، خارج ليبيا، إلى تصعيد الضغط على نظام القذافي للاعتراف بالمجزرة. وعندها، بدأ إبلاغ أهالي القتلى بوفاة أبنائهم، دون أي معلومات عن الظروف والملابسات المحيطة بها. بعدها، صعَّد أهالي ضحايا المذبحة من تحركاتهم ووقفاتهم الاحتجاجية، للمطالبة بمعرفة مصير جميع المفقودين من المعتقلين، والكشف عن أسباب وفاتهم، عبر تشريح الجثث، وفتح تحقيق قصد التعرف على المسؤولين عن الجريمة ومعاقبتهم. وأمام تنامي حجم هذه الضغوط، عرض النظام الليبي على أهالي الضحايا تعويضات مادية، مصحوبة بتهديدات شديدة اللهجة، وذلك مقابل تراجعهم عن مقاضاة الدولة. غير أن الأهالي رفضوا التنازل، وتمسكوا بحقهم في معرفة حقيقة ما جرى في ذلك اليوم العصيب، وطالبوا بحقهم في معرفة أماكن دفن القتلى، وأكدوا رغبتهم في متابعة المسؤولين عن الحادث قضائيا. وقد تولى قضية الدفاع عن الأهالي، في هذه المجزرة، مُحام ليبي فَقَدَ، بدوره، أحد أشقائه وابن عمه وزوج شقيقته في الحادثة، وقد اعتقلته السلطات الليبية نتيجة نشاطه الحقوقي، يوم الثلاثاء 15/2/2011، قُبيل يوم واحد من انطلاق الاحتجاجات الليبية في 17/2/2011، والتي اندلعت مطالبة بالتغيير، وبرحيل النظام الليبي؛ فكان اعتقاله بمثابة الشَّرارة التي ألهبت الثورة. لذلك يُعد حدث مذبحة “أبو سليم” من بين الأسباب الرئيسية لانطلاق احتجاجات فبراير 2011، والتي أسفرت، في نهاية المطاف، عن انتهاء حُكم نظام القذافي. فهذا الحدث لم ينته، ولم يمت، وإنما ظل حاضرا في ذاكرة أهالي الضحايا، والناجين، ولدى الليبيين جميعا. وعندما اندلعت الثورات العربية، كانت الفرصة مواتية للجميع لكي يعبروا عن الغضب الذي يعج في نفوسهم، من هذا النظام القمعي المستبد الذي يُعتبر من أسوء أنظمة الحكم في منطقة شمال افريقيا.
نهج المغرب طريق الإنصاف والمصالحة واتبع سياسة جبر الضرر باعتبار ذلك خيارا استراتيجيا للقطع مع أساليب الماضي، وضمان عدم التكرار. ومن ضمن ما قامت به الهيأة زيارة المنطقة الريفية وكسر جدران الصمت بشأن حدث سنة 1959، حيث تم تشجيع الضحايا على الحديث عن الأحداث لكن دون جدوى، وتمت محاربة الفكرة السائدة بكون الريف يشكل حالة استثنائية وعقدة، من خلال إعادة بعث الثقة بين الريفيين في الدولة وإعادة الاعتبار للكفاءات المحلية . وتم استغلال التحول الذي أحدثه زلزال 2004 لدى ساكنة الريف بشكل إيجابي، حيث شعروا لأول مرة أن الدولة التزمت فعليا بمساعدة الساكنة خاصة بعد إقامة الملك في خيمة وسط المواطنين، مع العلم أن الوسطاء من أبناء المنطقة ممن لعبوا دورا أساسيا آنذاك استغلوا الظرفية للاغتناء على حساب الساكنة كما هو معلوم للجميع اليوم.
قام وفد هيأة الإنصاف والمصالحة بزيارة دار سلوم، أول مكان بدأ فيه إطلاق النار خلال أحداث 1958_1959. وتمت زيارة آيتبوخالق قبيلة الحاج عبد السلام أمزيان وأيضا انتقل الوفد الى بني حذيفة مكان المواجهات الأولى. ولم يتم إغفال زيارة الولي الصالح سيدي شعيب، وكانت تقصده النساء والفتيات اللواتي تعرضن للاغتصاب خلال الأحداث من أجل الإجهاض(من شهادة هيئة الإنصاف).
إن ما يحدث اليوم بالحسيمة يفرض علينا مراجعة الكثير من الأمور، فحدث 1958_1959 لازال حدثا حيا في ذاكرة الريفيين وجرحا عميقا لم تندمل تداعياته إلى اليوم. وهو الأمر الذي نفسر به الحجم المحدود للطلبات الواردة على الهيأة من الضحايا وأبنائهم. وقد ساهم الإقصاء المتعمد وتهميش الريف بعد ذلك لعقود طويلة في تفسير ما يحدث اليوم من حراك شعبي هناك، فليس صدفة أن ينطلق الحراك في سوريا من حماة، وفي ليبيا من بنغازي، وفي المغرب من الريف إثر حادث طحن محسن فكري بطريقة وحشية، خاصة وأن الأحكام الصادرة في حق من تم تقديمهم قرابين كانت صادمة، فحذار من صب الزيت على النار وليتحمل الجميع مسؤوليته. وبالخصوص الحكومة والأحزاب والهيآت والشخصيات التي سبق أن قدمت نفسها محاورا باسم الريف قبل أن تختفي فجأة عن المشهد.
يخيم الصمت على المشهد السياسي بشكل يطرح علامات استفهام كبرى، مع العلم أن الوقت يتطلب من الجميع تحمل مسؤولياتهم قبل انفجار الأوضاع التي ستمزقنا جميعا وسنكتوي بنارها شئنا أم أبينا، فليحذر الذين يقامرون بمستقبل الوطن ممن اختاروا القمع نهجا. فما سينتج عن تبني الخيار الأمني في منطقة تاريخية متوترة لن يكون في صالحنا جميعا، خاصة وأننا أمام لحظة فارقية أخطر بكثير من لحظة 20 فبراير. هذه الحركة التي لازال إرثها حاضرا ومطالبها لا تزال راهنية، ويمكنها في أي لحظة الانبعاث من جديد. وجب على الدولة أن تتحلى بالانضباط والحلم وأن تستحضر المآلات غير المتوقعة، وأن تنهج خيار المعقولية بتلبية المطالب الاجتماعية والاقتصادية المعقولة لأبناء الريف، والإفراج عن المعتقلين والمختطفين، وأن تصون حقوق الناس وكرامتهم وأن تتراجع فورا عن خيار المقاربة الأمنية في تعاملها مع المحتجين، وأن تعمل على تسريح المعتقلين المسالمين، وأن تتبنى لغة الحوار في التعاطي مع مطالب الحراك الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي هي مطالب مشروعة لكل المغاربة. والمدخل الحقيقي للإصلاح هو القطع مع سياسة الريع والفساد والتي انتعشت بعد مرحلة الاستقلال وتغولت في العقود الأخيرة. بدون هذا لا يمكن أن تتحقق التنمية الشاملة في المناطق المهمشة في المغرب، لأننا مثل من يصب الماء في الرمل. وسنظل نؤجل فقط حدوث الكارثة بالحلول الترقيعية.
هناك في كل حدث، الكثير من المركبات المتنافرة والمتآنية، وهذه الميزة هي التي تسمح بتجدده. فخذوا العبرة رجاء، قبل أن تعصف بنا الأحداث للأسوء.
الكثيرون اليوم يركزون في تدويناتهم وكتاباتهم على دور النخبة السياسية، بينما وجب التركيز على تبيان الدور التاريخي للجماعات التابعة والمهمشة.
مختلف الأسطوغرافياتالكولونيالية والوطنية التي تناولت تاريخنا لم تنتبه إلى أدوار شرائح كثيرة من الناس، وهذا سبب من أسباب الانكسارات.
إننا كجماعات وأفراد لا زلنا نرزح تحت هيمنة وسيطرة طبقة نخبوية حاكمة، تحرمنا حق المشاركة في صنع تاريخنا كفاعلين رئيسيين داخل نفس الوطن، فمختلف الفئات الاجتماعية ليس لها سوى مشاركة محدودة وشكلية في شؤون بلدها السياسية والسوسيو-اقتصادية أو محرومة منها بالكامل.
بعد سنوات من الحديث الرسمي والحزبي عن الاستثناء، كنت أشك في ذلك بالنظر إلى تنامي حجم التناقضات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تمهد للحراكات الشعبية والاحتجاجات. واليوم اهتزت قناعة الاستثناء في تصوراتي بشكل كامل .
أثقال التاريخ التي صنعتها الحقبة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية لا زالت تكبلنا، ولن نتجاوز ذلك إلا بالتغلب على الوعي الزائف الذي تشكل في عهد الاستعمار وترسخ بعد جلائه بأشكال مختلفة.
أتفق مع حميد دباشي، أستاذ الدراسات الإيرانية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا في نيويوك، أكثر من أي وقت مضى بكون ما حدث ويحدث في العالم العربي من انتفاضات وثورات ليست مجرد صراع بين حكام سيئين ومحكومين غاضبين، بل شيئا أكبر من ذلك، إنه صيرورة تاريخية تتجه إلى تحرير المنطقة من سطوة القوى السياسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية التي تشكلت في مرحلتي الاستعمار وما بعد الاستعمار.
إن الثورات العربية بالرغم من اختلاف نتائجها، هي محاولات للخروج من جلباب حقبة ما بعد الاستعمار التي قامت على استمرار الاستعمار بأشكال مختلفة.
كل التيارات السياسية التي قدمت نفسها باعتبارها حركات مقاومة للاستعمار، ما لبثت حين وصلت للسلطة أن أعادت نفس التصنيفات والتراتبيات، ولم تعبر عن الآمال والرغبات الحقيقية للشعوب.
وهكذا غدت الرعية ما بعد الاستعمارية هي نفسها الرعية الاستعمارية مضافا إليها وهم التحرر. لقد ولد الاستعمار ولأكثر من مائتي عام في العديد من المستعمرات تشكيلات إيديولوجية ما بعد استعمارية: الاشتراكية والوطنية والقومية، وهي سرديات إيديولوجية تزعم محاربة الاستعمار ظاهريا، ولكنها فعليا تبنت تداعياته وفاقمتها، والآن تستنفذ هذه التشكيلات ما بعد الاستعمارية نفسها لتفسح المجال للهامش لكي يعبر عن نفسه بأشكال احتجاجية ممتدة ومفتوحة النهايات.
إن الحركات الاجتجاجية تعكس خصوصية اللحظة المرتبطة بالرغبة في الانعتاق من الماضي بمرحلتيه الاستعمارية وما بعد استعمارية، وهي في نفس الوقت موجة تعبر عن تطلعات الأجيال الجديدة التي تستهدف تحقيق المطالب الاجتماعية والاقتصادية العادلة، والتي تتجلى في الشعارات المرفوعة.
أخطر ما يواجه هذه الموجة الانعتاقية القوى المضادة التي تعمل على تغيير مسارها، وهي بذلك تعمل على مقاومة حركة التاريخ .
إننا أمام صيرورة بدون نهاية واضحة لها، وبعبارة داباتشي هي صيرورة متواصلة بنهايات مفتوحة.