إن المتأمل لتقاسيم الوطن يراه كل يوم في شأن؛ في سمائه، في شمسه، في ليله، في فضاءاته، وفي أجساده أيضا. أجساد الوطن ليست كبقية الأجساد، وذواته ليست كمثل الذوات. الجسد في رأي العلم آلة ميكانيكية، وفي رأي التسويق علامة تجارية، وفي رأي السفسطة خطيئة، غير أن معناه في رأي الجلاد لا يخرج عن دائرة المدنس والمقموع، جسد يباع في سوق الممتلكات، ويشترى من سوق النخاسة… إنه الجسد القابع في غياهب المعتقلات وفي ردهات الزنازين.

استيقظ المواطنون ذات يوم من أيام الاستثناء المزعوم، على وقع صورة متحركة لجسد كاس عار رهن الاعتقال، صورة متحركة لكنها صماء وخرساء، سربها الجلاد تلميحا منه لإذلال الرموز المناضلة، وتشويها للحركات الاجتماعية؛ حسب تحليل المتخصصين في سيميولوجيا الصور.

الصورة تختزل تمثلات جسد تعددت دلالاته وشفراته. جسد عار انزاح عن سياقه الاجتماعي والإنساني والزمني، وتحولت صفاته البيولوجية والروحية إلى كتلة وثنية؛ منحوتة ومصاغة وفق مقاسات اصطناعية وأشكال مزيفة؛ إرضاء لهوس سلطة جلاد جامحة، ومجنونة بسادية عمياء؛ مولعة بإنتاج الأجساد وترويضها، وشغوفة بالبشاعة والتشويه والبتر. سلطة عاشقة للعبث بالأجساد العارية والكاسية والتمثيل بها.   

الصورة تجسد كذلك تناقضا صارخا بين أجساد؛ مقدسة وأخرى مدنسة: 

أجساد نخب مهيمنة على باقي الفئات؛ في التعليم والوظائف والرياضة والمقاولة والمال والموضة واللباس والإتيكيت؛ عوالم تضفي على الجسد قيمة رمزية بالنظر إلى التفاوت الاجتماعي، وباعتبار التواطؤ الطبقي.

الصورة تجسد كذلك تناقضا صارخا بين أجساد؛ مقدسة وأخرى مدنسة: أجساد نخب مهيمنة على باقي الفئات؛ في التعليم والوظائف والرياضة والمقاولة والمال والموضة واللباس والإتيكيت؛ عوالم تضفي على الجسد قيمة رمزية بالنظر إلى التفاوت الاجتماعي، وباعتبار التواطؤ الطبقي.

في خضم هذا التمييز الذي تحظى به أجساد الجماعات المهيمنة، فإن هذه الجماعات تعتبر أجسادها رأسمالا جديرا بالتقدير والاعتبار والخلود. إنها عملية تكريس التفوق الحقيقي والرمزي في كل المجالات وعبر كل الأزمنة، وتثبيت مبدأ الاحتكار والاستحواذ والنفوذ؛ بل وتوريث هذا الرأسمال الجسدي وانتقاله إلى الخلف الافتراضي من ذوي هذه الجماعات المهيمنة.

وفي المقابل نرى كل يوم أجسادا تتهاوى من البنايات الشاهقة مخلفة أشلاء لا تأمين لها ولا ضمان اجتماعي، ونشاهد أجسادا تحترق تحت قيظ الشمس وحرها؛ بحثا عن كسرة خبز حاف أو لقمة عيش مرة، ونستيقظ كل صباح على خبر أجساد مهاجرة سرا بحثا عن فرص شغل في الضفة الأخرى؛ وقد تحولت إلى جثث في أعماق البحر قد تطفو أو تصبح وجبة للحيتان الضخمة. وما بال الأجساد التائهة في أدغال المناطق النائية؛ تلك التي ترزح تحت وطأة النسيان، وتتدثر لتدفأ بألحفة الجليد، وتفترش ما تراكم حولها من الثلوج، أو تلك القاطنة فيما يسمى بالمغرب غير النافع؛ حيث لا ماء ولا كهرباء، لا مواصلات ولا مسالك معبدة، لا علاج ولا تمدرس، لا عقود زواج ولا معنى حقيقي للزواج.

أمام هذا الاجحاف الطبقي الذي يتعرض له الجسد كل يوم، وفي ظل تنامي نزعة توظيف الجسد في الميول الشاذة في المجتمع، وفي خضم فصل الجسد عن القيم الروحية والأخلاقية والرمزية، وضمن استهداف تدمير قدرات الجسد وإقصاء كفاءاته وتهميشها، لم يعد إزاء كل هذه الصور المهينة والانتقائية للجسد؛ إلا أن نصلي صلاة الجنازة على المجتمع الذي مازال يميز بين المقدس والمدنس في الأجساد؛ فأحرى بين القيم التي تسكن ثنايا هذه الأجساد.