يبدو أن حراك الريف، الذي بلغ شهره الثامن، مرشح للاستمرار و الانتشار أكثر. ولعل من أهم أسباب ذلك سوء تدبير  السلطة لهذه الأزمة منذ بدايتها. فكل الأساليب التي استعملت في التعاطي مع هذه الحركة الاجتماعية، لم تفض إلى أي نتيجة تذكر. و بإمكان المتتبع لكرونولوجيا الحراك الشعبي بالحسيمة، أن يلاحظ كيف أن تدبير الدولة لهذا الصراع اتسم بالارتباك و عدم النجاعة. فالإجراءات المتخذة تدرجت من الوعود بالتحقيق النزيه في قضية طحن محسن فكري، إلى القمع الممنهج الجاري حاليا، مرورا باتهام الحراك بالنزعة الانفصالية وبالتمويل من الخارج، فالتراجع عن هذه التهم، ثم إرسال بعثات وزارية إلى المنطقة وغيرها.

فبعد وعود التحقيق العميق في قضية طحن محسن فكري، قدمت أكباش فداء، ولم تشمل المحاسبة كبار المسؤولين. الأمر الذي لم يقنع نشطاء الحراك الذي انبثقت من رحمه قيادات ميدانية ذات مصداقية. كما أن السلطة تعاملت مع احتجاجات الحراك بنوع من المرونة في بعض الأحيان، مراهنة في ذلك على عامل الزمن من أجل إنهاك الحراك. ولكن الاحتجاجات استمرت ولم تضعف مع توالي الأيام و الشهور. وحاولت السلطة تأليب المنتخبين المحليين وجمعيات المجتمع المدني والساكنة ضد الحراك. ولكن الحراك يأبى إلا أن يصمد ويستمر.

 ومما زاد الطين بلة، ترؤس وزير الداخلية الجديد لاجتماع مع رؤساء أحزاب الأغلبية، أدلوا عقبه بتصريحات إعلامية تدين الحراك و تشكك في مطالبه و تتهم نشطاءه بالنزعة الانفصالية و بتلقي الأموال من الخارج. وكان الهدف طبعا هو السعي إلى زعزعة مشروعية الحراك التي ما فتئت تزداد مع مرور الوقت. لقد شكل هذا الاجتماع وما تلاه من اتهامات في حق النشطاء منعطفا كبيرا في تطور الحراك. فقادة الحراك سرعانما نفوا صحة هذه التهم وطالبوا الحكومة بتقديم الأدلة على ما تدعيه. و من غرائب الأمور أن أحزاب الأغلبية ستتراجع عن اتهاماتها يوما بعد ذلك، فتصدر بيانا تعترف فيه بمشروعية مطالب الحراك. ولم تمض سوى أربعة أيام على إطلاق هذه التهم والتراجع عنها، حتى نظم نشطاء الحراك أضخم مظاهرة عرفتها مدينة الحسيمة منذ واقعة طحن محسن فكري. وفي نفس اليوم سيدلي الناطق الرسمي باسم الحكومة بتصريح يؤكد فيه اعتراف الحكومة بمشروعية مطالب الحراك. أربعة أيام بعد هذه المسيرة الحاشدة، سيتنقل وفد وزاري بتعليمات ملكية إلى المدينة، حيث سيعقد لقاءات مع المنتخبين المحليين ومع ممثلي جمعيات المجتمع المدني. ولكن الغائب الأكبر عن هذه اللقاءات كان هو الحراك.

إن السلطة تخطئ التقدير إذا كانت تعتقد أن باستطاعتها أن تطفئ جدوة الحراك بالاعتماد على المقاربة الأمنية. فبإمكانها أن تمنع و تقمع أي وقفة أو مظاهرة، ولكن ليس بمقدورها أن تقضي على روح الاحتجاج و المطالبة السلمية بالحقوق، والتي أصبح الحراك يعبر عنها بأشكال إبداعية جديدة 

أما النقطة التي أفاضت كأس سوء تدبير الأزمة، فتمثل في لجوء الدولة إلى استعمال الحقل الديني من أجل شيطنة الحراك من جديد وضرب مشروعيته المتصاعدة. فخطبة الجمعة التي اتهمت نشطاء الحراك بإثارة الفتنة، استفزت المصلين ومن ضمنهم قائد الحراك ناصر الزفزافي الذي اضطر إلى مقاطعة خطيب الجمعة. وهنا سيبدأ أخطر منعطف عرفه الحراك، حيث شرعت السلطة في القيام بحملة واسعة لمطاردة قادة ونشطاء الحراك واعتقالهم ومتابعتهم بتهم ثقيلة. ناهيك عن قمع أي شكل من أشكال الاحتجاج. و رغم استمرار الاعتقالات وصدور أولى الأحكام القاسية، فإن الحراك لم يتوقف طيلة شهر رمضان في منطقة الريف. كما انتشر الحراك الشعبي كبقعة زيت في كل مناطق المغرب، وتوج بالمسيرة الوطنية الكبرى التي نظمت بالرباط يوم 11 يونيو 2017.

فيما يخص المبادرات و محاولات الوساطة من أجل إيجاد حل للأزمة، فقد باءت كلها بالفشل. كما أن مساعي السلطة لم تنجح في إقناع عائلات المعتقلين من أجل تقديم طلبات العفو. وأخيرا اختزلت الأزمة بكل تعقيداتها في أبعاد ذات طبيعة تقنية و إدارية تتعلق بالتعثر في إنجاز مشاريع برنامج “الحسيمة – منارة المتوسط”. وخاب ظن العائلات وأحبطت آمالهم في إطلاق سراح أقاربهم بمناسبة عيد الفطر. فلم يبق أمامهم و أمام نشطاء الحراك سوى الاستمرار في التعبئة لمسيرة العيد التي كانت مقررة من قبل. و قد حج سكان منطقة الريف بكثافة إلى مدينة الحسيمة في ذلك اليوم المشهود. ولكن السلطات الأمنية ضاق صدرها وانتقلت إلى السرعة القصوى في مقاربتها الأمنية، فقامت بتطويق المدينة وإغلاق كل الطرق المؤدية إليها. إلا أن هذه الإجراءات الأمنية المشددة لم تمنع حشود الوافدين من التسلل عبر المسالك الجبلية و الدخول إلى المدينة. و انطلقت مسيرات احتجاجية من عدة أحياء، لكنها جوبهت باستعمال مفرط للقوة بواسطة الهروات والقنابل المسيلة للدموع، ناهيك عن الركل والرفس والسحل. وكانت حصيلة عيد الفطر هذه مثقلة دماء ودموعا وجراحا واعتقالات بالجملة.

إن السلطة تخطئ التقدير إذا كانت تعتقد أن باستطاعتها أن تطفئ جدوة الحراك بالاعتماد على المقاربة الأمنية. فبإمكانها أن تمنع و تقمع أي وقفة أو مظاهرة، ولكن ليس بمقدورها أن تقضي على روح الاحتجاج و المطالبة السلمية بالحقوق، والتي أصبح الحراك يعبر عنها بأشكال إبداعية جديدة مثل صعود السكان ليلا فوق أسطح منازلهم و إطفاء الأنوار وقرع الأواني وترديد الشعارات.

لقد بينت تجربة حراك الريف، وكثير من الدراسات التي أجريت حول مجموعة من الحركات الاجتماعية في بلدان عدة، أن قمع الحركات الاحتجاجية يزيد من حدة الاحتجاج ويعمل على انتشاره أكثر من التعامل المرن معها. لهذا تذهب فئة من المتتبعين العقلاء إلى أن المخرج الوحيد المتبقي من هذه الأزمة المتفاقمة هو فتح حوار حقيقي مع قادة الحراك بعد إطلاق سراحهم. آنذاك يمكن الشروع في تفاوض وفق جدول أعمال متوافق عليه و حسب سلم أولويات على المدى القريب والمتوسط.