“السؤال المركزي: الإرث أم الشغل؟”

توماس بيكيتي: “الرأسمال في القرن “21

2013

حاول مجموعة من الفلاسفة والسوسيولوجيين تفسير تاريخ المجتمعات بأثر البنية الانتاجية على الحياة العامة، حيث تمفصل كل الأنشطة المجتمعية حول كيفية انتاج الخيرات واستهلاكها وتسويقها،سواء في المجتمعات الزراعية أم في المجتمعات الصناعية. وجل هؤلاء وإن لم ينفوا دور المعرفة في بلورة هذه البنية نفسها فإنه قلما شكلت مركز اهتمامهم، وذلك لسبب موضوعي هو تواضع الإنتاج المعرفي البشري عبر التاريخ، التواضع الذي مس انتاج الخيرات نفسها. غير أن الأمر بدأ يتزحزح منذ اكتشاف الطباعة وصناعة الورق في عصر النهضة، ثم الصناعات الورقية الهائلة مع الثورة الصناعية،ليخرج المكتوب من الكنائس والجوامع إلى الأسواق. وكانت بداية اتساع مجال المعرفة ونزولها إلى معترك الحياة اليومية لترفع من الحس المشترك والذكاء العملي نحو الاستفادة من التراكم والتقدم والمعيرة، وبدأت البشرية تخرج من عبودية حراس المعابد نحو تشغيل العقل؛ وإنشاء المؤسسات التعليمية؛ والمكتبات، والمستشفيات ليحصل تحسن هائل في حسن العيش وجودة الحياة . 

ومع ذلك فالانفجار المعرفي بالمعنى الدقيق لم يبدأ سوى مع اكتشاف الحاسوب ووسائل التواصل الرقمية، تلك التكنولوجيا الجديدة التي ستهب للمعرفة قوة وسلطة تضاهي الانتاج، وربما تفوقه لأنها توفر المعلومة حوله ومن ثمة القدرة على تدبيره. وما زال الوعي بخطورة المعرفة يتنامى عبر رصد مبالغ البحث العلمي من أجل اختراق آفاق جديدة للمنافسة والربح والسيادة.

تحدث ألفين توفلير في كتبه: صدمة المستقبل؛ والموجة الثالثة؛ والسلط الجديدة، والتي نستوحي منها مجمل أفكار هذا المقال، عن موجات ثلاث أساسية هي الزراعية؛ والصناعية، والمعرفية. شكل الفائض الزراعي مناسبة لخلق بعض الصناعات ونظامالفيودالية، وأنتج النظام الصناعي اقتصاد الرأسمال، وأفرز الطبقات والفئات الاجتماعية، والحاسوب. 

مع تصاعد قطاع الخدمات والانتشار الهائل للمعلومة دخلنا في الموجة الثالثة، الموجة المعرفية. وهي موجات لا يقطع اللاحق منها مع السابق وإنما يحتويه ويتجاوزه بشكل جد مركب ومعقد سواء على مستوى الأشياء أم على مستوى الكلمات، سواء على مستوى الأفعال أم على مستوى النفسية والتمثلات والقيم.

ما الذي يميز هذه الموجة الثالثة؟ 

لا نستوحي هنا خصائص توفلير الشهيرة: سرعة انتهاء الأشياء؛ وجدتها؛ وتنوعها،والمفضية إلى تضخم المعلومة والقلق، بقدر ما نقترح  خصائص أربعة فاعلة وأساسية تتمظهر من خلالها حياة مجتمع المعرفة وهي: السرعة؛ والجماهيرية؛ والتوق إلى المساواة والعدالة، ثم الحرية.

نحن هنا لم نستطع خلق مجتمع منظم يعتمد على المسؤولية الفردية والقانون الإرجاعي بدل الردعي، الأمر الذي يتجلى في قضايا اشكالية كبرى مثل حرية المعتقد؛ والمرأة؛ والجسد؛ وسيادة العقد الاجتماعي.والأمر هنا غير مرتبط بأنظمة الاقتصاد والانتاج والتسوق بقدر ما هو نتيجة موروث قيمي متحجر 

في مجتمعات الصيد والقنص وحتى الزراعية كان الانسان يتعامل مع الزمن بتراخي طبيعي شديد، وبتبعية شبه تامة خاضعة لدوران الأرض حول الشمس؛ وتبدل الفصول وريع الأرض. وخلق الأمر نفسية مساواتية تحت الإكراه الشديد لعناصر الطبيعة. غير أن فائض الإنتاج الزراعي غير من هذه النفسية نحو التفاوتات انطلاقا من بناء الملكية والدفاع عنها، أو الهجوم لتوسيعها، فكان التفاوت الموهم بالقدرية والبداهة اللذان تزكيهما الكنيسة. مع الصناعة تقلص وهم التفاوت الطبيعي لصالح الطبقي خالقا معه وعي الفعل بإنشاء النقابات والأحزاب السياسية، وإجبار مالكي وسائل الانتاج على بناء الدولة الرعاية. وساعدت سرعة وتيرة الانتاج على خلق سوق هائل هو الرأسمالية الانتاجية، والتي ستؤثر في كل مناحي الحياة وفق سرعة الاستهلاك وسرعة توفير السلع في الأسواق. فكانت بداية اللارجعةنحو آفاق لا يمكن التنبؤ بها، حيث إمكانية مضاعفة الانتاج أو البطالة أو الأزمة. ولما كانت سلطة السوق هي السائدة هيمنت قيم الربح والربح السريع وانتقلنا إلى الرأسمالية المالية وسيادة الأبناك. 

في هذا الوقت بالضبط ستظهر السرعة الرقمية لتشتغل على مستويين متناقضين تماما: ضبط المعلومة وجمعها وتحليلها لفائدة السوق من جهةbig data, data mining، واتساع دائرة التواصل وتجاوز احتكار الدولة والشركات لهذه المعلومة، بظهور مواقع التواصل الاجتماعي. الموجة الثالثة إذا موجة سرعة.

 الخاصية الثانية هي الجماهيرية بالمعنى الواسع الذي يستعصي التنظيم والتأطير والتعبئة كوظائف كانت تقوم بها الأحزاب والنقابات، وجمعيات المجتمع المدني في المجتمع الصناعي، والطوائف والحناطي في المجتمع الزراعي. مع التواصل الرقمي لم يعد ممكنا ضبط ومراقبة شبكات التواصل الكونية التي أصبحت تخترق العالم والهويات والقيم المحلية والأديان، شبكات تعري أوهام الانتماءات الضيقة واستعمال قيم وهمية في الترويض والاستغلال. صفة الجماهيرية هذه وإن كانت قد بدأت بالراديو والتليفزيون فإنها مع الهاتف المحمول والأنترنيت أصبحت أكثر تفاعلا وفورية وسيولة في نشر المعلومات والأفكار والصور والرموز.وذلك مثل آلة غسل عملاقة تعيد النظر في كل شيء وفي كل حين، هذه الظاهرة الفريدة من نوعها وسعت من مفهوم الحياة وأضافت إليها التواجد في أمكنة مختلفة في نفس الوقت، واختبار وفحص الآراء والمواقف والقرارات والرجال بالإخبار والإبراز والمقارنة.لم تعد الجماهيرية قدحا بل اصبحت محك نجاعة ونجاح الأشياء، وأصبح يقام لها ويقعد حتى في الحملات الانتخابية الكبرى. الأمر الذي يحيل إلى الخاصية الثالثة وهي الديمقراطية.

الديمقراطية  ليس عبر صناديق الاقتراع وبرامج الأحزاب، إنما عبر تتبع الناس كل الناس لما يحدث أمام مرآة عملاقة مسلطة على اليومي بشكل كشاف طال المشاريع والأفعال والأفكار، وحتى الحميمية والأسرار. هو نوع من العودة إلى “أغورا”وفضاء عمومي متشظي لانعرف أين يبدأ ولا أين ينتهي،وحتى وإن اخترق بالتعتيم وصناعة الرأي، فهو شبه منظم بيد خفية هي المبادئ والقيم والحقوق الانسانية الكبرى والتي لم يعد يحتكرها أحد.لتشكل هي والعقل والحس السليم القسمة العادلة بين الناس.

إن الامكانات المادية الفيزيائة والمعنوية التي تتيحها التكنولوجيا الجديدة، من القدرة على التخزين، والتتبع الفوري أحيانا للأفعال والوقائع الاجتماعية، إن هذه الإمكانات وفرت للأفراد القدرة على متابعة ورصد الشأن العام؛ وتقويمه؛ ومراقبته؛ وإدلاء الرأي تجاهه؛ واتخاذ مواقف وقرارات تكون حاسمة أحيانا، كما كان الأمر بالنسبة للدعوة للمسيرات في الربيع العربي، أوخلق معارضات وأحزاب جديدة في إيطاليا وإسبانيا انطلقت من مواقع التواصل الاجتماعي. هي ديموقراطية مباشرة مضاف إليها وموسعة تتعامل ليس بالوسائل التقليدية القديمة من صحف ورقية وتليفزيون، إنها بكلمة واحدة ديمقراطية الموبايل.  هي ديمقراطية التوق إلى العدالة والمساواة ولا أدل على ذلك الشعارات التي ترفع هنا وهناك منطرف المحتجين والتي تدور كلها حول صون الكرامة وإسقاط الفساد، لأن هذا الأخير كان ممكنا أن يسود في المجتمعات الفيودالية والصناعية بالتعتيم واحتكار المعلومة وقطع وسائل التواصل، الأمر الذي أصبح مستحيلا في مجتمع المعرفة والتواصل الجماهيري.

الخاصية الأخيرة وأم الخصائص هي الحرية. لقد عملت التكنولوجيا الرقمية على تحرير الإنسان؛ ليس من السيد والبورجوازي فحسب؛ بل ومن الدولة؛ والحدود الوهمية للقيم والعقائد؛والمعيرة المعرفية المحنطة، ومن وساطات الأحزاب والنقابات والجمعيات. وجل المحتجين اليوم يرفضون الوساطة لأنها أصبحت متجاوزة. الحرية هي الأصل، والتكنولوجيا الجديدة تتيح إبداع الأفعال بشكل فوري وسريع ومستدام وقابل للتغيير في أي لحظة.

خلاصة القول أن البشرية تعيش اليوم براديجما جديدا نحو الانعتاق والحرية والعدالة والكرامة، ولكن المقاومات لا بد أن تكون قوية، مقاومات الموجات الماضية، الزراعية المحافظة والصناعية المرتبطة بمنطق الربح والتفاوت، ثم مقاومة العادة وترسخ القيم التقليدية نفسيا.

في أي مستوى من الموجات نحن؟

نحن في جنوب المتوسط وشرقه لم نعرف غير موجة الانتجاع، والزراعة العائلية في الأودية والواحات، انتجاع ترعاه القبيلة فرسانا وعرفا وقيما مرتبطة بالضمير الجمعي والتشابه وغياب الفرد، خاصة ما ارتبط منها بالعار والعرض، تنظمها أعراف أوليغارشية وإن أبدت بعض المساواتية. ثنائية الرحل المغيرين والفلاحين المحميين وفق قيم العبد والسيد، ستستمر بشكل يعيد نفسه أدهش الرحالة والمراقبين. إلى أن حل المستعمر الذي حاول بث بعض القيم التحديثية والتمدين والتصنيع  دون جدوى، وذلك لأسباب داخلية وخارجية يعتبر الاستعمار إحداها المركزية. ودخلنا التحديث بشكل أعرج يبغي المخترعات والوسائل المادية المسهلة للحياة، دون قيم التنوير؛ وإصلاح الدين؛ والتوجه نحو المستقبل، وقوة الفردانية.هذه الازدواجية صنعت نفسية تبريرية لا يمكن أن ترى الحقيقة الموضوعية، نفسية صنعت زعامات وهمية وبطولات وأنصاف أنبياء ودجالين يقودون أمة مريضة نحو الأزمات المتكررة. بكلمة واحدة بقيت مجتمعاتنا تقليدية وجمعاتية، فالحديث عن مدن تؤم نصف الساكنة محض هراء، فهي لا تحمل من المدن سوى الاسم، وحتى الحس المشترك والضعيف من العقول يعرف أنها ليست قرى حتى. وتعريف التمدين لا علاقة له هنا لا بالديمغرافيا وحجم السكان ولا بتقسيم  للعمل يبدو معقدا وينحو إلى التخصص، لكن في السطح فقط فأي تحري سوسيولوجي للمهن يوضح عدم ملاءمة التعريف بالمهمة والوظيفة إضافة إلى غياب التكامل وقيم التعاون والتي هي السمات الأساسية الضرورية للمجمعات الحديثة.

 نحن هنا لم نستطع خلق مجتمع منظم يعتمد على المسؤولية الفردية والقانون الإرجاعي بدل الردعي، الأمر الذي يتجلى في قضايا اشكالية كبرى مثل حرية المعتقد؛ والمرأة؛ والجسد؛ وسيادة العقد الاجتماعي.والأمر هنا غير مرتبط بأنظمة الاقتصاد والانتاج والتسوق بقدر ما هو نتيجة موروث قيمي متحجر لا يمكن تجاوزه بغير الدخول في الحداثة واعتناق مبادئ الحرية وحقوق الإنسان، والمعافاة من أمراض الأنا الدنيئة فردية كانت أم جماعية. 

ثم حلت الموجة الثالثة والتي مست الفئة الشابة المؤهلة لتقبل الجديد التكنولوجي، وغير المستفيدة من ريع الفساد، لتهب صانعة ربيعا خنق في المهد.إن المرحلة تتجاوز المطالب الاقتصادية والاجتماعيةحتى وإن رفعت كشعارات في المسيرات الاحتجاجية. 

اللحظة بكلمة واحدة لحظة انتقال سياسي، قد تطول لكنها ضرورة التاريخ والموجات، لحظة الانتقال من مجتمع الورثة إلى مجتمع الشغل، إذا استعرنا مفاهيم الاقتصادي اللامع توماس بيكيتي. مجتمع الشغل الضامن للإبداع وتجاوز التصنيفات النمطية اجتماعيا ومعرفيا.