(I)

تفرض المراحل الانتقالية على المجتمعات عددا من الاختيارات، أبرزها جعل حقوق الإنسان مرتكزا أساسيا لتدعيم دولة القانون، ومرجعية متفقا عليها، تستوجب تملك واستدماج واستثمار المجهود الثقافي الجماعي والخاص المتجه نحو التغيير الفكري والسلوكي، وامتلاك رؤية محددة للإصلاح أو مواصلته. وتتطلب التعامل مع تنامي الطلب الاجتماعي بشأن الولوج إلى الحقوق ومستلزمات الرفاه الاجتماعي انطلاقا من تصور شمولي، مندمج ومتعاضد الأطراف، وجعل الحكامة الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، تكريسا طبيعيا لهذا الطلب.

كما يستوجب تدبير الانتقال، التطلع إلى مستقبل يسمح بالتعايش السليم بين ممارسة الحريات والحرص على بناء واستمرارية المؤسسات. من هنا يصبح تغيير الرؤى أمرا لا مفر منه، من بين ما ينتج عنه التعامل مع تعدد الحركات المطلبية الشعبية على أنها تعبير طبيعي عن الحرية والمواطنة، يفترض تعزيزيها وتوسيع ممارستاه، عن طريق إحداث دينامية جديدة، تمر عبر التقنين وتفعيل حمايته من قبل العدالة.

فعادة ما تؤدي الاضطرابات الاجتماعية، كسمة ملازمة لفترة الأزمات، إلى التهديد الفعلي لممارسة الحريات، وعلى ايقاع تدبيرها تضبط عافية التوطيد الديمقراطي وقد تزداد حدة هذا التهديد عندما يؤثر سلبا على العدالة وحسن إدارتها، الأمر الذي يفرض تقوية الضمانات القانونية لتدعيم الحريات؛ لذلك فإن التماهي بين الديمقراطية وتدبير العدالة والحقوق الإنسانية، يفرض ليس فقط الرد في حالة خرق الحقوق الإنسانية، بل يتجاوز ذلك إلى وضع آليات فعلية استباقية، تسمح بتوقع ذلك قبل حدوثه. وتبعا لذلك، يجدر النظر إلى الإفلات من العقاب اللاعقاب على أنه يتجاوز المس بالحقوق الإنسانية والحريات الأساسية، إلى التأثير سلبا على الديمقراطية وحسن سير حكم القاعدة القانونية.

(II)

إذا كان من المسلم به اليوم، أن الديمقراطية ما هي إلا تعبير عن مجموعة من الحقوق والممارسات ، فإن التفاعل الموجود بينهما وبين دولة القانون لم يعد في حاجة إلى البرهنة، لكونهما انصهرا في نوع من العلاقات البنيوية أفرزت في نهاية المطاف نسقا واحدا، يمكن وسمه “بدولة الحق الديمقراطية”. ويفرض هذا النسق تحقيق نوع من التوازن، يسمح بالمشاركة الفعلية لكل مكونات المجتمع، الأمر الذي يتطلب -من أجل تدعيم دولة الحق الديمقراطية – مواصلة واستكمال مختلف الإصلاحات التي تمر بالضرورة عبر التدبير الشفاف للشأن العام، وتكريس الحكامة الجيدة على جميع المستويات، والرقي بثقافة المساواة وعدم التمييز.

بين الصفح والعفو تنتصب المصالحة كأفق وسياسة. منطلقها، “إرادة الاعتراف المشتركة” ومنتهاها بناء الثقة في النسق السياسي والاجتماعي والتربوي والثقافي وإعادة ترميمه – بعد مراحل من التمزق والشرخ القائم بين الأفراد والجماعات والمتحكمين في القرار

ويجدر بكل متتبع لتطور أنساق وأنماط الديمقراطيات العريقة أو الانتقالية و/ أو الناشئة، الوقوف عند فرضية مرجعية قوامها أن الديمقراطية التمثيلية تواجه اليوم عدة مشاكل منها، ما هو مرتبط بموضوع المشاركة أو التمثيل أو الانتداب أو التفويض- بالنظر إلى دور المواطن(ة) فيها- أو بالمفارقة المتمثلة في أن نطلب من المواطنات والمواطنين المشاركة والاهتمام بالسياسة المؤسساتية في حين أنهم يجدون أنفسهم (ن) مقصيين(ات) من سلطة القرار الحقيقية.

في المقابل من الشائع بأن المشاركة السياسة هي على وجه عام انتقائية: فالذين يتمتعون بسلطة اقتصادية و/أو ثقافية أكبر هم الذين يشاركون أكثر، وهذه الظاهرة تتعاظم كلما تم ارتقاء هرم السلطة.

ومن جهة أخرى، تتجلى إحدى عواقب التفويض الأحادي للسلطة، في عدم وقوف ممثلي المواطنات والمواطنين عند حد أجرأة وتحويل إرادتهم إلى قوانين وسياسات وبرامج في خدمتهم ولصالحهم، بل في التوجه المنهجي والإرادي نحو تملك السلطة التي انتدبوا من أجلها واستغلالها ومن تم إفراغ ذلك التفويض من محتواه الديمقراطي وتهريب التمثيل والنزوح نحو التسلط وكافة أشكال الهيمنة والريع وتغليبه على آليات التدبير الرشيد والشفاف للشأن العام؛ ومن تم فإن أول تحدي مطروح علينا، ونحن بصدد معالجة هذا الوضع وفي سياق، إرساء مقومات وبنيات إثراء الحوار بشأن التعزيز الديمقراطي، هو التفكير في الصيغ الكفيلة بإعادة تملك السلطة وتوزيعها والتداول بشأنها ورد الاعتبار لدور ومسؤولية الساكنة في جعل الفضاء العام مجالا للعيش المشترك؛ في أفق تعبيد الطريق لإعادة ترميم العلاقة بين المواطن والمؤسسات المنتخبة وبناء سلطة جديدة ديمقراطية وتشاركية في معناها وشكلها ومبنية على نهج حقوق الإنسان.

تفترض الديمقراطية المباشرة، المشاركة المتساوية لكل الأشخاص في ممارسة المواطنة بمعنى المشاركة في مسلسل اتخاذ القرار بشأن القضايا التي تهم الحياة العامة، وهذه الممارسة يجب اعتبارها واقعا سوسيولوجيا وليس فقط إجراء شكليا أو قانونيا. ومن هذا المنظور، يجدر أن تكون المواطنة فاعلة وأن لا تقتصر على التفويض السلبي لسلطتها الخاصة إلى بعض المنتخبين.

وتستوجب الديمقراطية التشاركية تصورها كتمفصل بين دينامية الديمقراطية التمثيلية وديناميات الديمقراطية المباشرة. ومن تم فإن الديمقراطية التشاركية تتطلب البحث عن التوازن بين الطموح إلى التدبير الذاتي للشؤون المحلية والعامة ومسارات التدبير المفوض لتلك الشؤون للوصول إلى تدبير مشترك ومتعاقد عليه للشأن العام.

(III)

بين الصفح والعفو تنتصب المصالحة كأفق وسياسة. منطلقها، “إرادة الاعتراف المشتركة” ومنتهاها بناء الثقة في النسق السياسي والاجتماعي والتربوي والثقافي وإعادة ترميمه – بعد مراحل من التمزق والشرخ القائم بين الأفراد والجماعات والمتحكمين في القرار- وترسيخ أسس وضمانات عدم التكرار من خلال تدابير سياسية ومؤسساتية وقانونية وتربوية، وذلك لكون المصالحة محصلة تفاعلات اجتماعية ومجتمعية ولا تنحصر فقط في علاقات فردية مباشرة والحالة هذه بين الضحية والمشتبه فيه ارتكاب انتهاك في حقها أو في حق الإنسانية.

ويقصد بالمصالحة، في هذا المنحى، ذلك المسلسل الشاق والطويل نحو”الاعتراف والترضية ورد الاعتبار” بعد سنوات من النكران والاحتقار الموشومة بطبقات من الإفلات من العقاب (strates de l’impunité) من قبل الفاعل الدولتي أو غير الدولتي، واعتبار عدم النظر إليها كغاية في حد ذاتها، لأنه من الناحية الأخلاقية والفلسفية يستحيل الحديث عنها – أي المصالحة- كشيء منته بالنظر إلى أن مسارها مندرج أصلا في سياق اللا منتهي واللانهائي بحكم اتسامها بالطابع المتواصل والمستمر وارتهانها لعلاقات السلطة وإرادات القوة القائمة.

وتستلزم المصالحة في سياقنا المغربي، الانتقال من الخطاب السياسي حول البناء الديمقراطي إلى تخطيط استكمال بناء الدولة الديمقراطية وضمان دوامها واستقرارها، والمرور من الانتقالات اللامتناهية إلى تثبيت الديمقراطية على أساس الفعل المواطني وطبقا لرؤية سياسية جديدة قوامها البحث عن السبل الفضلى التي من شأنها قيادة حركة التغيير في اتجاه توطيد نظام ديمقراطي يسعى ذاتيا إلى الاستدامة والاستجابة لحاجة المواطنات والمواطنين لرؤيته يمتد في الزمن.

وفي نفس الاتجاه، تضمن هذه الرؤية السياسية، المساهمة في فهم وتحليل ملحاحية إرساء التوازن بين التوطيد والاستمرارية المحتملة لنظام انتقالي، و إطلاق دينامية جيل جديد من الإصلاحات تأخذ بعين الاعتبار تفادي التراجع والعودة إلى التسلط والمضي نحو الوصول إلى مستويات أرقى من الديمقراطية. والمصالحة بهذا المعنى، فكرة استشرافية لأنها لا تأخذ كسند لها المقومات التاريخية للاستقرار الاجتماعي فقط بقدر ما تتخذ كمرجعية لها الانتظارات الذاتية للنخب السياسية والمواطنين والمواطنات كمعطيات تجريبية بغض النظر عن إمكانية اعتبارها مؤشرات أساسية لتحققها من جهة، والنظر إلى أن التدبير الجيد للأزمة ضمانة أساسية لسلاسة البناء والتدعيم الديمقراطي بدل التوجه نحو تفادي الحديث عن الأزمة أو القول بأن غيابها دليل ايجابي على التوطيد الديمقراطي. 

وينتظر في سياق تخطيط استكمال البناء، فضلا عن الوفاء الشامل بالوعد الدستوري لسنة 2011، العمل على :

 إرساء مائدة الالتقائية السنوية لمؤسسات الوساطة والحكامة وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة والتنمية المستدامة كمساحة للتبادل والتناظر حول مخرجات استراتيجياتها وبرامج عملها؛

 تنظيم ندوة وطنية قارة لرؤساء و مكاتب مؤسسات الحكامة وحقوق الإنسان والتنمية المستدامة كفضاء يتيح إطارا للتنسيق والتعاضد وخلق الانسجام في التخطيط والبرمجة وتقييم تدخلات كل مؤسسة على حدة؛

 إحداث لجنة وطنية لتدبير وتيسير الحوار العمومي بشأن القضايا الضاغطة الطارئة أو ذات البعد البنيوي والمهيكل لتدخلات الدولة.