
حراك الريف .. الشجرة التي تخفي الغابة

إن الحراك الشعبي الذي انطلقت شراراته الأولى من الحسيمة عاصمة الريف لم يأت من فراغ، كما أنه ليس حدثا ولد من رحم الصدفة، بل إنه حركة احتجاجية شعبية، ضد الظلم وضد الحكرة وضد الفساد وضد نهب ثروات البلاد، وضد التهميش والإقصاء، إنه حركة احتجاجية لصالح الوطن ودفاعا عن كرامة المواطنين والمواطنات لاسترداد الحقوق المهضومة والكرامة المدنسة. حراك الحسيمة هو الشجرة التي تخفي الغابة.
آراء أخرى
حراك الريف وما تلاه من “حراكات” في مختلف مناطق المغرب المهمش وغير النافع، أيقظنا من حلم جميل اسمه “الاستثناء المغربي” وأي استثناء؟ هل الظروف السياسية والاقتصادية السائدة أحسن من مثيلتها في دول الربيع العربي؟ هل نعيش حياة كريمة فعلا؟ هل نمارس السياسة بشكل طبيعي؟ كيف تمر انتخاباتنا على مستوى الجماعات والمجالس الإقليمية والجهوية والبرلمان بغرفتيه؟ لماذا يضحي هذا الشباب بروحه ليهجر هذا الوطن؟ ولماذا يشحذ هؤلاء سيوفهم ليرهبوا بها المارة ليسلبوهم ممتلكاتهم؟ أليس بسبب انسداد الآفاق؟ أليس باتساع الهوة بين الأغنياء الذين تضاعفت ثرواتهم والفقراء الذين تضاعف بؤسهم وتفاقمت مآسيهم؟ هل هذا هو الاستثناء؟ أم هل هو هذه المراتب المتدنية المخجلة التي تصنفنا- ونحن على أبواب أوروبا – وراء كثير من الدول الضعيفة من العمق الإفريقي- في مجالات التعليم والصحة والسكن والتشغيل و.. و.. و..؟
هل الاستثناء يتمثل في فشل مدرستنا في التربية على القيم والأخلاق وتحولها إلى مشاتل لنشر الانحرافات السلوكية؟ ألم يعترف الجميع بتردي التعليم منذ فشل تنزيل الميثاق “الوطني” للتربية والتكوين، وتبخر الملايير المخصصة لربيبته المخطط الاستعجالي وتَكرَّس التردي مع إطلاق “الرؤية الاستراتيجية 2015-2030” وما رافقها “من تدابير تراجعية من توظيف بالعقدة (توظيف حوالي 10000 أستاذ بدون ولو ساعة واحدة من التكوين) وتفويت الموارد والممتلكات العمومية وتخريب القطاع العمومي، مقابل تمتيع القطاع الخاص بامتيازات عقارية وإعفاءات ضريبية ومِنح مالية؟ هل الاستثناء هو “تزيين الواجهات” و”بيداغوجية الغربال” التي بشر بها الوزير حصاد القادم للقطاع من وزارة الداخلية، وما أدراك ما الداخلية؟
وهل الاستثناء في مجال الصحة هو: طبيب لكل 2000 مريض؟ هل الاستثناء هو ارتفاع نسبة وفيات الحوامل في القرى والبوادي؟ أم هل هو حمل الحوامل على وشك الولادة على نعش لمسافات بعيدة إلى مستوصف لا طبيب ولا ممرض فيه، وبعضهن تضع حملها على قارعة الطريق؟ تكفي إطلالة سريعة على بعض صفحات التواصل الاجتماعي، ليقف المرء بالصوت والصورة على مدى بؤس القطاع الصحي في المغرب، لتصدمه صور لمستشفيات مهترئة وقصص لمرضى ينخرهم المرض في بيوتهم وبعضهم ينهش الدود أطرافهم ويموتون ببطء في غياب أية مساعدة أو رعاية؟، هل الاستثناء يكمن في تفشي وانتشار الأمراض الوبائية والارتفاع المهول في عدد من الأمراض المزمنة غير الوبائية، مثل أمراض القلب والشرايين والأورام السرطانية، والعودة غير المعلنة لأمراض الفقر والأوبئة، “التي سبق أن تم القضاء عليها في نهاية التسعينات من القرن الماضي كمرض الجذام والسل والفيروس الكبدي؟ هل الاستثناء هو مستشفيات الأمراض العقلية التي لا يمكن على الإطلاق وضعها في خانة المستشفيات الإنسانية، بشهادة برنامج تلفزيوني رسمي، الاستثناء هو غياب سياسة وقائية وعلاجية تستجيب للحاجيات الحقيقية لعشرات المرضى النفسيين والعقليين وأصحاب العاهات الذين يجوبون شوارع وأزقة المملكة السعيدة في وضعيات مقززة أحيانا، وبعضهم يعيشون محتجزين ومكبلين داخل بيوت أسرهم في أماكن ووضعيات لا تليق حتى بالحيوانات خوفا من إلحاق الأذى بالناس أو بأنفسهم، هل يتجول مسؤولونا في شوارعنا وأزقتنا وأسواقنا؟ لا أظن ذلك وإلا لكانوا قدموا استقالتهم، هذا لو كان فيه ذرة من الإنسانية إن لم يكن من الإيمان.
ويكفي القيام بزيارة لإحدى المراكز الصحية على طول البلاد وعرضها ليلاحظ الزائر النقص الشديد في الأجهزة الطبية والأعطاب المستمرة التي تصيب المتوفر منها والنقص الحاد في الموارد البشرية الصحية وخاصة في المناطق النائية، وانتشار مظاهر الفوضى والرشوة والمحسوبية والإهمال وسوء المعاملة مع المرضى. صورة قاتمة عن أوضاع قطاع الصحة في بلادنا، تؤكده الأرقام الصادمة للمنظمات العالمية المختصة التي تصنف المغرب في أدنى المراتب في مجال السياسة الصحية، كما يظهر تقرير لمنظمة رعاية الطفولة (اليونيسيف)، التابعة للأمم المتحدة أن %75، من وفيات الأطفال الرضع بالمغرب، يموتون بالمناطق النائية. رغم بعض الإصلاحات، مثل “نظام راميد” وتخفيض أثمنة بعض الأدوية إلا أن هذه الإصلاحات ظلت للبهرجة الإعلامية، أكثر مما كان لها أثر حقيقي على أرض الواقع.
إن أجهزة القرار في المغرب نامت في العسل، وكذبت كذبة “الاستثناء” وصدقتها، وركنت إلى مقولة الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، ولذلك فإنها لم تجشم نفسها عناء الاستمرار في الإصلاحات المطلوبة وعلى رأسها محاربة الفساد
السكن وجه آخر من أوجه الاستثناء المغربي، وجه مكشوف من أوجه الاستغلال الخطير الذي يلحق أبناء الشعب، نظير الاستفادة من حقهم الدستوري في السكن، لقد أصبح ما يسمى بالسكن الاقتصادي مجالا لمص دماء أبناء الشعب الفقراء من ذوي الدخل المحدود ومجالا خصبا لتبييض الأموال من طرف السماسرة والمضاربين الذين يديرون القطاع حسب مصالحهم ومكاسبهم بسبب الحظوة العالية التي يستفيد منها لوبي العقار/المنعشين العقاريين المعلومين، الذين يستفيدون من أراض استراتيجية مهمة، مقابل مبالغ زهيدة ومن إعفاءات ضريبية يضاف إلى إليها دعم الدولة لهم كمساعدة مالية عن كل شقة (زيد الشحمة في ظهر المعلوف) والنتيجة قبور مساحتها 40 م يصل ثمنها 40 مليون سنتم بالفوائد ترهن الراتب الهزيل للمستفيد لمدة 25 سنة على حساب قوت وتمدرس وصحة أبنائه؟ يضاف إلى هذه المأساة انتشار أحزمة البؤس حول المدن ومضاعفاتها الاجتماعية والاقتصادية والنفسية والأمنية وهي بؤر توتر وفيتوات منغلقة بسبب النقص الحاد في الخدمات بكل أنواعها. الاستثناء هو تغول مافيا البناء العشوائي المكون من رجال السلطة لما يدره عليهم من أموال وأتوات بتواطؤ سري وعلني مع المنتخبين الذين لا يرون في التجمعات السكنية العشوائية سوى خزان أصوات للأحزاب في كل الانتخابات، لقد ساهم هذا التحالف الهجين في نمو أحياء بل مدن بكاملها بدون تصاميم هندسية وغير مرتبطة بالتطهير السائل وتعرف أعلى معدلات الفقر والتهميش، وارتفاع مؤشرات الجريمة وذلك ما تشهد به الأرقام المسجلة في مراكز الأمن وما تذكره تقارير وزارة الداخلية والتي تعد بمئات الآلاف من الجرائم التي تقع سنويا في المغرب منها جرائم السكر والدعارة والسرقة والنهب والضرب والجرح والعنف ضد الأصول وبيع واستهلاك المخدرات بشتى أنواعها …؟
إن أجهزة القرار في المغرب نامت في العسل، وكذبت كذبة “الاستثناء” وصدقتها، وركنت إلى مقولة الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي، ولذلك فإنها لم تجشم نفسها عناء الاستمرار في الإصلاحات المطلوبة وعلى رأسها محاربة الفساد، ولأن الدولة لم تعمل على تطهير إداراتها من الفساد فقد استمر واستفحل وتعددت أوجهه من رشوة ومحسوبية وزبونية ونهب للمال العام وضعف الاحتكام إلى الحكامة في تدبير الشأن المالي العام. كما شمل الفساد ما يدرج عادة في الفساد الكبير والمتعلق بتفويت الملك العمومي بطرق غير قانونية وغير شفافة وكذا ”التدبير السيء” لقطاع الصفقات العمومية.. وتنفيذ بعض البرامج الاستراتيجية الكبرى، التي لا يظهر لها الأثر الفعلي على أرض الواقع وعلى تنمية البلد.
فأين هي نتائج تنفيذ المخططات الكبرى التي صرفت عليها الدولة ملايير الدراهم منذ عدة سنوات، من عشرية التربية والتكوين، إلى البرنامج الاستعجالي للتربية والتكوين، مرورا بالمخطط الأخضر والمغرب الرقمي وهاليوتيس وبرنامج إبحار والمغرب الأزرق… كما أن الفساد المستشري بالجماعات المحلية وبشركات التدبير المفوض، وبالتملص الضريبي والإعفاءات المشبوهة يمثل نسبا مهمة من نسب الفساد المالي والإداري والتدبيري.
وأي استثناء مع انتشار الرشوة بشتى أنواعها الصغيرة والكبيرة ساعد على ذلك الزبونية وغياب المحاسبة والإفلات من العقاب وهي السمات الأساسية لتسيير الشأن العام ببلادنا. ولم يعد الحديث عن تفشي الرشوة في أجهزة الدولة وفي القطاع الخاص، مقتصرا على المعارضة والصحافة، بل صار جزءا من الخطاب الرسمي للدولة، وحسب خبير أمريكي فإن المغرب يخسر سنويا 1.5مليار دولار سنويا بسبب الرشوة.
إن الفساد لا يملك في الحقيقة قوة، ولا سلطاناً، وإنما الجماهير هي التي أحنت له ظهرها فركب.. ومدت له أعناقها فقادها كما تساق البهائم، وطأطأت له رأسها فاستعلى وطغى وتجبر .. ليس تنازلا له عن حقها في العزة والكرامة، بل لأن الشعب حكم عقله وسلك مسلك التريث والصبر دفاعا عن هذا الاستثناء المفترى عليه، لعل وعسى، ولكن هذا “الاستثناء” تحول عند الطرف الآخر إلى انغلاق، وتحول إلى صم الآذان وعدم الإنصات لهموم الشعب وعدم الإحساس بمعاناته وبؤسه ومآسيه، بل لم تنصت الأجهزة المقررة حتى إلى تقارير مجلسها الأعلى للحسابات وتقارير لجن تقصي الحقائق وتقارير المنظمات والهيئات والجمعيات الدولية ولم تقم بتفعيل توصياتها، وهي تقارير تعتمد المنهجية العلمية في عملها.
المغرب يشكل فعلا استثناء، فبعض أحزابنا لا تستحيي من التبجح بمحاربة الفساد بكل أشكاله وألوانه وهي تعلم جيدا، والشعب يعلم جيدا أن (مناضليها) هم أكبر المفسدين وهم من وفروا التربة الخصبة لاستيطان الفساد واستشرائه داخل مؤسسات الدولة، فكيف لأحزاب سواء في المعارضة أو في الحكومة أن تحارب الفساد وقد وصل الوصوليون والانتهازيون من (مناضليها) إلى مراكز القرار إن لم يكن بتدخل الإدارة فباستعمال المال الحرام لشراء الذمم، من يحمي المفسدين- لا داعي للتذكير بالأسماء فهي مشهورة كنار على علم – من المتابعة القضائية حيث ملفات الفساد رهينة الرفوف؟ كيف لأحزاب يحتكر زعماؤها موارد الدولة ويسيطرون على الاقتصاد الوطني ويستحوذون في ما بينهم على خيرات البلاد أن تحارب الفساد؟ حاميها حراميها، هل هذا هو الاستثناء المغربي؟
والاستثناء الغريب العجيب هو أن هذه الأحزاب التي تضحي بماضيها وبتاريخها من أجل منصب لتظفر بنصيبها من الغنيمة ومع ذلك فهي تنفي تحملها مسؤوليتها في اتخاذ القرارات !!.
فلا يعقل أن أحزابا انتهت صلاحياتها وظهر عجزها وتسيطر على المشهد السياسي بالطرق المشبوهة وتشكل جزءا رئيسا من الأزمة السياسية التي يعيشها المغرب هي نفسها التي تواكب هذا الحراك الشعبي الذي انطلقت شراراته من الحسيمة وتعد في زيارة سينمائية إلى عين المكان بالبحث عن حل لأزمة هي ركنها الأساسي واحد مسبباتها.
إن السكيزوفرانيا هي الصفة التي تميز عمل الأحزاب المكونة لهذه الحكومة وسابقاتها، فالجميع يدعو إلى الحوار والتعقل وإلى الاعتراف بأن مطالب الشعب واقعية، ولكن على المستوى العملي لم نلاحظ سوى مهازل سياسية وتنكرا للمطالب الاجتماعية المشروعة، وبل بالعكس هناك تغذية للكره والنقمة والشيطنة والتخوين بين الفرقاء السياسيين أنفسهم وأنصارهم. وما بيان الأحزاب الأغلبية عقب أحداث الحسيمة إلا أكبر دليل على ذلك.
ماذا تبقى لشعب تبخرت كل أمانيه وآماله وطموحاته التي تعلق بها منذ الاستقلال على صخرة الواقع المر بعد فقد ثقته في مؤسسات مغشوشة وتبين أنه كان يطارد السراب ويتعلق بالوهم والكذب والبهتان، وسنة بعد أخرى يتضاعف عذابه وتزداد معاناته مع السكن ومع الصحة ومع التعليم ومع غياب الأمن ومع البطالة ومع غلاء الأسعار.
حان الوقت لوضع حد للفساد الذي استشرى وامتد من الأفراد إلى المؤسسات الخصوصية والحكومية إلى بنية الدولة ونخبها وتحول إلى بديهية سياسية اجتماعية اقتصادية يستخدم من قبل جهات مختلفة لتعزيز القوة السياسية واستغلال الانتخابات على النحو الذي تتم فيها لتعظيم منافعها وتحصين مواقعها.
لقد دقت ساعة محاكمة رموز الفساد من مختلسي وناهبي المال العام والمتملصين من دفع الضرائب والمهربين وتحريك ملفات الاختلاس الراكدة في المحاكم والزج بالمذنبين من المتاجرين بمآسي الشعب في السجون واسترداد الأموال المنهوبة والمهربة إلى الحسابات البنكية الأجنبية. حان الوقت لوضع حد لتبذير المال في مهرجانات الإسفاف والصفاقة وفي مقدمتها مهرجان موازين وتحويل أموالها لبناء وتجهيز المستشفيات ولتشغيل العاطلين .. حان الوقت للتوزيع العادل لثروات البلاد بما يضمن العيش الكريم لكل أفراد الشعب.
ولكن هذا لن يتأتى إلا بالقيام بإصلاحات سياسية ودستورية حقيقية لضمان فصل سلط حقيقي حتى يرقى إلى مستوى دساتير الدول الديمقراطية التي تعيش ملكية برلمانية حقيقية بقضاء مستقل وسلطة تشريعية وتنفيذية تمارس جميع صلاحياتها وتحاسب أمام الشعب تنظيم انتخابات حقيقية تشرف عليها هيئة مستقلة تعيد الثقة للمؤسسات والأمل للشعب المغربي؛ فلا يمكن الحديث عن الانتقال الديمقراطي في غياب انتخابات نزيهة تعبر عن إرادة الشعب المغربي.
لقد حان الوقت لتغيير جذري، ولكن حذار، فإن قمة الغباء -يقول العلماء- أن تعيد التجربة نفسها في الظروف نفسها وتنتظر نتيجة مختلفة.
وأول الغيث، حكومة وطنية ممثلة لمختلف القوى الحية والهياكل الفاعلة في الشعب تحظى بإجماع شعبي يعهد إليها بالإشراف على مختلف المراحل السالف ذكرها.