لامدرسة دون قيم وتحقيق ذات للمعلم وللمتعلم.

عندما يُضربُ الأستاذ من المجتمع وقِيَّمه، يتوجُ المسلسل “بذُله” أمام تلميذ “مضْرُوب”.

إفلاس صورة المدرسة من إفلاس صورة القيم التي تُسقِّفُ هذه المدرسة وتمنح وجودها معنىً ووظيفتها نُبلاً وسُمُوا.

عن السياق.

لن يُجدي شيئا لا العقاب ولا التدخُّل كلما أحدثت المدرسة شرخاً في صورتها الذاتية وبأيدي الفاعلين الرئيسيين فيها. للوقوف بعجالة عند هذه الصورة المشروخة والباهتة، ينبغي بالضرورة، في نظري، الربط الاستدلالي والدلالي بين ما حدث، وبين ماسبق وحدث على امتداد توسُّع « شُقوق العُقوق »، التي تغلغلت شيئا فشيئا في صورة المدرسة العمومية ببلادنا. حدث ما حدث لهذه الصورة انطلاقا من الحياة العامة واليومية للمواطنين، وما يطغى عليها من تأثير للصورة اليومية عن الحياة وعن المواطنة، عن الفن وعن التربية والعلم والثقافة والإبداع، عن السياسة والمسؤولية والواجب، وعن العقاب والخطأ التي يتشرَّبونها بقوةِ تأثير أكثر مما للمدرسة عليهم. فالتعليم ليس مدرسة وحسب، بل هو شارعٌ وجمعيّةٌ وحزبٌ وإدارة وتلفزةٌ وصحافةٌ، إذا لم تكن كلُّها تنهل من قِيمٍ كونيَّة واحدة، وبمعايير انخراط وتطبيق في النظام الاجتماعي العام لها ولروحها، فماذا تنتظرون من المدرسة أن تكون وهي معزولة ومهمشة: « سوبرمانة » المؤسسات؟

مظاهر الداء.

لنسترجع بعض مظاهر افلاس القيم في فضاءاتنا المشتركة والتي تتزايد يوما عن يوم كالطاعون :

رد الفعل على « قُبلة مكناس » ،

رد الفعل على « تنورة تزنيت »،

رد الفعل على « مظهر الشذوذ بفاس »،

اعتداء “خرِّيج” اللامدرسة على من هو بمقام أبيه بساطُور صبِيحة العيد،

قتل الجدة من أجل دراهم معدودات ….

« منع » الإنتاجات الإبداعية والتضييق على حرية التعبير في الصحافة كما في الفنون والفكر والعلم،

« المُقاومات » المتنوعة والشرسة وعلى عدة مستويات بما فيها المتضررون، ضد كل عقلانية أو موقف حداثي، و تسفيه كل مبادرة بنيوية تدعو لعملية جراحية في العمق لما يطفو، هنا وهناك، من مظاهر انهيار القِيّم، وفُقدان الاحترام لقيم العيش المُشترك واحترام الدولة والقانون من المسؤوؤلين والمواطنين على حد سواء.

صناعات صورة العنف.

يرتبط كل ما سبق عُضويا بمظاهر تدبير وتسيير وآليات صناعة الصورة القَيْمِية في قطاعات مختلفة، تأثرت بها صناعة صورة المدرسة في مخيلة و في ذهن المواطن، بمن فيه الفاعل التربوي أستاذا كان أو تلميذا، بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو ما عمق شرخ صورة هذه المدرسة الجريحة. من هذه المظاهر:

« تثْمِين وتبرِيزُ » ومنحُ الاعتبار لأشكال مُعينة من الإنتاج الفني والسمعي البصري ومنها على الخصوص:

= غناءٌ وطربٌ:

 – فقير في الإبداع الجمالي العميق والبنيوى المركب للنغمة والكلمة والايقاع والصوت الاستثنائي في صيغة منسجمة ومتناغمة تدهش وتفتن وتغذي الذوق والعقل والوجدان،

 – مُسطحُ الكلمات، هجين في توظيفه المبتور لمقاطع من التراث الشعري تفقد سحرها وعمقها بالتعسف عليها ادماجا في بنية كلام مصطنع لا شعرية ولا عمق فكري ولا تنغيم نظمي فيه ولا تسامي معني عن استنساخ بئيس للواقع يحمله،

 – بئيس في النغمات والمقامات والإيقاعات الموسيقية التي يركبها في نسج إيقاعاته الرتيبة التبسيطية والتي تخاطب الغريزة والجسد المنفلت من عُقاله في عجز فاضح عن مخاطبة العقل أو الروح،

  – حاذقٌ في إثارة المشاعر السّطحية، مُروِّجٌ لقِيَم الذُّكُورة المُفرطة والنرجسية المفضوحة، والارتباط المَرَضِي بالأم، التحقيري تجاه المرأة والأنوثة، البكائيُّ السلبيُّ، الغارقُ في جلد الذات تجاه القيمة النبيلة للحب،

= إشهار:

 – يتقرَّب ويتملق ُ ويستقوي بالأكثر شعبوية وخواء وتجسيداً للاستسهال ولعدم الاستحقاق الإبداعي الرصين في السينما والتلفزة والغناء، ليغدق عليه ويروج به منتوجاته، ضاربا عرض الحائط وغير واعٍ، أو أنه مُستهتر، بتأثيره اليومي القوي على ملايين المواطنين وخاصة المراهقين والشباب،  – يقدم للمواطنين بإسهالٍ وإلحاح ومكرٍ، نماذج “للنجاح” الاجتماعي والمادي من “نجوم”، لم يكرسها لا النقد الجمالي الجاد، ولا الدراسات الأكاديمية المتخصصة، ولا الجوائز ذات المصداقية الوطنية والعالمية الرصينة بمعاييرها وبأعضائها. وذلك لضعف وسطحية وفقر إنتاجاتها رغم قِدم واحترافية بعضها.

= برامج تلفزية حوارية وترفيهية وإخبارية:

 – عدوانية الخِطاب أو فارغة المضمون تجاه الفن والعلم والثقافة حيث تجعلها مختزلةً في فُرجة رخِيصة، أو أنها تُحقِّرُ الإبداع بكل أشكاله، لفائدة جلدِ الذَّات أو تضْخِيمها، برامج توزع أحكام القيمة دون حِسابٍ، وتمرِّرُ رسالة خطِيرة تساير خواء التعليم من قيم الاجتهاد والمثابرة والبحث واحترام التخصص، رسالة تتمثل في معايير اختيار نماذج مُعينة، تواكب اختيارات الاشهار القوي لكبريات المؤسسات العمومية والشبه العمومية والخاصة، إنها نماذج العقم والضعف الإبداعي التي تكرِّسُها في ثقافة المجتمع وعقم أشكال التأطير فيه (بعد إفلاس الأحزاب والنقابات وأغلب الجمعيات) إن وجدت. 

إنذارات في التعليم لم تُسمع:

شيوع الغش في الامتحانات باعتباره حق مكتسب،

الاصلاحات المتكررة والفاشلة للتعليم،

اطلاق اليد للتعليم الخصوصي للابتزاز وللاغتناء والامتناع عن مراقبة مدى تطابقه ومعايير القيم الكونية للتربية والتعليم تحت ذريعة “غلاء” كلفة التعليم العمومي،

عدم مُساءلة ومُحاسبة اِصلاحات كلفَت الملايير في التعليم وكان تأثير فشلها ذريعاً وقاسيا على الإصلاح الاستراتيجي السياسي لانطلاق مسار التحديث وفعاليته الكمية والنوعية على التعليم ذاته وعلى المواطن والمواطنة كقيمة لا تحديث ولا عصرنة بدون انغراسها بشكل عقلاني ومسؤول في ذهنية المواطن.

عن بنيوية ومركزية التعليم.

من أقوى أسباب شرخ صورة المدرسة في الذهن الوطني المغربي اليوم « رفض » كل الدعوات للربط بين التعليم وبين استراتيجيات دامجة بنيويا للسياسات المُدبِّرة لقطاعات:

الإعلام، الإذاعي والتلفزي والصحافي الورقي والإلكتروني،

الشباب، وفضاءات ومؤسسات تأطيره وتنشيطه وتكوينه وتفتيق قدراته،

الرياضة، وفضاءات ممارستها وصناعتها وتفتيق قدرات ممارسيها المحترفين والهواة وشباب الأحياء والمدارس والجامعات،

الثقافة، وعلى رأسها الكتاب بكل تنوعاته وفضاءات إنتاجها وصناعتها ورعايتها وتوزيعها وتوظيفها حيث تلتقي أهداف الدولة الاستراتيجية من السياسة بعنييها المحترف والإنساني العميق.

الفنون، من مسرح وسينما وتشكيل ورقص وموسيقى ….باعتبارها قمة ورأس الإبداع وتوليفته التي تقترب أكثر لقيم الحرية والإبداع واقتحام ومغامرة التجديد وتوجيه قاطرة المستقبل في إخلاص نموذجي لقيم الإنسان الأصيلة.

والأهم على الإطلاق، هو ربط التعليم بالتنمية الاقتصادية والبيئية وإعادة تأهيل فضاءات العيش المشترك، المدني والحضري والقروي انطلاقا من أن المواطن هو قطب الرحى والمستهدف الأول. فلا حدائق ولا مساحات ترفيهية دون مواطن متحضر متعايش مع الاختلاف ومتسامح مع التعدد يهواه ويحبه ويدرك بعمق قيمته.

من أجل جمالية صورتنا:

في نهاية هذه العُجالة: أعتقد أن مؤازرةً استراتيجيّةً للمدرسة الوطنية في بلد يخطو بتحدٍّ على درب التحديث، سيقع جزء هامٌّ من مسؤولية نجاعتها على كاهل التلفزة والاشهار والصحافة (أليست هذه هي علب الصناعات الأكثر انتشارا وتوزيعا وتأثيرا للصور وطنيا ومنها صورة المدرسة المغربية؟)، فعلى استراتيجية تجديد صورة المدرسة المغربية، (لا أقول ترميم إذ أعتقد أن لا مجال للترميم بل هو سبب الفشل الممنهج للمحاولات) أن تساهم في ترقية الذوق العام، وتوضيح المغزى من العيش المشترك، والرفع من مرتبة العلم والقيم الكونية الكبرى في أذهان المواطنين، (ذلك هو صلب التربية بالمدرسة، أما التكوين فيبقى تقنيا ووظيفيا)، عِوض الاعتماد على استهلاك، (بل ودعم) المصنوع من تردِّي الذوق العام، والجاهز من إفلاس التعليم، والمتاح من تسَيُّبِ فضاء الإبداع، وإفلاس وعجز الأطر التقليدية للتربية والتنشئة. ذلك ما سيمكن المدرسة الوطنية من العودة إلى سكة غاياتها النبيلة وهي: المساهمة في صياغة وصناعة وحماية صُوَرِ رافعات بناء الوطن وصيانة صورته الرفيعة وتقوية، بالتالي، لُحمة وحدته واستقراره.