الكائنات السياسية
السياسة و ما أدراك ما السياسة ، ونحن بدأنا ندري، لحسن الحظ و لحظنا الحسن، ما نوع السياسة التي تسوسنا، و أي نوع من الساسة يسوسوننا .
آراء أخرى
هي طائفة من بني البشر اتخدت من السياسة و أدواتها حرفة، و من “قيادة” الناس مهنة، فعزفت عن المهن كلها إلا تلك، و رغبت عن الأعمال جميعها إلا هذه. ربما تكون “الحسنة” الوحيدة التي ينبغي أن نعترف بها لبعض الساسة عندنا ، أنهم يعفوننا من صعود خشبة المسرح السياسي، وبالتالي يرفعون عنا الإحراج الثقيل في التقمص و الأداء ، فمن دون هذه الطائفة لا يكتمل المشهد ، باعتبارهم لاعبين أساس ومهرة ،يستحيل القيام بشيء في غيابهم ، فلا حرفة لهم غير السياسة ، لا شيء غير السياسة ، لذلك تراهم في صعود و نزول دائمين ، وتبادل للأدوار متناوب .لا يملون ولا يصيبهم في ذلك لغوب و لا تعب . و متى كانت السياسة حرفة من لا حرفة له!
ومن غير هذا النوع من الكائنات السياسية ( يعتقد أكثرهم أنه خُلق لسياسة الناس ، وأن الناس وجدوا ليسوسهم هذا النوع من الكائنات ) لبقيت الخشبة بدون لاعبين ، و لا وجدت الأقنعة من يضعها ولا وجدت المساحيق و الثياب المهلهلة من يرتديها.
النزوع نحو السياسة ( في نموذجها المبتذل ) لوثة تصيب نوعا من الورى ، يتخذ من الفذلكة اللغوية و الحذلقة الكلامية، وسيلة يستميل بها نوعا يوازيه من البشر ، فتقوده ( المس واللوثة ) إلى أي كرسي يستهدفه، كيفما كان نوعه كالممسوس، فعندما تقترب مواسم الانتخابات ، يصاب هؤلاء المعطوبون بما يشبه المس و الجذبة ، فينسلخون عن ذواتهم ، ويصبحون عبيدا لرؤى و تصورات و أحلام ، لا يراها غيرهم، ويعتقد المخلوق السياسي في لا وعيه الباطن ، أن الناس من دونه سيضلون الطريق ، ومن غيره ستتعفن الديمقراطية و تغمل.
و اللوم ليس فقط ليس على أصحاب الكراسي الكبيرة المغرية (بعضهم يرأس جمعيتين أو أكثر، وجماعة ترابية لا يعرفه فيها أحد و عينه الحمراء على قبة من القبب …) إنما اللوم والامتعاض حتى على أصغر الكائنات السياسية التي تشحذ مالها و أنيابها ، وهي تنقض على أصغر كرسي في أصغر جمعية ، في أبعد حي منسي في أقصى أصقاع الأرض .
يجد هذا النوع من البشر لذة غريبة و هو ينتظر مواعيد الانتخابات ، أيا كان نوعها : جماعية أو برلمانية أو جهوية أو مهنية …أو حتى جمعيات الحي و العمارات و الآباء و الأمهات ورعاية الحيوانات أو الجن … لا يهم ، بل لا يهم حتى الموقع الذي سيحتله رجل السياسة هذا ، لا يفرق بين معارضة و لا أغلبية ولا وسط و لايمين و لا يسار .
المهم في نظره القاصر أن يدخل مبنى السياسة مع الداخلين ، ففي هذا المبنى ( برلمان أو جماعة ، بلدية …) يعتاش السياسي و يقتات ، و من غير تواجده هناك يضوي و يصبح متعفنا ، المهم أن يضع له رجلا على الركح السياسي و ينخرط مع جوقة الممثلين ) المنتخَب يمثل الذين انتخبوه ، فهو ممثل لهم إذن ) و ينخرط في التمثيلية و لو كلفوه فقط بأن يدق الدقات الثلاثة الشهيرة معلنا بداية العرض …
السياسة التي لم تعد بخير، وغدت محل اتهام وشبهة، في كثير من الأحايين، وأضحت الأصابع تشير إليها من كل مكان ( ومن أعلى المستويات). السياسة موضوع الحديث، هي السياسة المبتذلة، السياسة المطية و السياسة القنطرة، السياسة موُطّئة الطرق إلى كذا رصيد وكذا عقار وكذا امتيازات… لا يعلمها إلا الراسخون فيها و أمثالهم.
هي السياسة في طبعتها الرديئة ، التي يُصنع فيها الحزب، وتصنع فيها البرامج ( إن كان حقا هناك برامج) ، و تُجيش الأيدي المُصفقة و الأصوات رهن الإشارة، ويُرى فيها الزعيم الأبدي، يتلقى التهاني و يعطي التصريحات ، قبل حتى أن ينال الحزب التصريح.
ومن غرائب السياسيين أن صغارا من هؤلاء ، تجد نفسها في معمعة الضرب والنزال من غير نية ولا استعداد ،و يعود لها شأو لم تكن لتحلم به أبدا ، يتذكر فقط أن “عصبة” من ذوي النيات المبطنة طلبت منه صورته يزيدونها إلى اللائحة ، يكملون بها العدد، فتجرفه العتبة و يفيض مع الفائضين، فتدوخه السياسة ببخورها السحرية ، و من بعد ذلك يغدو سياسيا كبيرا محنكا ضليعا معرفة، منفوخا ذا كرش كبيرة و لحم مترهل ، بعد أن كان نكرة لا يَعرب ولا يُعرب.
رجل السياسة هذا ، يجعل نفسه يعتقد ( كما يجعل الناس يعتقدون ) أن الحل السحري بيده وأن برنامجه الانتخابي (الذي استنسخه على عجل في مقهى من مقاهي المدينة الكثيرة ) فريد في نوعه كالبلسم الشافي ، يكفي أن يُمنح العدد الكافي من الأصوات و النوايا و المواقف و العهود الثقيلة و الزائفة ، الصادقة و الكاذبة ،و بالاتكاء على كواهل هؤلاء الناس الطيبين المتواطئين ، ينخرط الرجل الصغير في العرض ، ومع قوة الأدوار ودرجة اللغط ، ينسى وجود الناس الذين يتابعون العرض ، و لا يستفيق منه إلا وستار النهاية ينسدل و ينغلق على هؤلاء الممثلين ، عازلا إياهم عن المتفرجين الذين بدؤوا يُصفّقون ويَصفقون الكراسي و هم على أتم الاستعداد لشراء تذاكر العرض القادم ، ومتابعة السياسي الصغير في فتحه القادم.
وبطبع الحال ومنطق الأشياء ، فإن هذه الكائنات السياسية لا تأتي من الفضاء و لا تُنزل تنزيلا في غفلة من الناس و بمعزل عن الورى ، بل إن واقع الحال يقول و يدلل على أنها تنبت بين ظهرانينا و على مرأى و مسمع منا ، و قد تنسلخ من أضلعنا و نحن ندري و لا ندري.
فنحن الذين نوفر لهم الحاضنة التي تحضنهم و تفرخهم واحدا تلو الآخر، وبكل الألوان و الأنواع ، بل إن بعضا منا يحتفظ في داخله ببذرة من هذا النوع من الكائنات ،مشروع مخلوق انتخابي كامن بالقوة، يتحين الظروف المناسبة حتى يفقس ويخرج إلى الضوء. ليفقس كائنا سياسيا يبدأ صغيرا يوجد بالفعل.
نحن الذين نمدهم بما به يعيشون ويقتاتون، نحن الذين نسلمهم ذممنا و عهودنا وأصواتنا ، أو ليس الإنسان غير صوته !
يذهب السيد “ف” إلى مخدع التصويت و هو متيقن من شيئين : متيقن من أنه سيواصل بناء الخرابة التي زادها فوق سطح المنزل ، إيواء لابنه الراجع من المهجر، ومتيقن من أن ” الرمز” الذي علموه كيف يشطب صورته بجرة قلم ، هو رمز الحزب ، غير ذلك لا يعرف شيئا عن الحزب ، ولا حتى ، ما ذا تعني كلمة حزب ؟ ولأي شيء يصلح !
وفي أقصى الصورة ، تنتظر السيدة “ز” ـ شفاها الله ـ موكب الحملة ، لتقايضهم بثلاثين صوت ، جمعتها من خشاش أقربائها ، مقابل أن يعطوها كِلْية من الكلي ( نعم تطالب المرأة بكِلية ! ).
كتب الجابري ،رحمه الله، أن الجائع لا يصوت إلا للذي يمده بالخبز… وعندما فتحوا الأظرفة ، لم يسمعوا بداخلها ولو صوتا واحدا ، فقد كانت الأظرفة مليئة بكسر الخبز اليابس، …و من بعيد كانت تتناهى أصوات جلبة و ضوضاء.
