المالية العامة تكمن في صلب دور الدولة في ظل اقتصاد السوق، فهي تحدد كيف والى أي مدى تجمع الإيرادات من السكان ، ومن ثم فهي تشجع أو تثبط بعض الأنشطة، كما أن توزيع عبء الضرائب، وتنظيم العلاقة بين المستويات الحكومية. و حجم الإنفاق العام يحدد البيئة المادية والاجتماعية لمشاركة الناس في الاقتصاد والمجتمع.

 فخلال فترة الإصلاح حققت الصين تطورا معقدا، ومتشابك حصلت بموجبه مجموعة مترابطة من التغيرات: الانتقال من التخطيط المركزي إلى اقتصاد السوق، من مجتمع ريفي إلى مجتمع الحضري، من الزراعة إلى الصناعة التحويلية والخدمات، من أنشطه اقتصادية غير رسمية إلى  رسمية، من مجموعة اقتصاديات مجزأة إلى حد الاكتفاء الذاتي في المقاطعات، إلى اقتصاد أكثر تكاملا، ومن اقتصاد منكفئ على ذاته  ومنغلق عن باقي  العالم إلى قوة تجارية دولية.

وخلال فترة الإصلاح كان هناك تطور في العلاقة بين مختلف مستويات الحكومة، (الحكومة المركزية وحكومات المقاطعات، و الحكومات المحلية). كما حصل تغير في الأهداف السياسية والاجتماعية، فسرعة التغييرات و نطاقها الواسع، جعل الإصلاح والتحول الاقتصادي والاجتماعي، في الصين خلال الربع الأخير من القرن الماضي من بين أكثر التحولات الاستثنائية في العالم – وقد انعكست هذه التحولات على المالية العمومية للبلاد.

 ويمكن تحليل هذه الانعكاسات  من خلال العلاقة المتغيرة  بين إجمالي الإيرادات وإجمالي  الناتج المحلي الإجمالي، و العلاقة بين الميزانية العامة والموارد المالية من خارج الميزانية، والتغير في نمط مالية المقاطعات،و تم تغير مسؤوليات الإنفاق و تراجع الإنفاق العام مقابل توسع الإنفاق الخاص.. 

1-انخفاض الإيرادات وارتفاع الإنفاق الحكومي بالنسبة إلى الدخل القومي

منذ أن بدأت الإصلاحات في عام 1978، فإن العلاقة بين الدخل والإيرادات في الميزانية الوطنية شهدت تغيرات جذرية، تراوحت بين الانخفاض والارتفاع فخلال 17 عاما الأولى، نسبة الإيرادات من الميزانية انتقلت من  31،2 % في 1978  إلى 10،7 % في عام 1995. لترتفع هذه النسبة مجددا إلى حوالي 19،3% في عام 2015.

ونتيجة للنجاح الاقتصادي الذي شهدته البلاد، تم التوسع في الإنفاق العمومي، وذلك بغرض  التصدي للآثار الانكماشية الناجمة عن الأزمة المالية الآسيوية للعام 1997 و الأزمة المالية لما بعد 2008. والملاحظ، أن العجز في الميزانيات الحكومية سمة متكررة في المالية العامة منذ 1979. لكن على الرغم من الانخفاض الكبير في نسبة الإيرادات في الميزانية، فان معدل العجز في الميزانية ظل متواضعا، ففي 13 من أصل 17 سنة بين عامي 1978 و 1995، تراوح معدل العجز بين 1 % إلى  3 % منGDP ، وهو معدل عجز متواضع  قياسا بمعدل النمو الاقتصادي المرتفع. 

2-الإيرادات والإنفاق من  خارج الميزانية 

من السمات المميزة للمالية العامة خلال فترة الإصلاح، هو توسع مصادر التمويل من خارج الميزانية  Off-Budget Activities. وذلك كانعكاس للإجهاد المالي الناشئ عن مزيج من العوامل منها: هبوط نسبة إيرادات الميزانية إلى GDP وارتفاع الطلب على الإنفاق. وتبني اللامركزية المالية، فخلال هذه الفترة تم إعطاء الحكومات دون الوطنية السلطة التقديرية لفرض مزيد من الرسوم.

بالإضافة إلى ذلك، فإن اقتصاد السوق قد خلق فرصا كبيرة للأنشطة المربحة، وهو ما قاد باتجاه فرض رسوم على العديد من الخدمات العامة، مثل رسوم المرافق العامة؛ الرسوم مقابل الخدمات؛ رسوم إضافية على الضرائب؛ رسوم محددة، مثل التعليم والدخل من التجارة والأعمال التجارية. 

وبحلول أوائل التسعينات، الرسوم أو (الإيرادات من خارج الميزانية) أصبحت عادية ومصدر دخل كبير للحكومة على جميع المستويات، ولا سيما في الطبقات السفلى. فبالنسبة لكثير من الحكومات المحلية الريفية، هذه المصادر تمول أزيد من نصف النفقات، بما في ذلك الإنفاق على الخدمات الأساسية كالصحة والتعليم وأجور البيروقراطية المحلية. 

3-العلاقات المالية بين الحكومية 

العلاقات المالية بين الحكومية في الصين معقدة بفعل ضخامة حجم وتنوع البلاد،  ووجود العديد من الحكومات دون الوطنية. فخلال الفترة 1978-93، نصيب الحكومة المركزية من إجمالي الإيرادات كان اقل من حصتها من إجمالي النفقات. غير أن هذه الفجوة تقلصت مع مرور الوقت، خاصة مع تبني الإصلاح الضريبي للعام 1985. فبموجب هذا الإصلاح، أصبحت الحكومات دون الوطنية تقوم بتحصيل 86 ٪ من الضرائب، بينما الحكومة المركزية مسئولة عن 47 %من النفقات، غير أن إصلاح 1985 رفع من حصة الموارد المالية المنقولة من الحكومات دون الوطنية إلى الحكومة المركزية.

هذا النمط من تدبير التمويل غالبا ما يكون مقترح من جانب المؤسسات المالية الدولية، التي توصي بأن حصة العائدات من أعلى مستويات الحكومة ينبغي أن تتجاوز حصة النفقات . لأن الحكومات المركزية تتوفر على موارد بشرية ومالية، تمكنها من تحصيل بعض أشكال الضرائب المستعصية على الحكومات دون الوطنية- مثل الضريبة على “القيمة المضافة” و”ضريبة الدخل”  بتكاليف إدارية  اقل.

والملاحظ، أنه بموجب إصلاح 1994 والإصلاحات  اللاحقة، تم إسناد جزء كبير من مسؤولية  تقديم الخدمات الاجتماعية كالأمن ، والتعليم الأساسي والرعاية الصحية والسلامة العامة، إلى مستويات الحكومات دون الوطنية. لكن عمليات نقل الموارد المالية من الحكومة المركزية إلى الحكومات المحلية لتمويل هذه الخدمات ظلت جد محدودة.

 كما أن العلاقات المالية بين مستويات الحكومة أصبحت تتسم بالتسلسل الهرمي، لكل مستوى نطاقه. فعندما تواجه المالية العمومية  في المستويات الحكومية العليا قيودا، فإن هذا المستوى يحاول نقل مسؤولية الإنفاق إلى المستوى الحكومي الأدنى منه،   مع حرصه على الإبقاء على أكبر قدر ممكن من الإيرادات. 

ووفقا لدراسة استقصائية أجريت في عام 2004، حوالي 78 % من كلفة تمويل التعليم الأساسي في المناطق الريفية تتحملها حكومة البلدات أي الصف الأدنى. بينما ال 22 ٪ الباقية تدفعها المستويات الحكومية الأعلى، وتوزع على هذا النحو: 9 % تدفعها حكومة المقاطعات و 11 % حسب المقاطعات، و 2% الحكومة المركزية. و يتم تمويل هذا الإنفاق من قبل الحكومات المحلية للبلدات، من خلال رفع الضرائب المحلية  والمكوس من مختلف الأنواع ، إلى جانب الأرباح المتأتية من المشاريع المحلية. وهو  ما أدى إلى خلق نظام قوي لتمويل الحكومات المحلية من خلال الإيرادات من خارج الميزانية.

4-تقلص الإنفاق العام وتوسع الإنفاق الخاص 

السمة الرابعة المميزة للمالية العمومية بعد 1978، تغير نمط الإنفاق الحكومي ، فالتحول الهيكلي في الاقتصاد والمجتمع الصيني خلال فترة الإصلاح، ولا سيما الانتقال من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق. قاد  باتجاه إعادة توزيع الدخل ومسؤوليات الإنفاق من جانب الدولة، والمؤسسات التجارية ، والأسر المعيشية. 

ولعل دراستنا لسمات المالية العمومية للدولة الصينية بعد 1978، يقودنا باتجاه خلاصة أساسية، مفادها أن نجاح الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية، وتحقيق معدلات نمو جيدة ليس بالعملية العبثية، بل هو نتاج لإصلاحات بنيوية تمس قطاعات متعددة، ومن ضمنها مالية الدولة، وتغير بنية الإنفاق و الإيرادات تبعا للتحولات الاقتصادية و الاجتماعية.. فمرونة المالية العمومية من أهم العوامل المتحكمة في فعالية الأداء الحكومي، و لعل هذه الخاصية هي التي تفتقدها أغلب البلدان العربية، التي انتهجت سياسات إصلاحية ضيقة الأفق و محدودة الفعالية، لان الحد من عجز الميزانية لا يتم فقط عبر تخفيض الإنفاق العمومي، و تسليع الخدمات العمومية، وإنما يتم عبر العديد من المداخل و هو ما عالجناه في مقدمة هذا المقال..و الله غالب على أمره.