
محنة أب اختار ابنه طريق النضال

حينما أرى والد ناصر الزفزافي ومن معه من أمهات وآباء معتقلي حراك الريف، وأرى والد الصحفي حميد المهدوي، وهم يرابطون جنب بوابات السجون، وأيديهم على قلوبهم خوفا أن تحل كارثة بأبنائهم المضربين عن الطعام، أتذكر سنوات الجمر والرصاص التي سودت صفحة تاريخ البلاد، وكيف كان آباء وأمهات المعتقلين السياسيين، يتلظون في جحيم المحن التي فرضتها عليهم مسؤولية التضامن مع أبنائهم في السجون، المحن التي كابدوها نصرة لأبنائهم، الذين اختاروا طريق التضحية والنضال، فتحمل هؤلاء الآباء تبعات خيارات الأبناء، دون أن يكون لهم بها علم، أو تكون لهم عليها موافقة.
آراء أخرى
من هذا الواقع الأليم، نسرد واحدة من الحكايا التي يعج بها ذلك الزمن الكئيب، حكاية والد تجرع مرارات اختيار ولده.
بعد إستقلال البلاد، إختار صاحبنا حياة الوداعة والبساطة والهدوء، أسرة صغيرة بأبناء وبنات، وقوتا متواضعا هانئا يكسبه من تعليمه الصبيان في كتابه القرآني، في حي شعبي هو حي البرنوصي بالدارالبيضاء، نائيا بنفسه عن الأجواء الموتورة التي عرفها المغرب فجر الإستقلال، يكفيه أنه نال حظه من الاعتقال والتعذيب على يد جلاوزة الاستعمار الفرنسي بمعتقل درب مولاي الشريف، أيام كان مسلخا ومجزرة للوطنيين والفدائيين، فقط لأنه حول كتابه القرآني بحي الكاريان سنطرال إلى مخزن سري لخراطيش الرصاص، ومعبرا لاستراحة الفدائيين المارين من وإلى مسرح عملياتهم، فلم تكن عساكر الاستعمار تشك بالمسيد أو تشتبه في الفقيه.
لكن هذا الماضي ولاه صاحبنا ظهريا وتفرغ لخبز أطفاله وتربيتهم، ماعدا أنه كان يزجي بعض الفراغ مساءا بالمسجد، مع أصدقاءه من قراء القرآن، أو بمقر حزب الاستقلال، يتندر مع رفاقه من قدامى الوطنيين، ببعض طرائف وذكريات أيام العمل الوطني والمقاومة، وحرصا علي تهذيب أطفاله كان يصطحب معه إلى المسجد وإلى مقر الحزب إبنه عبدالله، وكانت غايته من ذلك، توفير التشرب من التربية الدينية والتربية الوطنية. بل إنه أصر على تحفيظه القرآن كاملا، لما توسم فيه من مخايل النجابة والذكاء، وأصر على أن يكون متفوقا في تعليمه، فكان الإبن هو الأول في رتبته على الدوام في كل الفصول الدراسية، من البداية حتى النهاية، إلى أن حصل على شهادة الباكلوريا بامتياز سنة 1978. كان الأب قرير العين بابنه الذي رضخ لطلبه بحفظه للقرآن الكريم، رغم بعض التمردات العارضة، وكان سعيد الحال وهو يراه متميزا ومتقدما على أقرانه في دراسته، وكان لا يقلقه أن يرى الصبي يلتهم كل الكتب التي يعود بها من مقر الحزب حول الحركة الوطنية، من مؤلفات علال الفاسي، أوخطابات عبد الخالق الطريس، أو أن يزدرد جريدة العلم، التي كانت الزائرة اليومية لكل إستقلاليي ذلك الزمن، كما كان لايقلقه أن يتسمع ابنه إلى الحديث عن أخبار أيام العمل الفدائي وعن بطولات الشهيد الزرقطوني وعن عملياث المقاومة ضد الخونة وضد طغاة الاستعمار الفرنسي، خلال اللقاءات التي كانت تجمعه مع رفاق الأمس ورفاق الحزب.
إلا أن الوالد المسكين لم يكن يفطن إلى أن تربية المسجد، وحفظ القرأن الكريم، وثقافة الحركة الوطنية ومخالطة الكبار في الإجتماعات، وثقافة اليسار التي كان يدسها المدرسون اليساريون في وعي التلاميذ، لم يكن يفطن إلى أن كل ذلك تحول إلي كيمياء تعتمل باطنيا في نفسية الصبي، مشكلة لديه بوصلة داخلية جذبته نحو الانتظام في صفوف الحركة الإسلامية، في بواكير عهدها بداية سنوات السبعينيات من القرن الماضي.
كان هذا الانتظام خفيا، إستجابة لشرط السرية في العمل الإسلامي آنذاك، فلم يكن ليثير حفيظة الوالد الذي كانت عينه على ولده الواعد، مثلما هي عين الزارع على غراس حديقته، حريص على أن ينجح ابنه برتبة عالية في قطاف شهادة الباكلوريا، حتى إنه نقله يوم اجتياز الامتحان بعد صلاة الفجر مباشرة ليكونا وحدهما أمام بوابة مركز الامتحان مع الخامسة صباحا، قبل أن يتوافد المتوافدون مع السابعة صباحا.
وعندما ولج الإبن كلية الطب بنقط عالية سنة 1978، كان الأب يعيش سادرا في بحبوحة أحلامه الوردية اللذيذة، فيتحسس أن قد تبسم الزمن أخيرا، ليرتقي به الابن الطبيب الواعد إلى مراقي الرفاه الاجتماعي، وهو الذي تضور من الفقر والحرمان طويلا، في البادية حيث نشأ وأكل هو و ذووه من خشاش الأرض سنوات المجاعة، التي تسبب فيها المستعمر الفرنسي، وفي المدينة التي حين نزح إليها مشيا، ولجها وهو حافي القدمين،في مغرب الاستعمار، كما في مغرب الاستقلال ، الذي عضه فيه الفقر، لأنه عض على كرامته، غير بياع لنضاله ولابياع لحياءه.
لكن الأحلام الوردية سرعان ما أصبحت سرابا، فقد إستفاق الوالد على صاعقة أن إبنه غدا واحدا من مسؤولي منظمة سرية هي حركة الشبيبة الإسلامية، وأن هناك من قادتها من هو في السجن، ومن هو هارب خارج البلاد، كانت طامة من الطوام الكبرى بالنسبة إليه، فهو يعلم المصير المنتظر، وهو يعلم من خلال ماعاشه من تتبع سنوات الخمسينيات والستينيات، ماوقع للإخوان المسلمين في الشرق من كوارث في السجون الرهيبة، وهو يعلم مايقع في المغرب من إختطافات وإختفاءات في أوساط المعارضين .
أرغى وأزبد، وصفع وضرب، وتوعد وتهدد، وطارد ولاحق، وحاصر وضايق، ولكن دون جدوى، فقد تصلب الخيار في إرادة الفتى، وغرق في بحر اللقاءات والاجتماعات، وأصبحت الساعات المتأخرة من الليل هي ساعات العودة إلى البيت.
حاول الأب إثناء إبنه عن هذ الطريق، ترغيبا وترهيبا، أجلسه مع المرحوم عبدالكريم غلاب، النائب البرلماني عن البرنوصي آنئذ، ومع المرحوم بنشقرون المفتش العام لحزب الاستقلال آنذاك، وكانت هاته الشخصيات القيادية تحتفي بالفتى، وتحضه على العمل الطلابي الحزبي، وتفتح أمامه الآفاق، وكان الوالد يحضه على الإمساك بالعرض، ويغريه بأن حزب الاستقلال، يضمن له توجهه الإسلامي، ويضمن له معه المستقبل الزاهر والآمن، ويخوفه من الاختيار الآخر وأنه طريق نحو المهلكة، ولكن هيهات هيهات ، فقد كانت معالم في الطريق لسيد قطب أعمق جذرا في هوى الفتى من النقد الذاتي لعلال الفاسي.
وهنت قبضة الوالد، ووهت صرامته، وتبخرت آماله، وهو يرى أمواج المخاطر قد اختطفت منه الولد ومضت به بعيدا، فقد ضاع الولد، ولم يعد يطمع لا في استقراره الدراسي، ولا في مايأتي منه، فقط كان يرجو أن يسلم المصير، ولكن لم يدم الاحتراس طويلا، ففي مساء يوم عاشر ديسمبر 1979، طرقت بابه الأنباء الكريهة، أن ابنه اعتقل، وأنه بين يدي البوليس السياسي، هو وٱخرين من أفراد الشبيبة الإسلامية ومن بعض قيادييها القادمين من الخارج، صعق وبكى بكاءا مرا، وحمل نفسه وضعفه وقلة حيلته وهوان شأنه وراح يسأل بعض معارفه في مخافر الشرطة، وأنى للشرطة أن تضع أنفها في ما يتعلق بالسياسة والسياسيين، رابط بجانب مخفر لمعاريف الرهيب، عله يظفر برائحة خبر، ولكن لمعاريف عالم مغلق.
كان ذلك الاعتقال هو الأول في تاريخ الشبيبة الإسلامية، والثاني بعد إعتقالات سنة 1975، على إثر جريمة اغتيال الزعيم اليساري عمربن جلون.
بعد الإفراج عنه، عاد الإبن إلى ما هو أوسع من سابق نشاطه، ولم يفت هذا الاعتقال في عضده، في الوقت الذي كان يتفتت كبد الوالد ألما وحسرة، كان يحذره من أن القادم سيكون أسوأ، ويحذره من البقاء مقيما معه في البيت مخافة أن يجلب المشاكل ويجني على العائلة. ولم يعد الإبن يرى أسرته أو يزور البيت إلا لماما، فقد أصبح مأواه هو المجال الفسيح للحركة الإسلامية.
ورغم ابتعاد الإبن عن البيت، وانقطاعه عن العائلة، فإن هذا البيت وتلك العائلة لم يسلما من الترويع، ففي إحدى الليالي الباردة من ليالي شهر نونبر1981، حل زلزال مفاجئ بهذا البيت،عندما داهمه عدد كبير من الشرطة، وسط ذهول الوالد المسكين وهو يرى ابنه يساق من طرفهم مكبل اليدين، وذهوله أكثر عندما أصروا على تفتيش البيت، وراحوا يقلبون طوابقه الثلاثة غرفة غرفة، وسط هلع الأطفال والأم وحيرة الوالد خوفا من أن يكون البحث ينصب على أمر خطير، وتحسبا من أن يحيق به وصغاره مكروه.
كانت حملة واسعة من الاعتقالات شملت قياديي كلا من الشبيبة الإسلامية والجماعة الإسلامية المنشقة عنها، ووقع الإبن في شراكها، ولأنه لم يعترف، فقد كان ذلك التفتيش الدقيق في بيت العائلة والذي غادره منذ زمان، غير أنه تمكن من الفرار من قبضتهم، عندما أعادوه مرة ثانية ليرصدوا أصحابه، وهنا وقعت الطامة التي ظل الوالد المسكين يتخوف منها، ويحتاط لوقوعها، فقد هاجمه الأمن الذين ضيعوا الصيد الثمين، وطافوا به على كل منازل أقاربه وأقارب الأم، وأنذروا الجميع بإلزامية تبليغ الشرطة عن مكان إختفاء الإبن الفار، ثم أخذوا الوالد التعيس الحظ رهينة ورموا به وسط المعتقلين حتى يسلم الإبن نفسه، كانت المصيبة شديدة على نفسه، لكن وقعها تخفف، وألمها تلطف، عندما نال من المعتقلين رفاق ابنه، الرعاية القصوى، خدمة ومؤانسة وقضاء لكل مآربه ،فقد كان هو الأب الوحيد الذي زج به رهينة، إنتقاما من الإبن الفار، رغم وجود عدد من المبحوث عنهم من أمثاله.
مضى الدهر بطيئا إلى أن أفرجوا عنه بعد أن يئسوا من اصطياد الإبن الهارب، عاد مريضا، بدأت الأمراض التي يسببها القلق والخوف تعشش في جسده، وضاعف منها أن المراقبة بقيت مضروبة حول البيت، إما بمرابطة سيارة بعضهم قربه أو بمداهمتم له مرة ومرة بشكل فجائي، حتى إن الأقارب والمعارف إنفضوا عن التواصل والتزاور، والأقسى من ذلك، أن الأرزاق ضاقت بإبعاد الأسر أطفالها عن الكتاب القرآني الذي شاع بأن الفقيه صاحبه كان معتقلا، وأن إبنه أصبح مطاردا من طرف الشرطة، وأن البيت الذي يأوي الكتاب بات مراقبا.
أصبح الوضع خانقا، لكن لفقيه سيتنفس الصعداء،في يوم من أيام غشت 1982، عندما جاءت الأخبار بأن الهارب المختفي سقط في قبضة الشرطة، بعد عناء في البحث عنه، وبالرغم من ذلك كان وقع اعتقال الإبن شديدا على قلب الأب، فراح من جديد يبحث عن مكان الإعتقال، وعن الوسطاء والشفعاء، فلم يستسلم لا للخوف الذي أصبح مسكونا به، ولا لليأس الذي يبذره الناس من حوله تعليقا على مصير الإعتقال.
عادت الفرحة إلى البيت بعد الإفراج عن صاحبنا، وزالت غمة المداهمات البوليسية والمطاردات، وقرر الاستقرار في بيت العائلة بعد الغياب عنه سنوات، ونجح في اجتياز مباراة، وأصبح يتأهل ليكون إطارا إداريا محترما، وبدأ الإطمئنان والإرتياح يغزو قلب الوالد رويدا رويدا، وأصبح يتذوق طعم مجالسة إبنه، خصوصا وأن الإبن أصبح له حديث آخر، فهو وزمرة من رفاقه في قيادة التنظيم الجديد للجماعة الإسلامية يجتهدون للخروج من العمل السري اللامشروع إلى العمل القانوني، سيما وأن هناك حالة من الإنفراج السياسي شملت بعضا من اليسار الراديكالي.
لكن هذا الهدوء والنعيم العائلي والاستقرار النفسي، هبت عليه العاصفة فنسفته من جديد، ففي إحدى ليالي رمضان،صيف 1983، صعد 20 رجل أمن إلى حيث العائلة مجتمعة حول مائدة الإفطار، وسؤالهم المرعب المجلجل: أين هو عبدالله؟ وانقضوا على الأخ المسكين ظنا منهم أنه المطلوب واقتادوه إلى لمعاريف الرهيب، إلى أن أحضر لهم الوالد في الغد الوثائق والصورالتي تميز بين ابنيه.
عاد الأب إلى سابق كرباته، وعاد الإبن إلى حالة الإختفاء، كان المعتقلون الجدد من الإسلاميين يساقون إلى معتقل درب مولاي الشريف، سيئ الصيت، لم يكن هناك أي مبرر لاعتقاله، ولكنه إستشعر إستهدافه أمنيا ضمن قيادة الجماعة الإسلامية، فرفض تسليم نفسه. إلى أن اعتقل واقتيد إلى درب مولاي الشريف،يناير1984.
عمل الوالد كل مافي وسعه ليتابع أخبار إبنه من داخل المعتقل السري، وكانت الأخبار تصله أولا بأول، فاشتغاله في التعليم القرآني منذ الخمسينيات جعل من تلامذته الأطفال من أصبح في المواقع الحساسة، غير أنه لم يكشف قط عن مصادر إخباره.
وجاءت المحاكمة التي صعقت أحكامها الآباء والأمهات، لشباب في عمر الزهور قضي في حقهم بالإعدام والسجن المؤبد والثلاثين سنة والعشرين سنة والعشر سنوات بتاريخ31يوليوز 1984، ثم بعد ذلك ، جاءت مرحلة السجون، من أغبيلة إلى آسفي إلى القنيطرة إلى عكاشة، وما معها من عذابات وصدامات ونضالات وإضرابات لامحدودة عن الطعام، تحملها الآباء والأمهات صبرا واحتسابا في الرحلات المكوكية إلى السجون، في القر والحر، وفي المبيت عراء جنب بوابات هذه السجون،، بعد ضنى الأسفار الليلية، وفي الرحلات الماراطونية نحو الرباط للتشكي والاحتجاج والاعتصام.
حينما كان يأتي الحاج الجيلالي إلى المزار، ويمد بصره إلى إبنه من وراء القضبان، يتذكر طفولة الإبن، ويلتبس عليه الأمر، فينطق بتعبيرات كمن يشعر بعقدة الذنب، لكن سرعان ما يتراجع ويستغفر الله، بعد أن يذكره إبنه بأن هذا طريق الأحرار الأشراف، وأن إرادة الله ماضية، وأن الشعب يحيا بتضحيات أبطاله.
عشر سنوات مرت بطول دهرها، والحاج الجيلالي عاض على الصبر المرير إلى أن حلت ساعة الخلاص، سنة 1994، وحل معها العفو الملكي الشامل والعام عن المعتقلين السياسيين والمنفيين، وحلت معها المصالحة الوطنية الكبرى بين الحكم والمعارضة السياسية، اليسارية والإسلامية، وكان عرسا وطنيا أدركه الحاج وقد أصبح أسير الشيخوخة والعجز.
لكن وقد حلت فترة آمنة هادئة، في ظلال هذه المصالحة الوطنية، وانقشع هم الاعتقالات والملاحقات والمداهمات، وأصبح الإبن مستقرا عائليا ومهنيا وسياسيا، إنتسب إلى مهنة المحاماة، وانخرط في العمل السياسي فأصبح ممثلا منتخبا ونائبا لرئيس جماعة حضرية، فهل يأمن الحاج الجيلالي مع هذه الهدأة مكر الزمان، ونوائب الدهر، ويسدل الستار على ماض كئيب؟
أسس الإبن المحامي رفقة إخوانه من سابقي المعتقلين السياسيين الإسلاميين جمعية حقوقية : التجمع من أجل كرامة الإنسان،اشتهرت باسمها المختصر: تمكين، فاشتغلت على الشأن الحقوقي العام، لكن انفردت بالاشتغال على تصفية الملفات العالقة من أجل الإفراج عمن تبقي من المعتقلين السياسيين الإسلاميين، ومن أجل عودة آخر المنفيين، غير أنها زامنت ميلاد أولى قضايا السلفية الجهادية أو مآصطلح عليه لاحقا بقضايا الإرهاب، فانبرى المحامي الحقوقي في التعاطي معها مهنيا وحقوقيا وإعلاميا، بشكل أزعج الماسكين بالقرار الأمني في البلاد، فكانت النهاية أن يتم إبعاده عن التصدي لهذه القضايا الملتهبة، ولكن بطريقة واحدة هي الزج به وراء القضبان، ووجد الحاج الجيلالي نفسه ، خلال صيف 2003، يعود إلى مزار السجن، ولكن هذه المرة، لم تعد العيون تقوى على الدموع التي غاضت وجفت مع المعاناة الطويلة، ولم يعد اللسان يقوى على الحديث، بعد أن حار العقل في فهم معنى اعتقال محام في عز أدائه لرسالته النبيلة، ولم يعد الجسد يتمالك للوقوف بعد أن أنهكته سنون القهر والمرض والتحمل.
ذلكم هو الحاج الجيلالي لعماري والد عبدالله لعماري: المقاوم دون أجر قبل الاستقلال، ومعلم الأجيال بعد الإستقلال، والممتحن المعذب والمعنى عمر حياته في كل العهود، الذي غادرنا إلى دار الأمان والسلام قبل خمس سنوات، ليلة 29 شتنبر 2003، فالرحمة لروحه، ولأرواح كل الأباء والأمهات الذين عطروا سجون البلاد، دفاعا ومساندة لكفاح أبنائهم المناضلين السياسيين.