تعتبر مجافاة العقلانية وقيم الحداثة من حرية وحق في الاختلاف وتعايشي وتسامح، من أعمق مظاهر إفلاس مُؤسسات التنشئة والتربية وتأطير المواطنين في فضاءات التعليم والأسرة والمدرسة والحزب والإدارة في كل العالم العربي وليس بلادنا العزيزة فقط … ترتبط هذه المجافاة للعقل بمسألة تواجد مواطنين طيبين ودودين في الغالب، منهم مربين وأساتذة ومُؤطرين ومقررين وقضاة و محامين وأطباء، بل ومشاهير في الصحافة والفن والسياسة والرياضة، بل وحتى في الرقص والغناء والسينما والفلسفة ذاتها، يُعِيدون إنتاج أكثر الأفكار وأنماط السلوك إنغلاقا دون العقل..

  تنغلق هذه الأفكار وهذه السلوكات أيضا دون كل القيم النبيلة التي لا تقدُّمَ ولا تحْدِيث ولا جماليَّة في الحياة اليومية من دونها. ذلك ما يعني، من جهة أخرى، غياب الطمأنينةٍ والسِلمٍ والهناء والاستمتاع بالعيش المشترك في الفضاءات العمومية بمدننا و  في قرانا. 

غياب يجعل العلاقات بين الذات والآخر، في حوارهما وفي تشاركهما في بناء العيش  المدني والمُتمدِّنِ، بل وتطوير إراثته للأجيال القادمة علاقات تتصف بغياب المتعة بل وسيدة الحذر وسوء الفهم والعدوانية بل والخوف.. بالتالي. هل يمكن تصور شعب مبدع ومجتهد في البناء وفي التحديث والتَّحضُّرِ والخوف يسيطر على نفسية وسلوكات مواطنيه؟ أليس للأم علاقة بغيابنا منذ مدة عن سجلِّ التاريخ العالمي الرفيع في كل ميادين الإبداع والإجتهاد والتجديد والتحديث والتمدين وبناء السعادة والحرية وطيب العيش باستثناء الفلتات الفردية التي تعد استثناء لا يقاس عليه؟ مناسبة هذا الكلام « قشة » قصمت ظهر البعير عندما خاطب شهير محسوب على الصحافة المهنية العالمية لقناة الجزيرة الشهيرة، خاطب عشرات آلاف محبيه عبر تدوينة في صفحته على الشبكة الاجتماعية الفيسبوك فماذا كتب النجم القدوة؟ كتب « النموذج » مؤَوِّلا إعصارات الأطلسي، وبالضبط إعصار « إيرما » الذي ضرب ولاية فلوريدا بالولايات المتحدة الأمريكية بلعنة الله على الكافرين. ألم يكن حرِيًّا بالصحافي النجم الذي جاب العالم وحاور السياسيين والعلماء وكبار المناضلين من كل الألوان وركب أحدث التكنولوجيات، ألم يكن حريًّا به أن يقول لأتباعه (أيكون قاصرا عقلانيا حد عدم إدراك البديهيات؟) بأن الإعصار لا يساوي ذرة من الخسائر الفادحة في الإنسان قبل الحيطان، التي تسببها “إيرامات-سياسات” الظلم والتفقير والتجهيل والتحقير وهضم الحقوق وتبليد الحس والعقل؟

 ألم يكن من واجبه مقارنة هذه « اللعنة » بتلويث البلاد والعباد التي تعم بلدان المقهورين عبر العالم؟ أم أن الاغتناء الذي يجنيه هو وأمثاله من تكريس الميتافيزيقيات والغيبيات التي تركبها قوى التجهيل وإعاقة أي تحديث منذ القرون الوسطى، لتنحفر أكثر في عقول أجيال لا حداثة فيها سوى المظاهر والتزيينات والسلوكات الاستعراضية، هذا الاغتناء يمنعه من التنوير الذي يبدو بعيد المنال عن فكره. كل الشعوب قادرة على تجاوز المحن عندما تركب العلم والعقل والإرادة في البناء الحضاري ومواجهة الطبيعة والخوف بالعقل والعقلانية والانضباط والعمل الدؤوب، أما الغيبيون الخائفون فكريا أمام المسؤولية في النظر إلى الحقيقة وجها لوجه فسيبقون في جهلهم الذي يصبح إجراميا عندما يسوقونه بنجومية من المفروض أنها في خدمة الأمة لأنها مسؤولية وتكليف قبل أن تكون حرية رعناء مطلقة بتنكرها للآخر.