لم تمض على احتفالات الفرح التي خرجت بمناسبة تأهل المنتخب المغربي إلى نهائيات كأس العالم 2018، إلا أياما قليلة، حتى استفاق الرأي العام الوطني على فاجعة مروّعة، أدت إلى مصرع خمسة عشر امرأة وعدد من الجرحى، بالجماعة القروية بولعلام التابعة ترابيا لمدينة الصويرة، وذلك بسبب شدة الازدحام والتدافع، من أجل الحصول على مساعدات غذائية بسيطة، الأمر الذي خلّف موجة من الحزن والغضب لدى جميع المغاربة في الداخل والخارج، خاصة وأن النساء اللواتي قضين في هذا الحادث الحزين، معظمهن متزوجات ولديهن أولاد صغار، وبينهن سيدات حوامل ومطلقات، تتراوح أعمارهن ما بين 32 و80 سنة.

كان التفاعل والتضامن مع ضحايا الحادث الأليم وأسرهن قويا في مواقع التواصل الاجتماعي، وتصدّرت أخبار الفاجعة عناوين الصحف والمواقع الإلكترونية المغربية، وبلغ صداها إلى وسائل الإعلام الغربية، وفي سياق هذا التفاعل المجتمعي مع هذه المأساة الإنسانية، بدأت تُطرح عدة أسئلة عن الأسباب التي أدت إليها، ومن المسؤولين عنها؟

وإذا كانت القضية من الناحية القانونية، لا تثير أي إشكال، لأنه تم فتح تحقيق قضائي، من أجل معرفة الأسباب التي أدت إلى سقوط هذا العدد الكبير من الضحايا، وتحديد المسؤولين عنها، لكن من الناحية السياسية، فإن القضية أثارت كثيرا من الجدل والخلاف، حول الجهات أو الأطراف التي تتحمل المسؤولية السياسية عن الحادث الأليم، وقد تتبعنا ردود فعل الأحزاب التي لم تكن في مستوى الحادث الحزين، ولم تسجل مواقف حزبية رسمية، وإنما تصريحات صحفية أو تدوينات فيسبوكية لبعض قادة الأحزاب، في المقابل حاول بعض السياسيين استغلال الحادث، لإلقاء اللائمة على خصومهم، وحاولت بعض الجهات تحميل المسؤولية لمن نظموا وأشرفوا على عملية توزيع تلك المساعدات، دون حتى تتضح ملابسات وظروف القضية.

بالتأكيد أن الأسباب المباشرة وراء هذه الفاجعة الوطنية، هو سوء التنظيم والتدبير لعملية توزيع تلك الإعانات، وهو ما أدى إلى الازدحام والتدافع بين النساء من أجل الحصول على المساعدات الغذائية، وهذا الأمر تُسأل عنه الجهة المنظمة والسلطات المحلية، التي أُشعرت بعملية توزيع المساعدات، إلا أن الأسباب غير المباشرة، في تقديرنا هي الأهم، لأنها كانت الدافع لأولئك المواطنات الفقيرات، إلى المخاطرة بحياتهن من أجل مساعدات هزيلة، مع العلم أن السنة الماضية شهدت كذلك وقوع حادث تدافع مماثل، أدى إلى سقوط أربعة أطفال حسب إفادة أحد أفراد عائلة الضحايا، وهو ما يدل على أن المواطنات والمواطنين الذين قرروا الذهاب للاستفادة من تلك المساعدات البسيطة، يعانون من الفقر المدقع، الذي قادهم إلى أجلهم المحتوم..

وبناء عليه، فإن الفقر والحاجة هما السببان غير المباشران في وقوع ذلك الحادث الأليم، فلو كانت تلك النسوة لديهن دخل قار يحفظ كرامتهن، ما اضطررن إلى طلب المساعدة أصلا، حتى لا يعرضن حياتهن للخطر، خاصة وأن أغلبهن سيدات كبيرات في السن، وهنا لا بد من التساؤل عن جدوى جهود الدولة في محاربة الفقر والهشاشة، وخاصة المبادرة الوطنية للتنمية البشرية؟

عندما نبحث في الأسباب الموضوعية، لمثل هذه الحوادث الحزينة، نجد أن وراءها الفقر والعوز، فلا زالت حوادث غرق عدد من الشباب المغربي في عرض البحر، أثناء رحلتهم عبر “قوارب الموت” للضفة الأخرى، وذلك هربا من الفقر وسعيا لحياة كريمة، كما لا زالت الحوادث تقع لعدد من المواطنات الفقيرات، أثناء دخولهن لباب سبتة، من أجل الحصول على سلع لإعادة بيعها في داخل البلادـ، ناهيك عن الأخبار القادمة من الشرق والغرب، عن مغربيات هاجرن من أجل العمل، فوقعن في شراك شبكات الدعارة.   

إن ما قامت به الدولة في مجال محاربة الفقر يبقى ضعيفا، لأنه لم يؤد إلى النتائج المنتظرة، سواء من حيث الحدّ من توسع رقعته، خاصة في البوادي التي تعتبر موطنا تاريخيا للفقراء، بل إن برامجها في هذا الباب، فشلت في مساعدة الفقراء ومحدودي الدخل على تحسين وضعيتهم الاجتماعية من جهة، ومن جهة ثانية لم تمنع من التحاق أسر من الطبقات الوسطى بالطبقات الفقيرة، وذلك لاعتمادها على سياسات عمومية تعطي الأولوية للتوازنات “الماكرو” اقتصادية على حساب التوازنات الاجتماعية، مما أفضى إلى تزايد نسبة الفقر والهشاشة في المجتمع، واتساع الهوة بين الفئات الفقيرة والغنية، وبين القرى والمدن، وهذا نتيجة حتمية لتراجع الدولة عن دورها الاجتماعي في السنوات الأخيرة لصالح القطاع الخاص، في عدة مجالات حيوية، أهمها الشغل والتعليم والتكوين والصحة والخدمات، وما زاد من تعميق أزمة الفقر، هو الرفع الممنهج للدعم عن المواد الغذائية الأساسية، وتحرير الأسعار، ما جعل المواطن الفقير عاجز عن توفير احتياجاته الضرورية.

إن أية محاولة لتحميل مسؤولية فاجعة الصويرة لجهة واحدة، من أجل احتواء الصدمة الشعبية، إنما هو تكريس للأزمة وتعميقها، فهي نتيجة موضوعية لسياسات عمومية تتقاطع فيها جميع مؤسسات الدولة، لأن شروط وقوعها مرتبطة بالظروف الاجتماعية الصعبة التي أفرزها النموذج التنموي الذي كان معتمدا منذ سنوات، وأُعلن رسميا عن فشله.

إن هذا الحادث الأليم، يلزمنا بإعادة النظر في سياسة دعم الفقراء المعتمدة على الإحسان والهبات، والتي كرستها المؤسسات الرسمية في برامجها الاجتماعية، وتبعتها في ذلك جمعيات المجتمع المدني، للمساهمة في جهود مكافحة الفقر، من خلال تنظيم عمليات توزيع المساعدات العينية على المحتاجين والمعوزين، لكن هذه العمليات رغم فائدتها الآنية، فإنها لا تزيد إلا من تكريس الفقر على المدى المتوسط والبعيد، لكونها تعتمد مقاربة محدودة الأثر في معالجة معضلة الفقر، التي تتطلب مقاربة شمولية، تعتمد على أساس التحفيز والتشجيع والمساعدة على الإنتاج والعمل.