
الحسيمة منارة الكرامة

قبل اعتقاله بأسبوع، دعا قائد حراك الريف ناصر الزفزافي إلى تنظيم “مسيرة مليونية تاريخية” بمدينة الحسيمة يوم 20 يوليوز 2017. وقد كانت هذه الدعوة تهدف إلى الدفع في اتجاه الاستجابة للملف المطلبي للحراك، خاصة بعد النجاح الباهر الذي عرفته مسيرة 18 ماي 2017. و كعربون وفاء و إخلاص لقادة الحراك بعد اعتقالهم، استمر النشطاء في التعبئة للمسيرة تحت شعار إطلاق سراح جميع المعتقلين و فتح حوار مع القادة حول مطالب الحراك. كانت السلطات تعتقد أنها باعتقالها للقادة ستقضي على هذه الحركة الاجتماعية أو ستضعفها على الأقل. ولكن الرياح تجري بما لا تشتهي سفن السلطة، إذ كلما قُطِفت رؤوسًُُُُ ُ، أينعت أخرى.
آراء أخرى
فإلى أي حد كُلِّلت مسيرة 20 يوليوز بالنجاح، خاصة بعد أن أمكن للحراك أن يصمد طيلة تسعة أشهر؟ كما تؤكد أدبيات علم اجتماع الحركات الاجتماعية، فأن أي شكل احتجاجي-المسيرة هنا كنموذج- يسعى منظموه من خلاله إلى الظهور بمظهر قوي في الفضاء العام. وثمة مؤشران هامان لقياس ذلك: قوة العدد و حجم التغطية الإعلامية.
1- قوة العدد:
يبين الاختلاف في الأرقام بين السلطات والمنظمين حول أعداد المتظاهرين، أن قوة العدد المجسدة لمدى البعد الجماعي، تعتبر مؤشرا على نجاح أي تعبئة احتجاجية. وفي هذا الصدد سيتم إيضاح كيف أن وزارة الداخلية بالمغرب كانت تخشى من القدرة الكبيرة لحراك الريف على التعبئة لمسيرة 20 يوليوز، فعملت على تمويه الأسباب الحقيقية لقرار المنع بتقديم مبررات قانونية و أمنية واقتصادية. و مما زاد الطين بلة، أن أحزاب الأغلبية الحكومية لم تجد غضاضة في تزكية هذا القرار.
لنتأمل سوية في مبررات المنع. و لنبدأ بالمبررات القانونية. يقول بلاغ عمالة إقليم الحسيمة: “لوحظ أن مجموعة من الفعاليات أطلقت نداءات متعددة، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، إلى عموم المواطنين من أجل المشاركة في تنظيم مسيرة احتجاجية بمدينة الحسيمة بتاريخ 20 يوليوز ] 2017… [بدون احترام المساطر القانونية المعمول بها، حيث لم تتوصل السلطة الإدارية المحلية المختصة بأي تصريح في الموضوع”. فضلا عن ذلك، يضيف البلاغ، فإن “الفعاليات أو ما يطلق عليه بـ”التنسيقيات” التي تقف وراء هذه الدعوة لا تتوفر على الصفة القانونية التي تخول لها تنظيم المظاهرات بالطرق العمومية”.
لن تتوقف مناقشة هذه المبررات عند الجانب المسطري المحض، نظرا لتأويلاته المتباينة بين الحقوقيين و رجال السلطة. و إنما ستتم مساءلة مدى احترام السلطات المغربية لمبدأ المساواة أمام القانون كإحدى الركائز الأساسية لدولة الحق و القانون. و سيؤخذ كمثال مضاد لمسيرة 20 يوليوز، المسيرة المشهورة بـ”مسيرة ولد زروال”، والتي نظمت بالبيضاء يوم الأحد 18 شتنبر 2016 ، أي خمسة أيام قبل بدء الحملة الانتخابية الخاصة بالاستحقاقات التشريعية ل07 أكتوبر 2017. و لا يخفى ما أثارته تلك المسيرة من جدل كبير آنذاك، خاصة و أن الدعوة إليها عبر صفحات “فيسبوك” قد تمت من طرف “جهات مجهولة الهوية”، مشبوهة الأهداف. فكيف تعاملت وزارة الداخلية مع هذا الحدث؟
كان وزير الداخلية السابق قد نفى في تصريح صحافي توصل وزارته بأي طلب رسمي من أجل الترخيص لهذا الشكل الاحتجاجي. و قال: “بمجرد علمها بهذا التحرك الاحتجاجي، قامت وزارة الداخلية بالتشاور مع كل المصالح الأمنية، وجرى التعامل معه بليونة بهدف مضيه في ظروف آمنة، تشرف انفتاح المغرب على مختلف تعبيرات المجتمع، ومن يقولون إن يدا خفية لوزارة الداخلية حركت المتظاهرين مخطئون”. لنلاحظ كيف تعاملت وزارة الداخلية مع “مسيرة ولد زروال” “بليونة بهدف مضيها في ظروف آمنة، تشرف انفتاح المغرب على مختلف تعبيرات المجتمع”، على حد قول ذات المسؤول. أما انعدام الطلب الرسمي من أجل الترخيص للمسيرة، و المصدر المجهول للدعوة إليها، و عدم امتلاك الصفة القانونية لهذه الجهات؛ على الرغم من كونها مبررات قانونية كافية لمنع المسيرة، فقد ضُرب بها عرض الحائط.
نحن إذن أمام سياسة الكيل بمكيلين في تطبيق مقتضيات قانون الحريات العامة، حيث يتم التأويل بما تشتهي السلطة: فإن كان الشكل الاحتجاجي يصب في مصلحتها تغاضت عنه، وإن كان موجها ضدها منعته. وفي هذا السياق، تقول “Sarah Leah Whitson”، مديرة قسم الشرق الأوسط و شمال إفريقيا في منظمة “هيومن رايتس ووتش”(HRW): “في المغرب، كثيرا ما يكون حق المواطنين في التجمع مشروطا بمدى رضى الحكومة على الرسالة التي يودون إيصالها”.
أما فيما يتعلق بالمبررات الأمنية و الاقتصادية لمنع مسيرة 20 يوليوز 2017 ، فقد سجل بلاغ الداخلية أنه “بعد تقييم الظروف المحيطة بالمسيرة المرتقبة، تبين أنه من شأن تنظيمها المس بحق الساكنة المحلية في أجواء أمنية سليمة، لاسيما مع تزامن الدعوة المذكورة مع الموسم الصيفي”. لا يسع المتتبع هنا إلا أن يتساءل عن أي القرارين يمس “بحق الساكنة المحلية في أجواء أمنية سليمة”، وبالإشعاع السياحي للحسيمة : هل هو السماح، كما جرت العادة من قبل، بتنظيم مسيرة سلمية حضارية لمدة زمنية محدودة و وفق مسار معروف، وبعدها ينصرف الناس بهدوء إلى بيوتهم أو إلى حيث يشاؤون، وتعود المدينة إلى حالتها الطبيعية؟ أم هو قرار منع المسيرة والدخول في تحدي لَيِّ الأذرع، خاصة مع تمسك نشطاء الحراك ومسانديهم بتنظيم المسيرة؟
أبلغ إجابة عن هذا السؤال تتمثل في الحصيلة الثقيلة و المؤلمة التي تم توثيقها بالصوت و الصورة، وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي و المواقع الاخبارية، فضلا عن مختلف الصحف و القنوات الفضائية الدولية : احتجاجات، وقفات و مسيرات “الشن الطن”، قنابل مسيلة للدموع، أدخنة، غازات، حبات بصل، إغماءات، صفارات إنذار، ركل و رفس، إصابات، بعضها خطير جدا، اعتقالات بالجملة، و محاكمات…إلخ.
إذا اتضح أن كل هذه المبررات واهية و غير مقنعة، فما الأسباب الخفية لقرار المنع؟ لعل ما كان يخيف السلطات أكثر هو الاسم الذي أطلقه ناصر الزفزافي على هذه المسيرة : “المسيرة المليونية التاريخية”. تاريخية بدلالة رمزية يحيل عليها اختيار زمن المسيرة، إذ كان الهدف هو ربط أمجاد التاريخ بنضالات حراك الحاضر. بهذه المسيرة تم تخليد ذكرى ملحمة معركة أنوال(1921) التي هزم فيها بطل الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي الجيش العرمرم للاستعمار الإسباني. و مما لا يجب إغفاله أيضا، أن السلطات كانت تخشى من الدعم السياسي الكبير الذي وفرته للحراك مجموعة من الهيئات اليسارية و الإسلامية والحقوقية والنقابية.
وإذا كان منظمو هذه المسيرة يريدونها فعلا “مسيرة مليونية تاريخية”، فإن السلطات عملت كل ما في مقدورها لتقزيمها إلى حدودها الدنيا. و لما فشلت إجراءات المنع و القمع و محاصرة الحسيمة في الإيفاء بالغرض(تقليص قوة العدد)، أصدرت عمالة الاقليم بلاغا تقول فيه بأن عدد المتظاهرين كان يتراوح ما بين 300 و400.
وبعيدا عن جدل الأرقام،ورغم شدة القبضة الأمنية التي كادت أن تخنق أنفاس المدينة، فقد استطاع أهل الريف، مؤازرين بمواطنيهم في الداخل وفي “الدياسبورا” الريفية بأوروبا، أن يكسبوا رهان تنظيم مجموعة من المسيرات المتفرقة. و كانت كل الطرق تؤدي إلى الحسيمة رغم تطويقها من كل جانب، و رغم مراقبتها جوا بواسطة طائرات الهيليكوبتر. كل هذه الاجراءات لم تحل دون توافد الكثير من سكان المناطق المجاورة و من حشود المتضامنين الآتين من مختلف ربوع المغرب. منهم من تحايل على الحصار سيرا في المسالك، أو تسلقا للجبال، أو على متن قوارب الصيد الساحلي. ومن الطرائف في هذا الباب تقمص بعض نشطاء المنطقة لدور أصحاب قافلة أهل العريس الراغبين في جلب العروس من الحسيمة.
2- حجم التغطية الإعلامية:
بعد بيان أهمية قوة العدد في نجاح أي شكل احتجاجي، سينصب التحليل على إبراز ما للإعلام من دور بارز في نجاح الحركات الاجتماعية. و إذا كان الإعلام التقليدي، و خاصة منه التليفزيون، يتعامل بانتقائية مع أنشطة هذه الحركات، فإن البديل أصبح هو صحافة المواطن التي تعتمد على تكنولوجيا الهواتف الذكية وعلى المواقع الإخبارية المحلية والشبكات الاجتماعية للتواصل. و قد فطن نشطاء حراك الريف إلى أهمية هذا النوع الجديد من الإعلام، وأصبح يحظى لديهم بمكانة متميزة. الأمر الذي جعل فئة منهم على تنكب على مواكبة أحداث الحراك منذ انطلاقته، مستعملين في ذلك خدمة «live» على “الفيسبوك” من أجل النقل المباشر لمختلف الأنشطة الاحتجاجية. كما انبرى بعضهم لمتابعة تطورات الحراك والتعليق حول مجرياته، ناهيك عن نشر و تعميم نداءات التعبئة و الحشد. ولكن تكلفة ذلك كانت باهظة، أداها نشطاء هذا الإعلام حرمانا من حرية التعبير و تغييبا خلف قضبان السجون.
وفيما يخص مسيرة 20 يوليوز 2017، فإن نشطاء الحراك تمكنوا من كسب رهان تحويل نشاطهم الاحتجاجي الى حدث إعلامي بارز استقطب الأنظار والأسماع والفكر وطنيا و دوليا ، خاصة و أن مسيرتهم قوبلت بالمنع والاستعمال المفرط للقوة. ولكن السحر يأبى إلا أن ينقلب على صاحبه، فيحدث ما لم يكن في حسبان السلطة، من تغطية إعلامية دولية منقطعة النظير. إنه تسويق إعلامي كبير لرسالة المسيرة تحت عنوان الكرامة أولا، والذي يعبر عنه ببلاغة شعار “الموت ولا المذلة”. هذا النصر الإعلامي البين أمام جبروت الحكومة المغربية، التي أسدت بالمنع و القمع خدمة للحراك، تمثلت في الارتقاء بشكلهم الاحتجاجي من مجرد حدث اجتماعي إلى حدث إعلامي بالغ الأهمية، تناقلته مختلف وسائل الإعلام الدولية بالإخبار و التعليق والتحليل.
كما أن عبقرية الحكومة تفتقت عن حيلة تمثلت في خفض أو قطع صبيب 3G و 4G عن مدينة الحسيمة، فضلا عن التشويش على المكالمات الهاتفية. وقد شجبت منظمة “مراسلون بلاحدود” لحرية الإعلام، تعرض الصحفيين ونشطاء مواقع التواصل الاجتماعي لمضايقات من طرف السلطات، أثناء تغطيتهم لاحتجاجات حراك الريف التي انطلقت فور مقتل بائع السمك محسن فكري في أكتوبر 2016، وخاصة المسيرة التي تم تنظيمها يوم الخميس 20 يوليوز 2017. وأفادت المنظمة العالمية، في بلاغ صحفي، أنها تابعت “انتهاكات حرية المعلومات” منذ اندلاع الاحتجاجات في منطقة الريف، مشيرة إلى أن السلطات قامت بقطع الإنترنت وإضعاف صبيبه والتشويش على خطوط الهاتف، الأمر الذي صعب مهمة التواصل مع المتواجدين بالحسيمة طيلة يوم الخميس 20 يوليوز 2017.
هكذا انفضح زيف مبادئ الحقوق و الحريات التي جاء بها دستور 2011، والتي تحولت إلى مجرد شعارات جوفاء مثل حرية التظاهر السلمي(الفصل 29)، وحرية الصحافة (الفصل 28)، و الحق في المعلومة (الفصل 27). و هذا ما حدا بمجموعة من المنظمات الحقوقية الوطنية والدولية إلى إصدار بيانات ، أجمعت كلها على إدانة الاستعمال المفرط للقوة ضد النشطاء والصحفيين من طرف القوات العمومية.
وفي فلتة من الفلتات التي قلما يجود بها الزمن المغربي، قامت الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري (HACA) بإرسال إنذار إلى الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة المغربية تخص القناة الأولى والقناة الأمازيغية، إضافة إلى قناة ميدي 1 تيفي. ويرجع سبب هذا الإنذار إلى نشر هذه القنوات لتغطية في نشرة إخبارية غير مهنية لحراك الحسيمة. وقد قررت الهيأة، بعد بث هذه القنوات لصور تعود لأحداث رياضية بالحسيمة، على أساس أنها تعود لحراك الريف، تحذير المسؤولين على القنوات المذكورة بسبب هذا الخطأ المهني.
وختاما، رب قائل: عندما تكون صاحب قضية عادلة، وعندما تكون مطالبك مشروعة، وعندما تسندك و تدعمك شرائح شعبية عريضة، أتى كثير منهم من كل فج عميق، فأذن بنصر مبين. فمسيرة 20 يوليوز 2017 كانت حقا مسيرة تاريخية، و كانت بمثابة تتويج لمسار امتد طيلة تسعة أشهر من التعبئة المستمرة و ما رافقها من تضحيات عظمى، بدأت تعطي بعض أكلها.