
"الإسلاموية وما بعد الإسلاموية": تفكيك ونقد

تعقيبا على مقال “الإسلاموية في العالم العربي: تأويلات لبعض المسارات السياسية” لصاحبه تيري دوسري وبالأخص محور: من فشل الإسلاموية إلى ما بعد الإسلاموية، سنحاول الإنطلاق من خلفية منهجية قائمة على مسألتين أساسيتين: أولا تفكيك أطروحة المقال و أفكاره الرئيسية (عمل “موضوعي”)، وثانيا تركيب الأطروحة مع محاولة التفاعل النقدي معها (عمل “ذاتي”). والهدف الأساسي من خلال هذه المحاولة، زيادة على قراءة مضمون هذا المقال، هو تقديم “رؤية” معرفية تحاول “تجاوز” مأزق التقابلات (مع وضد) التي تسربت إلى العمل الأكاديمي ، كما تتغيى فهم الظاهرة بعيدا عن النقاشات السياسية وعن منطق “المناصرة أو العداء”.
آراء أخرى
تكمن أهمية هذا المقال، موضوع الدرس والتحليل، في الإطار النظري والعدة المنهجية الذي قارب به الباحث إشكاليته الرئيسية، فقد إستلهم الباحث أدواته التحليلية (النظريات، المفاهيم والمنهج) من مختلف التخصصات في العلوم الإنسانية، وبشكل خاص من حقلي الدراسات الأنثربولوجية والسوسيولوجية. ويعتبر هذا الإطار المعتمد إطارا متعددا مركبا ومنفتحا يلمس فيه القارئ، أولا حضور البعد النقدي والجدلي المتجاوز لليقينيات الجاهزة ولتعابير الوصم الرائجة في الخطاب الإعلامي، وثانيا وجود ذلك النفس التركيبي المنفتح على مختلف الأطاريح التي تناولت هذه الظاهرة. وبالإضافة إلى ذلك، تكمن أهمية هذا المقال أيضا في إدراك الكاتب ووعيه بتعقد الظاهرة وتراكبها الشيئ الذي يستلزم تتبعها في منحنياتها الخاصة والتوقف عن إصدار أحكام عامة تخفي معاني الظاهرة أكثر مما تظهرها، ف”الظاهرة الإسلامية” (أستعير هذا المصطلح من الباحث الإسباني خوان لاكومبا من خلال دراسته لنشوء الظاهرة الإسلامية في المغرب الكبير) إن صح أن لها قواسم مشتركة في مختلف البلدان التي برزت فيها (المشترك هنا هو ما يسميه مانهايم ب”المثال”، أي المثال الإسلامي المتجسد في المرجعية المشتركة والتي تحرك مختلف الفاعلين داخل الحركات الإسلامية على تعددها) إلا أن الحركات الإسلامية لا تمثل كلا منسجما ومتجانسا، وإنما هي حركات متعددة ومختلفة ينبغي دراستها وملاحظتها وفق سياقات تاريخية سياسية وثقافية وإقتصادية وإجتماعية والتي تفرض وجود شساعة في المعاني والمواقف وكذا في تفاعل كل حركة مع هذا الواقع.
وتجدر الإشارة إلى أن صاحب المقال تعامل منهجيا مع إشكاليته من خلال تقديم الأطروحة أولا ثم نقيضها ثانيا ثم تقديم تركيب يحاول مناقشة المتناقضين أولا ثم محاولة الجمع بينهما تاليا.
من فشل الإسلاموية إلى ما بعد الإسلاموية: محاولة تفكيك
يأتي هذا المحور من المقال مباشرة بعد المحور الأول الذي اختبر فيه الكاتب فرضيته المنصبة حول قياس مدى توافق الأجندة الإسلامية الحركية مع المبادئ والثقافة الديمقراطية، وذلك من خلال نقطتين أساسيتين: الأولى، تناولت بالتحليل المشروع السياسي للحركات الإسلامية وسؤال الديمقراطية والدولة، والثانية تناولت قضية المرأة داخل الحركات الإسلامية.
وبغض النظر عن النتائج المفصلة المستقاة من هذا المحور، يمكن القول من باب الإجمال و انسجاما مع فكرة كون الحركات الإسلامية كلا متعددا ومختلفا، أن الباحث ميز بشكل دقيق بين مسارات متناقضة داخل هذه الحركات، فبينما بقيت بعض هذه الحركات ثابتة على مواقف و اتجاهات دوغمائية تلغي الزمن الجدلي (بتعبير العروي) ودينامية التاريخ، سجل الباحث مسارات لتيارات أخرى مختلفة استطاعت أن تعيد بناء مواقفها وتحيينها في إطار مراجعات فكرية وتأويلية ونقدية للمتن التراثي (نذكر على سبيل المثال لا الحصر إسهام عبد الحليم أبو شقة بأربع مجلدات حملت عنوان “تحرير المرأة في عصر الرسالة”، العمل الذي منع تداوله في العديد من البلدان لخروجه عن المعهود و المألوف:الثقافة الذكورية).
هذا التمهيد ضروري لفهم المحور التالي الذي يناقش فيه الكاتب مسألة فشل الإسلاموية و ما بعد الإسلاموية. فبناءا على ذلك، يقر الباحث بصعوبة التسليم بأطروحة الفشل ليميز مرة أخرى نماذج لبعض هذه الحركات التي استطاعت أن تستوعب “الثقافة الوطنية” واستطاعت أن “تتغلغل” في بنية مجتمعاتها بعد أن كانت في وقت من الأوقات تشتغل خارج هذه البنية، وذلك بفعل ممارسة نوع من النقد الذاتي حيث القبول التدريجي يمجال سياسي مستقل إلى حد ما عن الدين والقبول بالتعددية أو بشكل عام الوعي بالواقع من خلال البدء في تأسيس ثقافة سياسية جديدة “تلاءمت” أو إقتربت من التلاؤم مع مستجدات الواقع.
هذه هي الأطروحة التي دافع عنها الكاتب وذلك بعد أن قدم أطروحتين متناقضتين لإسمين كبيرين إشتغلا على نفس المواضيع لكن من خلال زوايا نظر مختلفة:
الأطروحة (أوليفييه روي): منذ التسعينيات من القرن الماضي دافع روي عن أطروحة فشل الحركات الإسلامية مؤكدا، من جهة، على أن المجتمعات ذات الغالبية من المسلمين ستدخل في حقبة ما بعد الإسلاموية، ومن جهة ثانية على أن الإسلاموية كتعبير سياسي وثقافي إحتجاجي تحول إلى أصولية جديدة (تحول الإسلام إلى الراديكالية) وذلك من خلال سيرورة من التثاقف قضت على الأشكال المحلية في التدين (التدين الشعبي) في استغلال للتأثير القوي الذي يلعبه الإعلام كمؤسسة تنشئوية جديدة (نحته لمفهوم الأمة الإفتراضية للتعبير عن بعض الظواهر التي بدأت تظهر على مستوى شبكة الأنترنت).
نقيض الأطروحة (فرانسوا بورغا): على النقيض من أطروحة روي، ينطلق بورغا، الذي تتميز أبحاثه بكونها ميدانية حيث قضى أكثر من 15 سنة متنقلا بين المغرب والجزائر وتونس ومصر والأردن… بحثا عن معاني الظاهرة، ينطلق هذا الباحث من زاوية نظر مختلفة إذ تنبأ بتغلغل الحركات الإسلامية في المجتمعات ذات الغالبية من المسلمين مؤكدا على أنها ستتمكن من حيازة السلطة عاجلا أم اجلا وذلك على إعتبار أن هذه الحركات تمثل حركة الدفع الثالثة و الأخيرة في اتجاه التحرر من الهيمنة الغربية بمختلف أشكالها، هذا بالإضافة إلى كون السردية الإسلامية أقرب إلى الوجدان الشعبي و إلى المخيال الجماعي للشعوب، ومن هنا “جاذبيتها” بل و اتخاذها لأشكال معارضة للأنظمة.
من فشل الإسلاموية إلى ما بعد الإسلاموية: مناقشة ونقد
يبدو أن فهم الحركات الإجتماعية والإحتجاجية والتفاعل الإيجابي مع متطلباتها وبالتالي تجنيب البلدان لسيناريوهات سلبية يستدعي فهما عميقا لمعاني هذه الحركات ودلالاتها في سياق معين.
إن فشل الحركات الإسلامية في التطور والتفاعل مع الواقع والإنتقال من الإشتغال وفق براديغم تقليداني لا تاريخي وستاتيكي قد يكون إذن، بمعنى من المعاني المشار إليها، تعبير أيضا عن فشل الدولة الوطنية من الإنتقال نحو تأسيس الإنتقال الديمقراطي وتجاوز المنطق الهيمني في الحكم.
فقد يكون فشل الحركات الإسلامية كإطار “شعبي” يحتضن فئات هامة وواسعة من المجتمع، قد يكون هذا الفشل لا يرتبط فقط بعوامل ومعطيات ذاتية (غياب النقد الذاتي، فهم الواقع…) ولكن قد يكون مرتبطا أيضا بعوامل موضوعية (سياسات الدولة وتدابيرها في مختلف المجالات). فمن الواضح أن مفهوم الدولة الذي تم استيراده من سياقات خارجية ما زال يعاني أزمة التبيئة والتكييف في سياقات محلية، من هذا المنطلق يؤكد جون كلود سانتوشي، عبد الرحيم المشيشي، برونو إسيان، ريمي لوفو…وغيرهم من الباحثين، أن الحركات الإسلامية هي نوع من الجواب المجتمعي على طبيعة الحداثة المقترحة من طرف الدولة الوطنية الناشئة في أحضان الإستعمار والتي يؤكد الراحل محمد عابد الجابري، في مقاله النقدي عن التنمية في المغرب، بأنها تأسست في البدء على التمييز بين المغرب النافع والمغرب الغير النافع، بين المعمرين والأهالي…وهي نفس السياسات التي استمرت غداة الإستقلال حيث التمييز والهيمنة و الإستغلال إذ تشكلت طبقة مما أسماه بول باسكون بالمعمرين الجدد الذين استفادوا من البنية القانونية التي تتيح مراكمة الثروات لفئة قليلة دون فئات أخرى.
هذا النموذج الدولتي الذي تبنى منطقا في الحكم قائم على الهيمنة، وفي ظل سيادة خطاب رسمي متردد وفي ظل اتساع رقعة الإستبعاد الإجتماعي مع تزايد النمو الديمغرافي، وفي ظل غياب المؤسسات السياسية الديمقراطية للتداول الحر، ومع تزايد الإحساس بفقدان الهوية الثقافية والدينية…من الطبيعي إذن أن تتشكل حركات اجتماعية تشتغل خارج البنية للتعبير عن حاجيات المجتمع الذي أنتجها، وقد اتخذ هذا التعبير شكلا إسلاميا، حسب مارتن مونيوز، لأنه النموذج الأكثر طبيعية للتعبير عن المعارضة والتغيير. فالسؤال الأساسي الذي يجب أن يطرح من خلال كتابات هؤلاء الباحثين يتجلى أساسا في مدى إستمرار الدولة الموروثة عن الإحتلال الأجنبي في الوفاء لمنطق الهيمنة و الإستغلال (وهي مسألة تتجاوز الرموز الظاهرة الممثلة للدولة إلى مصالح فاعلين خارجيين)؟ أم أنها ستتجه إلى تبني دينامية إصلاحية لتصالح نفسها مع بيئتها وسياقها؟
هذا السؤال يحيلنا على خطورة المقاربة التكنوقراطية التي تبنتها الدولة منذ الإستقلال، وهي مقاربة قائمة على أهداف كمية مع إغفال البعد الأتثربولوجي والسوسيولوجي في التنمية، بمعنى أن التنمية ليست وفقط عبارة عن مؤشرات رقمية وكمية ولكنها مسألة ثقافية تعبر عن إرادة الشعوب وتحيزاتها المعرفية على حد تعبير عبد الوهاب المسيري (وهو ما يعنيه شعار الكرامة الذي يتردد بكثرة في الإحتجاجات)، إننا بصدد الحديث عن مشكل ماكرو سياسي-اقتصادي-اجتماعي-ثقافي لخصه الأستاذ طه عبد الرحمان في إستلهام “واقع الحداثة” وإغفال “روح الحداثة”.
إن فشل الحركات الإسلامية في التطور والتفاعل مع الواقع والإنتقال من الإشتغال وفق براديغم تقليداني لا تاريخي وستاتيكي قد يكون إذن، بمعنى من المعاني المشار إليها، تعبير أيضا عن فشل الدولة الوطنية من الإنتقال نحو تأسيس الإنتقال الديمقراطي وتجاوز المنطق الهيمني في الحكم.
بالمقابل، يصعب التسليم أيضا بنجاح التيارات الإسلامية (بورغا) لمجرد أنها تمثل فئات واسعة من المجتمع ولمجرد أن السردية الإسلامية تمثل التعبير الأكثر قربا من الوجدان الشعبي في المجتمعات ذات الغالبية من المسلمين. فبدون وجود ثقافة نقدية ذاتية لدى الحركات الإسلامية تتجاوز شظايا الفكر التراثي الميت (الثقافة الميتة بلغة مالك بن نبي) والذي لا يزال موجها للعقل الإسلامي (اكتشاف روح الدين على حد تعبير طه عبد الرحمان)، وبدون استيعاب الحركات الإسلامية لمجمل التحولات التي عصفت بالإنسانية خصوصا في الثلاثة قرون الأخيرة (ما يسميه المسيري بفقه الحداثة)، وبدون إقتحام هذه التحولات بنفس نقدي وتجديدي وإبداعي بحيث تعاد مساءلة المفاهيم والنظريات والمناهج من حيث الأصول المعرفية، وبدون الوعي بمحدودية المدخل السياسي في الإصلاح وبالتالي الإشتغال على قطاعات أكثر تأثيرا (الثقافة والفن) ونفاذا إلى الإنسان، وبدون الإنفتاح على قارة العلوم الإنسانية (ايات الأنفس) والعلوم الكونية (ايات الافاق) واستثمارها في فهم الدرس الديني وبالتالي في تحقيق الفعالية الحضارية من خلال النهوض بالفاعل الإنساني، وبإختصار فبدون تحقيق تحول مطلوب على مستوى الراديغم، بإعتباره يمثل مجموع الأدوات والقوانين التي يمارس من خلاله الفاعلون نشاطاتهم ويدبرون به أفكارهم و أعمالهم، يصعب الحديث عن نجاح الحركات الإسلامية خصوصا وأن كل ذلك له علاقة مباشرة وغير مباشرة مع المسألة المركزية في كل مجتمع ألا وهي المسألة الإجتماعية: أي تحسين أوضاع الناس والإنتقال من حياة البؤس إلى حياة الكرامة.
وتفيدنا أطروحة “الدولة المستحيلة” للأستاذ وائل حلاق، بإعتبارها إمتدادا للمجهود النقدي الأخلاقي للحداثة الغربية (طه عبد الرحمان)، تفيد هذه الأطروحة في التأكيد على صعوبة المواءمة بين الشريعة الإسلامية (الشريعة هنا ليس بذلك المعنى الضيق الذي يختزل في الحدود لكن بمعنى أكثر إتساعا وشمولا أي ذلك الإطار الإيتيقي و الأخلاقي الذي من خلاله تحدد معايير الصواب والخطأ) من جهة، وبين الدولة الحديثة من جهة ثانية، وتكمن هذه الصعوبة في الإختلاف الجذري بين المنظومتين من حيث الأسس الفلسفية والمعرفية.
لقد انطلقت السردية الغربية منذ عصر النهضة ثم عصر الأنوار من “وعود” معينة جوهرها الإتجاه إلى تملك الطبيعة والذي لخصه فولتير في روايته كانديد في شعار “كل ما أعرفه هو الإهتمام بمزرعتي” ، الشيئ الذي يعني بالأساس “التخلي” التدريجي عن الميتافيزيقا و عن الغيبيات في الأمور الدنيوية وذلك من خلال “الإيمان” بالعقل وبكونه الوحيد الذي له مشروعية في “السيطرة” أو على الأقل في تفسير العالم و الطبيعة. صحيح أن المراحل الأولى لظهور هذا التوجه (مرحلة الهيومانيزم أو الإنسانية) تميزت ليس بالإستبعاد الكلي لله أو الغيبيات وإنما تقليص تدخلها في تفسير الكون وإعطاء المعنى في حدود معينة، إلا أن المراحل التي تلت هذه المرحلة قضت على هذه الفكرة (المبنية على ثنائية الإنسان والإله) وبالتالي الإتجاه التدريجي إلى نفي حضور القوة المطلقة (الراسيوناليزم) وبالتالي إعتبار العقل الإنساني معيارا للوجود ومفتاحا لفكرة التقدم الذي سيخرج الإنسان من “غياهب الأسطورة وتخرصات الدين” (المدرسة الوضعية التي اعتبرت المرحلة الوضعية اخر المراحل التي تعبر عن انتقال الإنسان من مرحلة الشقاء إلى مرحلة السعادة التامة).
أفتح قوسا هنا لأقول أنه لا يمكن فهم تاريخ تطور الأفكار في الغرب إلا بالنظر إلى دور الكنيسة من جهة أولى والتي قدمت الدين بطريقة تلغي فاعلية الإنسان في الحياة وبالتالي سيطرتها على مختلف مناحي الحياة من خلال حديثها بإسم الله في الكون، ومن جهة ثانية الديانة اليهودية التي قدمت على أنها ليست إلا شرائع قانونية تلغي فكرة الحرية والإستقلالية النسبية لهذا الإنسان، الشيئ الذي ساهم في إنتاج رد فعل متطرف من الجهة المقابلة إلى حد أن اسبينوزا اختزل الإله في الطبيعة والمادة ملغيا بعده المتعالي والمتجاوز.
إجمالا، لقد تحولت مركزية الكون من الإله إلى الإنسان، ولم تدم هذه الفكرة إلا قليلا حيث تمت “تسوية” الإله والطبيعة والإنسان في طبيعة واحدة كما لدى اسبينوزا، لكن هذه التسوية لم تتبدى بشكل واضح إلا مع نتشه الذي طالب بإزالة مختلف الثتائيات والعيش في مركزية مادية كاملة من خلال إيمانه بأخلاق القوة المتجسدة في السوبرمان أو الإنسان الأعلى الذي تسقط عنه التكاليف و المسؤوليات الأخلاقية والإنسانية. فنتشه تعبير إذن عن دخول الحضارة الغربية في مرحلة السيولة (مرحلة ما بعد الحداثة) حيث لم يعد هناك مركز ولم تعد هناك مرجعيات، ولم تعد هناك حقيقة، فكل الأمور نسبية مطلقة وأضحى الإنسان مرجع نفسه يشرع لها كما أراد وبالتالي التفكيك التدريجي للإنسان وما به من قيم ومطلقات ضرورية للعيش المشترك.
وقد تأسس مفهوم الدولة في البداية، أي بمعناها الحديث، وذلك لتعويض فكرة “السيادة” اللازمنية (الميتافيزيقية أو الروحية) بفكرة السيادة الزمنية (السياسية)، بمعنى أن الدولة الحديثة حلت محل “الإله” وأصبحت تتمتع بما كان الإله يتمتع به (الفكرة المطلقة لدى هيغل) من سلطات وقوى حتى أصبحت الدولة الشمولية في مراحل لاحقة موجهة بل ومهيمنة على أكثر المناطق خصوصية ومحافظة وحميمية من خلال الياتها وسلطاتها القوية والناعمة (اليات المراقبة والإخضاع). ومعنى ذلك أن الدولة الحديثة تأسست على أساس فلسفي يفصل بين العالم المرئي والعالم الغيبي، أو بتعبير طه عبد الرحمان فقد تأسست هذه الدولة على مسلمة قصور الوجود الإنساني في العالم المرئي مع إستبعاد إمتداده الروحي.
وبالتأكيد، يشير وائل حلاق أن عدم إفراز المنظومة الإسلامية لمفهوم الدولة الحديثة ليس قصورا من هذه المنظومة ولكن لأن إطارها الأخلاقي منع إلى حد ما من بروزها، ويعطي حلاق أمثلة على عدم إستطاعة السلطة السياسية في الإسلام،بالرغم أن معظم تاريخها كان استبداديا، إلا أنها لم تستطع النفاذ والتحكم في الحياة الخاصة بل لم تستطع التحكم في التعليم والقضاء خارج دوائر النفوذ في المركز.
إن ما يهمني من خلال هذه الإشارات ليس هو تأكيد أو دحض أطروحة معينة بقدرما تهمني الإشارة إلى أنه لا بد للعقل الإسلامي أن يتناول معرفيا وفلسفيا إشكالية الدولة وأن يعيد النظر إليها بشكل نقدي يتجاوز التسطيح والإختزال، أختم بسؤالين يمثلان عنوانا لمفارقة كبرى: كيف يمكن إذن تبيئة الدولة الحديثة القائمة على أصل فلسفي يناقض جذريا و التحيزات المعرفية في سياقنا التداولي؟ بالمقابل هل يمكن إبداع أنماط جديدة من الحكم تتجاوز ما هو سائد دون المرور ضرورة من هذه الأشكال الحالية؟ وبتعبير أبو يعرب المرزوقي، هل يمكن الوصول إلى ما هو منشود دون إستيعاب واف لما هو موجود؟