خاطئ من يعتقد أن الحراك لونه اجتماعي وخال من البعد السياسي بل على العكس تماما لا يمكن فصل ما هو اجتماعي عن ما هو سياسي، بل الدافع السياسي يسبق الدافع الاجتماعي أحيانا، وذلك في ارتباط عضوي بين العاملين باعتبار أن الفهم التقني الصحيح لمفهوم الانتفاضة مرتبط بمستويين اثنين الوعي السياسي وعفوية الجماهير ضد واقع تحلل مفهوم الدولة، هذا ما يقع على مستوى الفهم لدى الجماهير ولدى القيادة الثورية تحديدا، أي أنها تكون على وعي بأنها تمارس السياسية ولكن البعد الاجتماعي يجب أن يظهر في الصورة، ويغطي كل المساحة على أرضية المعركة لتكتسب الانتفاضة شرعيتها من الطور الأول.

قراءة الوضع في الريف وفي المغرب بصفة عامة منذ مقتل الشهيد محسن فكري، تتطلب العزف على وتر إعادة إنتاج فهم المفاهيم السياسية السائدة، وكذلك العزف على وتر المقارنة على الصعيد المماثل في الماضي وفي الحاضر، مع بلد عبر نفس الطريق، بل أكاد أجزم أنها محاكاة دقيقة أكثر منها مقارنة؛ لأن تسلسل وتراكب الأحداث والأسباب المباشرة وغير المباشرة حافظ على نسقه في تجربتين إلى حد الآن.. وذلك راجع إلى تعدد القواسم المشتركة على مستوى التاريخ والسياسة.

بل هي فسحة مفاهيمية جديدة في مخاضها الأخير؛ مفاهيم نجدها في عناوين المفكر التونسي الصافي السعيد: “جيوبوليتيك الدم” ثم “الكيتش 2011″ و”سنوات البروستاتا”. هذه العناوين لوحدها تقدم قراءة شاملة لطبيعة الوضع القائم وتشخص لنا أبعاد هذه المقارنة، بين تونس التي شهدت الثورة في 2011 والمغرب الذي يشهد اليوم انتفاضة شعبية عارمة.

كتشخيص أولي من الواضح أن القلق الوجودي الذي يعيشه المغرب حاليا، له علاقة عضوية بقرارات سياسية خادشة لقوة تحمل الفضاء السيكولوجي والسياسي للشعب في العصر البنكيراني، وكذلك له علاقة سببية بتراكمات الأخطاء السياسية العميقة المغلفة بشعارات لا يكاد أن يكون شاعرها سوى ظاهرة صوتية.. أي أنه على مستوى الخطاب يكون حضوره حضورا ركحيا، وليس حضورا يتأرجح بين الخطاب والممارسة كما ينبغي في عالم فن تدبير الممكن، بصيغة أخرى فإن الوضع في المغرب هو وضع تراجيدي على المستوى السياسي في ظل غياب العقل السياسي، وبالتالي غياب الإجابة العلمية لمعضلة التطور الاعتباطي الذي حصل في المغرب، في انعدام تام لمفهوم الدولة الذي ينتظر أن يتحقق.. لكي يتحقق معه مفهوم العقل السياسي، بل إن ما نحتكم إليه في عقلنا الجمعي اليوم هو عقل أخلاقي مبني على تجربة الأفراد في التكيف مع الطبيعة والمنوع البشري، وعلى التقاط إشارات متناثرة من الوازع الديني والوازع الحداثي. 

 هكذا، فإن وجود الدولة كظاهرة صوتية ينفي وجودها تدريجيا لأنها منعدمة الأدوات السياسية، إلا تلك الأدوات التي نمنحها نحن، وهو نفس السلاح الذي تشهره في وجهنا عندما تريد أن تمتلك مفاهيم ليست بحوزتها، كأن تحدد مفهوم الشعب ومفهوم الدولة ومفهوم الوطن والانتماء حسب أهواء البورجوازية الحاكمة، التي أصبحت اليوم نقطة التصويب في منظار البندقية الشعبية، بعدما تبدد جدارها الواقي المتمثل في البورجوازية الصغيرة أو كما يسميه أباطرة تلطيف التدافع الدلالي؛ الطبقة المتوسطة، التي تتوسط الفراغ القاتل، بين من يستحوذ على وسائل الإنتاج وبين من يسعى وراء فتات فائض القيمة، وكأي ضرورة من ضرورات الفهم الصحيح يلزمنا أن نسيق ونكيف هذا التراث المفاهيمي الماركسي، أي أن نعبر عنه في سياقه، لأن الفهم هو سياق بالضرورة، بل إن العدم الفكري الذي نعاني منه هو نتيجة تقديسنا للسياق الأول سياق أسباب النزول وليس العكس، فأصبح عقلنا السياسي معطل مصاب بشلل كلي بسبب تشبثه بمفهوم الشرعية ومفهوم الثوابت التي لا نعلم أصلها.. وكذلك فهمنا للدين أصبح فهما جامدا غير قادر أن يقدم إجابة علمية لمعضلاتنا، بسبب احتكاره من طرف خدام الله كما وصفهم أحد المفكرين في كتابه؛ أي أنهم يسعون لخلق وظيفة اسمها رجل دين سلاحه النقل وليس العقل في حين أن في الدين لا يوجد رجل دين بل حتى النبي كان يصلي بالناس وينتشر مع المنتشرين في الأرض. 

فإذا كان كارل ماركس تحدث عن الصراع الطبقي انطلاقا من فهمه لأدوات الرأسمالية وأطوارها من البزوغ إلى الانتفاخ إلى حملها بمولود جديد اسمه الإمبريالية، وفسر طبيعة ونشأة الصراع باعتباره صراع حول الشر الأعظم وهو الملكية الفردية؛ فإن التاريخ لم يكذب ماركس بل إن تدقيق هذا الأخير في المفاهيم صحيح للغاية بل عبقري، يبقى فقط أن السياق له شروطه التي تغير شكله. فإذا كان ماركس تحدث عن كون أن حتمية الصراع الطبقي ستكون ثورة الطبقة العاملة ضد الطبقة البورجوازية فإن في المغرب الحتمية ستكون بين طبقة أقل من البلوريتاريا وهو ما سماه بطبقة اللومبنبروليتريا أو مجتمع الاستهلاك، باعتبار أن جميع المؤشرات تفيد أن غالبية الشعب المغربي تعيش بأقل من دولار في اليوم، أي تحت عتبة الفقر، أي أنها بدون وتيرة عمل، أي أنه مجتمع بدائي يعتمد على الالتقاط وموسمية العمل، وبالتالي فإن طبيعة الصراع ستقدس عفوية الجماهير، لأن الوعي السياسي يقع خارج هذه الأغلبية ربما يقع في حائط قصير من الذين أعجزهم التسلق الطبقي وسقطوا بدورهم إلى فئة الكادحين، بعدما أصبحوا يعيشون حالة تناف مطلق بين مستوى العيش المرتفع الصاخب ومستوى الدخل الهزيل، وأصبحت أحرمهم خراب، وهذا الطرح هو مدخل رئيسي لنبض الانتفاضة التي يعيشها المغرب الآن.

ربما المقارنة النظرية تبدو صحيحة إلى حد ما ولكن مقارنة تجربتين على أرضية الحاضر في التاريخ أو كما سماه المفكر الفرنسي “ألان فينكيلكروت” المضارع المستمر، ذاك الذي نجده في المقارنة بين ثورة الياسمين في تونس وانتفاضة الزفزافي في المغرب، بنظرة فينومينولوجية لن نرتب لهذه المقارنة بل ستكون عبارة عن سرد للمحكمات والمتشابهات قصد فتح أبواب التأمل بين بلدين استقلا في نفس السنة وسلك طريقين مختلفين.

تونس في 2010 أي سنة قبل انتفاضة يناير 2011 أي سنتين بعد انتخابات رئاسية مزورة فاز بها المخلوع بنعلي بنسبة  89.62% كما جرت العادة منذ دكتاتورية سلفه الحبيب بوركيبة. 

في تلك السنة كانت تونس تعيش على وقع مؤشرات إيجابية حيث أن نسبة النمو كانت قد بلغت %5.5 بموسم سياحي جيد وموسم فلاحي ممتاز، وكل المؤشرات الاجتماعية كانت في وضع حسن بالمقارنة مع دول المنطقة، إلا أن الشعب كان يعيش تحت سلطة نظام بوليسي وأوليغارشية صارخة تحت رعاية ليلى الطرابلسي زوجة المخلوع، وأباطرة من المقربين منها ومن زوجها الرئيس، عاثوا في الأرض فسادا وجعلوا أعزة أهلها أذلة، حيث كانت أبواب السجون مفتوحة في وجه من كان يعارض سياسة نظام بنعلي، هذا رغم أن المجتمع التونسي لم يكن مجتمعا هينا بحكم أنه كان يمتلك الأدوات السياسية كتحصيل للمشروع المجتمعي البوركيبي الحداثي، الذي كان قد وصل مرحلة النضج.

 مشروع بني بعد الاستقلال، تأسس على ضمان التعليم للجميع و تمتيع المرأة بكامل الحقوق وإقرار نموذج مدني أقرب للعلمانية أمام سلطة الدين، فأصبح المجتمع التونسي نسبيا يتمتع بكافة شروط الحداثة، هكذا تكونت نخبة حداثية قادرة على مواكبة العصر وحماية مكتسباته من بطش النظام البوليسي، يكفي هنا الحديث على عدم قدرة النظام التونسي على حظر العمل النقابي في الجامعة في وجه نقابتي “الاتحاد العام لطلبة تونس” و”الاتحاد العام التونسي للطلبة” كأهم روافد النقلة النوعية في تكوين قيادات ثورية جديدة متجددة، بل حتى الأمن كانت لديه نقابة الأمنيين.. ناهيك عن باقي المؤسسات والتنظيمات السياسية والحقوقية التي كانت دائما في وضعية ترقب لنضج الخيار الثوري، وهنا لابد من الإشارة لدور قيادات بارزة والتي عانت الويلات مع نظام بنعلي: كـ”حمة الهمامي” “سهام بن سدرين” و “بشرى بلحاج حميدة” و “سامية عبو” واللائحة طويلة سنعود لذكرها..  هذا الوضع المتقدم نسبيا الذي عجز النظام التونسي عن استئصاله بسب صلابة المجتمع وتعلمه مكنه من عدم الانزياح وراء إعلام الأسرة الحاكمة والخطاب السياسي الرسمي، الأمر الذي سيأتي أكله في 14 يناير 2011 إثر مقتل الشهيد البوعزيزي احتراقا…