مما أكرهه في الاعلام، وهو من صميم طبيعته وليست خديعة عن سبق إسرار، قدرته الخارقة على صناعة أغوال وجبال من الوهم داخل أذهاننا. ومن مظاهر هذه التمثلات الزائفة مثلا أنني ـ على غرار الكثيرين ـ حتى فترة المدرسة والجامعة كنت أعتبر ان المفكرين المشهورين ليسوا مثل بني البشر، وأن كلامهم ومعيشهم مختلف عنا حتى في أبسط تفاصيله اليومية، شأنهم في ذلك شأن الوزراء والحكام والنجوم.. لهذا تسمع دائما أحدهم يقول: التقيت المغني الفلاني صدفة، وكان عاديا جدا، والله ! وهذا هو الاحساس الذي يراود حتى الاعلاميين أنفسهم خلال بداياتهم، حيث يقضون وقتاً معتبراً بين الشغف والإنبهار والتأمل قبل أن يتأكدوا أن الضيف أو الضيفة بشر يستنشق الهواء ويعطس ويمشي في الأسواق، ومع مرور الوقت يدمرون الصنم الذي بداخلهم، ذلك الصنم الذي يدفع المرء أحيانا إلى الإستسلام لبطشه مع أن العكس هو الصحيح، بقدر ما كان الجاني ضخما ـ إعلاميا ـ بقدر ما تيسر ثنيه.

على سبيل المثال، قبل سنتين، نشرت «الديلي ميل» صوراً لامرأة قالت إنها ارهابية باريس التي فجرت نفسها اثناء اقتحام شقة أباعوض، وفي اليوم الموالي ظهرت امرأة من بني ملال، في فيديو، تقول إن الصور صورها وأنها سرقت منها وبيعت للديلي ميل.. كانت المرأة تشعر بغبن شديد من شدة الظلم حتى أن الشرطة بدأت تستنطقها ما حذا برب العمل الى طردها.. وكان كل ما تطالب به هو أن ينشر على الصحف بأن الصور ليست صورها.

عندما شاهدت الفيديو على موقع «لكم»، اتصلت بالصديق علي انوزلا وسألته إن كانت لديه معطيات أخرى، لأن المراة تبدو صادقة ومكلومة إلى حد لا يطاق، فأكد كل المعطيات وقال ان مراسل الجريدة في بني ملال سيجري معها مقابلة في اليوم الموالي.

اتصلت برئيس تحرير «الديلي ميل»، «دانييل ساندرسن»، بصفتي مستشاراً للصحيفة في الشأن المغاربي، ولفتت انتباهه الى الخطأ وبعثت له الفيديو، فحذف الصور من موقع الجريدة، وأبلغي إن مدير التواصل، “شون” سيتصل بي لكي. وبعدها بقليل اتصل بي «شون» من واشنطن وكان متأثراً للغاية، فطلب مني إن كنت أعرف المرأة وأي حل أقترح. أجبته أنني لا أعرفها ولكنني أستطيع الوصول اليها الليلة، أما عن الحل فالمطلوب بعد الحذف هو الاعتذار، وإذا استطعتم الذهاب إلى المغرب لمقابلتها سيكون أفضل. بعث لي تصريحا على أساس أن ننشره في «لكم» يقول فيه «اننا حصلنا على الصور من مصادر مختلفة وأننا حذفناها وفتحنا تحقيقاً في الموضوع، ونطالب بلقاء السيدة المعنية في أقرب وقت».

طبعا، لم ينشر التصريح في «لكم» لأن الزملاء أمدوني مشكورين برقم هاتف السيدة واتصلت بها، وطمأنتها أنني سأساعدها لرد الاعتبار، وأن «الديلي ميل» سيتصل بها في الساعة الموالية للاعتذار. وكذلك كان، وكانت تلك أول وآخر اتصال بيني وبينها. وبعدها، حوالي الثانية عشرة ليلا، اتصل بي «ساندرسن» وقال إنه فكر ملياً في مسألة السفر إلى بني ملال فاقتنع بها، وأبلغني أن الصحفي الإستقصائي «نيك فيدج» سيصل غداً على الساعة الخامسة صباحا إلى مطار مراكش. وفعلا ذهب واجرى لقاءًا معها، وعلمت فيما بعد أنها طلبت تعويضا مادياً، وهذا من حقها طبعاً، وحصلت على قدر مهم من المال وبقية القصة جاءت في التحقيق المشترك بين «لكم» و«الديلي ميل» الذي نشر وقتها. 

مناسبة هذا الكلام، أن «الديلي ميل» التي كانت تبدو للمرأة المكلومة مثل غول، اضطرت للسفر إلى بني ملال في عز الليل، لسبب واحد وهو أنها ظلمت، بالخطأ فعلا ولكنها ظلمت، وخافت على سمعتها. وعندما تراجعت، ردت الاعتبار ــ من الناحية الرمزية أقصد ــ للسيدة المظلومة، من أعلى منصتها العالمية. 

وكذلك الآن رويترز، لو تأكد فعلا أنها تعمدت وصف النساء العاملات المغربيات بالحيوانات، فيتعين على جميع المعنيين، سيما الذين ضغطوا على «أخبار اليوم» لنفس السبب، ألا يصمتوا تجاه «الغول» رويترز فما ضاع حق وراءه مطالب. 

والواقع أن هذا الوصف بالإنجليزية  Muleمثلما قال بعض النشطاء، مشكورين، يحتمل معان مجازية أخرى على غرار «المهرب»، والراجح أن الوكالة استعملت هذا الوصف، وهو ما أكدته لي اليوم زميلة في «رويترز».

قد يكون، ولكن الأهم هي هذه اليقظة التي عبر عنها المغاربة على المواقع الاجتماعية تفاعلاً مع هذا المستجد، في هذه الفترة العصيبة التي يمر منها تماسكنا الاجتماعي، بمن فيهم أشد المعارضين شراسة لسياسات النظام التي تتحمل نصيبا مهما في ما وصلنا إليه. إنها مؤشر إيجابي جداً على أن حب الوطن يسمو فوق الخلافات السياسية وأن كرامة المغاربة والمغربيات خط أحمر