احتل التحليل السياسي حيزا مهما في النقاش على مواقع التواصل خلال الفترة الاخيرة، بعد الضجة التي أثارتها المداخلات التلفزيونية، التي سعت إلى شيطنة الحراك في الريف، بمزاعهم لا أساس لها من الناحية العلمية، حتى أن عدداً لا يستهان به من الجامعيين المغاربة، أصدروا وثيقة تبرؤوا فيها من زملائهم الذين أدلوا بهذه التصريحات. 

وبصرف النظر عن هذه الأصوات النشاز، فإن هذه الموجة غير المسبوقة من التفاعلات التي أعقبتها تنم عن ارتفاع حجم الوعي السياسي لدى المشاهدين والقراء المغاربة، وفي نفس الوقت تشكل رسالة إلى المعنيين بالأمر مفادها أن التحليل السياسي في بلادنا في حاجة الى نقد ذاتي، لتخليصه من الشوائب، والإسهام في استيعاب التطورات التي يعرفها المجتمع السياسي، والمجمتع عموما. 

التحليل السياسي ليس تحليلا علمياً بالمعنى الدقيق للكلمة، ولهذا فإن إمكانية الاختلاف حول نتائجه واردة جداً، ما لم يخرج عن ضوابطه المعروفة. إلا أن معضلته الكبرى في بلادنا تكمن في أن المراقبين ليسوا في منأى عن مؤثرات أخرى، غالبا ما تدفع بالاختلاف معهم إلى النفور أو الرفض المطلق، ولعل إحدى هذه المؤثرات ـ وليس كلها ـ هي أيادي السلطوية، الظاهرة والخفية، والحسابات السياسوية أو الحزبية.

استفراد السلطوية بصنع القرار، فوق كل أشكال المساءلة والمحاسبة، يجعل التحليل غالبا ما ينصب حول ما يفكر فيه العقل المدبر للسلطة، وكيف يفكر، ولماذا، وما هي حساباته الظرفية، وما مزاجه الخ.. ما يجعل “الشغف العام” يتجه نحو تسريبات الصحف المقربة من دوائر القرار، مع جرع الإحتراز الضرورية حول مغازيها طبعا، أكثر منها إلى المختصين الذين يمسكون بالمفاتيح لفك شفرات الفعل السياسي والسياسات العمومية…

أما هؤلاء المختصون، فقد انقسموا مع مرور الوقت إلى أغلبية صامتة تتابع عن بعد، وقلة قليلة تتحرى الموضوعية ما استطاعت، وأخرى موالية للسلطة، وصنف رابع، جادّ في طرحه، إلا أن جبروت السلطة السياسية والثقة المفقودة فيها، صنعت منه جيلا من المحللين ذوي “النظارات الملونة”، أو ما يسميه ماكس فيبر بالفرضيات القبلية Les présuppositions ، تحجب عنهم الرؤية، أو تقوضها، وتوسع بذلك هامش الخطأ الذي يصل أحيانا إلى حدود لا تطاق

الفرضيات القبلية شر لا بد منه في التعاطي مع الفعل السياسي في الانظمة السلطوية حول العالم، ذلك لانها، بالتعريف، تقع خارج اللعبة السياسية الديمقراطية، بل وتناهضها، وإذا دخلت إليها تعبث بأوراقها، وتلوي عنق قواعدها، وتصنع الفاعلين، وتتحكم في أفعالهم، على درجات متفاوتة طبعا، وهو ما يعبر عنه عادة بالتصنيفات المعروفة من الانظمة السلطوية التقليدية الى الديمقراطيات المزيفة او ديمقراطية الواجهة وغيرها. 

ولعل الاستثناء الذي تشكله الحالة المغربية، ان معظم الفرضيات القبلية انبنت على أساطير تم نسجها في دهاليز الإعلام ومختبرات التواصل السياسي الحزبي. ذلك أن ما يوصف بالثوابت في الأدبيات السياسية للإستبلشمنت، جعلت معظم الفرقاء السياسيين يتفادون مخاطبة الملكية بصفتها الجهاز التنفيذي الفعلي، ويركزون النقد على مسميات الدولة العميقة، وفي أحسن الأحوال يوجهون السهام نحو الصدر الأعظم، أو أحد أعوانه داخل الحقل السياسي، الذين نسجت عنهم أساطير كثيرة، وظفها غرماؤهم السياسيون، وخلقوا منهم خصوما أقوياء، يصارعونهم، ويحشدون بذلك الجماهير ويعبؤونها..

إلياس العمري واحد من هؤلاء الذين نسجت عنهم، او نسجوا عن أنفسهم، أساطير كثيرة من هذا النوع حتى صارت له “كرامة سياسية”، بحكم قربه من فؤاد الهمة  (من الطرائف  خبر قراته ذات مرة في صحيفة مقربة منه تقول انها تعلم من مصادر مطلعة ان الياس العماري ما يزال صديقا للملك). أساطير، تغذت أساساً من القطيعة التواصلية مع القصر، ونظرية المؤامرة، ومن فرط التكرار ـ كما كان يقول غوبلز ـ تحولت إلى حقيقة إعلامية يتم تداولها عبر السنين، وشكلت المنظار الذي ينظر من خلاله ثلة من أصحاب الفرضيات القبلية إلى الحقل السياسي، منها ينطلقون وإليها ينتهون.

ولأنه كذلك فإن إقالته/استقالته من رئاسة حزب صديق الملك لم تخل من هذا الجنس من التأويلات. فبينما عزت الكثير من القراءَات إقالته/استقالته إلى حراك الريف، ظهرت قراءَات آخرى ترجح استياء القصر من النتائج التي حققها حزبه في الانتخابات التشريعية الماضية. 

وإذا كانت القراءَات الأولى أقرب إلى الحس السليم بالنظر للسياق الذي جاءت فيه الإقالة، وأزمة الوساطة التي جعل منها العماري ما يسميه الفرنسيون La raison d’être ، فضلا عن كونه أصبح جزءًا من المشكل، بلغة الحراك، وجزءًا من الأزمة، بلغة القصر، فإن القراءة الثانية، التي تبنتها الصحف المقربة من البيجيدي، وتم تداولها بشكل واسع، تمثل نموذجا أقرب إلى الفرضيات القبلية المبنية على مزيج بين الحسابات السياسية الضيقة والاسطرة. كيف؟ 

من حيث الوقائع فإن البيجيدي حقق اكتساحا كبيرا سنة 2011 بـ 107 مقعد، فهل يستطيع القصر، بكل المقاييس المحلية والدولية، والسياق الاقليمي، والتحكم في الانتخابات، والمسيرات المصطنعة، وغيرها من أساليب السلطوية، أن ينتظر من “كرامة العماري”، التي أتت في المرتبة الرابعة بـ 47 مقعد، أن تقلب المعادلة لتتفوق عليه في ظرف خمس سنوات؟

هناك مآخذ كثيرة على حزب الخطيب بشأن كفاءة أطره، أو بعضها، في التدبير الحكومي، والخطاب المزدوج، وغيرها.. ولكنهم أثبتوا عن “نظافة اليد”، ولم يتورطوا في قضايا من شأنها أن تعبئ الناخبين ضدهم إلى درجة همهم كالفساد مثلا.. 

وبعد الحملات التي استهدفتهم طيلة ولايتهم الأولى، للحد من مدهم، مر العماري في الإنتخابات التشريعية الماضية إلى 102 مقعد بعد أن حصل حزبه في 2011 على 47 مقعد، وهو ما يعتبر نجاحا بمقياس السلطوية طبعا، وليس إخفاقا، سيما أن غريمه في البلاط، أي حزب التجمع، فقد 15 مقعدا، كما أن البيجيدي، رغم حصوله على 125 مقعدا ما يزال بعيدا عن فرض قوته في تشكيل الحكومة كما رأينا.

هذا إذا حصرنا الكلام عن الأسطرة في العماري. أما ما قيل عنه، فيقال أيضا عن الحموشي في الأمن، بالنظر للهوة الكبيرة بين الصورة التي يقدم بها اليوم في الإعلام، ومساره وحيثيات تعيينه أول مرة على رأس الإدارة العامة للأمن الوطني، وربما أيضا يقال عن أخنوش في المستقبل، وغيرهما.. 

إن الأسطرة معضلة التحليل السياسي الجادً في المغرب، وعماد فرضياته القبلية، عوض التعامل الموضوعي مع الوقائع. والحل لتفاديها هو التجرد من الحسابات السياسية الضيقة، لمحاولة استيعاب التطورات التي يعرفها المجتمع، بإيجابياتها وسلبياتها، وتسمية الأشياء بمسمياتها، ووضع كل الفرقاء أمام مسؤولياتهم السياسية والتاريخية، بما فيهم المؤسسة الملكية.