أن تزهق أرواح بشرية في حادث تدافع أمر وارد وممكن الحدوث في أي مكان من هذا العالم… قد يكون السبب هو السباق من أجل الظفر بمقعد في قطار بإحدى محطات مومباي المزدحمة بالمسافرين، أو انهيار جسر في بغداد خلال طقس شيعي. ويمكن أيضا أن يحدث ذلك نتيجة للحماس في التعجيل برمي الجمرات في منى خلال موسم الحج. وقد يكون بسبب ازدحام جماهيري عند بوابة ملعب لكرة القدم في أنغولا… وفي كل هذه الحالات تظل مسؤولية الجهات المنظمة ثابتة وقائمة… لكن أن تموت خمس عشرة امرأة في سباق محموم من أجل الحصول على مساعدات غذائية بسيطة في مغرب 2017، فذلك أمر يتجاوز حدود المسؤوليات التنظيمية والإجراءات الإدارية المرافقة لها، ليسائل السياسات الإقتصادية والإجتماعية التي تنتج فقرا قيل عنه إنه كاد أن يكون كفرا، لكنه في واقعة “سيدي بولعلام” أصبح قاتلا.

القفة القاتلة تكشف عن واقع بئيس يحاول الخطاب الرسمي مداراته، لكنه يأبى إلا أن يظهر نفسه بصيغ بشعة. وما أبشع هذا الموت الذي خطف نسوة كن في أمس الحاجة إلى قفة الإحسان تلك للحصول على لقمة تقيهن وعائلاتهن ألم الجوع إلى حين. بالتأكيد الفقر موجود في كل دول العالم، لكن حين يتحول إلى مأتم جماعي فذلك أمر جلل يدق ناقوس الخطر، ويستفزنا جميعا كمغاربة.

تأتي هذه الفاجعة في ظل نقاش نخبوي حول النموذج التنموي المغربي الذي دعا ملك البلاد إلى إعادة النظر فيه، لأنه بات واضحا أنه يعاني من أعطاب كثيرة على مستوى التخطيط والتدبير والبرامج والأهداف المتوخاة. وعندما يراهن هذا النموذج على إنتاج الثروة، ولا يستهدف تنمية الإنسان، فإن ذلك يؤدي حتما إلى اتساع حدة الفوارق الإجتماعية في غياب عدالة توزيعية مجالية واجتماعية على السواء، مادامت الثروة تتراكم في جيوب الأقلية المالكة لوسائل الإنتاج، بينما تعاني فئات عريضة من أبناء الشعب من الفقر والحرمان، خصوصا وأن السياسات الإقتصادية المنتهجة لم تنجح في توفير فرص الشغل اللازمة، ولم تستثمر في القطاع الإجتماعي.

كان الإعلان عن المبادرة الوطنية للتنمية البشرية محاولة لتجاوز الفوارق الإجتماعية الصارخة من خلال النهوض بالفئات الأكثر فقرا وهشاشة، ومساعدتها وتأهيلها من أجل تنفيذ مشاريع مدرة للدخل وموفرة لفرص الشغل، وهو ما يتطلب مجهودات كبيرة وبرامج تنموية حقيقية تأخذ بعين الإعتبار حاجيات الفئات المستهدفة ومؤهلاتها الذاتية والإمكانات المتوفرة لها. وذلك ما تدل عليه هذه الفقرة الواردة في خطاب 18 ماي 2005، الذي أسس للمبادرة:

“إن إعادة التأهيل الاجتماعي عملية معقدة، شاقة وطويلة النفس، لا يمكن اختزالهـا في مجرد تقديم إعانات ظرفية، أو مساعدات موسمية مؤقتة. كما لا يمكن التعويل فيها على الأعمال الخيرية، أو الإحسان العفوي، أو الاستجابة لوازع أخلاقي، أو لصحوة ضمير.”

لقد مضت أكثر من اثنتي عشرة سنة منذ بدأ تنفيذ هذه المبادرة، وعندما نشاهد المئات وربما الآلاف من المعوزين والفقراء يتسابقون من أجل الحصول على الإعانات الإحسانية المناسباتية، فإن ذلك يعني أن أهداف المبادرة لم تتحقق، وهو ما يدعو إلى مساءلة السياسات التدبيرية التي فشلت في تنزيلها وترجمتها واقعيا، وذلك من خلال إعداد وتنفيذ برامج تهدف إلى محاربة الإقصاء الإجتماعي وتحسين مستوى عيش الفئات الهشة وتشجيع الأنشطة المدرة للدخل خصوصا في العالم القروي. لذلك لا يمكن ربط الحادث المأساوي الذي عرفه إقليم الصويرة بالجانب التنظيمي أو بفراغ قانوني في ما يتعلق بضبط العمل الإحساني فقط، بل ينبغي الوقوف عند الأسباب الحقيقية التي دفعت هؤلاء النسوة المعدمات إلى تسول عطايا المحسنين والتهافت عليها. فالفقر ليس قدرا محتوما لا يمكن تغييره، بل هو منتوج إجتماعي تغذيه السياسات الرسمية فيتحول إلى تفقير بسبب التهميش واللاعدالة المجالية. إنه عنف رمزي ضحاياه يئنون بصمت، ولا يتم الإلتفات إليهم إلا عبر جرعات من سيروم الإحسان بين الفينة والأخرى للفوز بالولاءات، لكنه يمكن أن يتحول إلى خطر حقيقي إذا لامس شغاف البطون.

” علمني كيف أصطاد السمكة، ولا تعطني سمكة كل يوم”. هذا المثل الصيني البليغ الذي حفظناه في المدرسة الإبتدائية هو المفتاح الحقيقي للتنمية المستدامة. وهو يؤكد أن الإستثمار الناجح ينبغي أن يستهدف تغيير الإنسان وتوعيته وتطويره والإيمان بمؤهلاته وكفاءاته وتمكينه من مختلف الخدمات الإجتماعية حتى يتحول إلى فاعل ومنتج، ويستغني عن فتات النموذج التنموي الإحساني.