"قاموس الدارجة المغربية" أو تصعيب الدارجة من أجل تفصيحها
أصدر مركز تنمية الدارجة (زكورة)، نهاية 2016، “قاموس الدارجة المغربية”. بقراءتي للمقدمة، وتصفّحي بعض المواد لأخذ فكرة عن المنهجية التي اتبعها المؤلفون لإعداد القاموس، استخلصت أن غالبية الذين كتبوا عن هذا القاموس وانتقدوه لم يطلعوا عليه البتة، وإنما انطلقوا في آرائهم من أحكام جاهزة حول الدارجة، وإشاعات مسبقة تخص السيد نور الدين عيوش، الذي ينسبون إليه القاموس، ولا تخصّ المعجم لا في شكله ولا مضمونه ولا منهجيته ولا أهدافه، علما أن اسم السيد عيوش لا يحضر ضمن لائحة مؤلفي القاموس، مما يبيّن أن موضوع “الانتقادات” هو السيد عيوش كشخص، وليس المؤلَّف كقاموس للدارجة.
آراء أخرى
سأناقش، في هذا الموضوع، منهجية القاموس ومضمونه المعجمي وأهدافه والطريقة التي اختارها المؤلفون لكتابة الدارجة. وهذه المناقشة مناسبة لإثارة مجموعة من القضايا المرتبطة بالدارجة، سواء في ما يخص وضعها ووظيفتها، أو علاقتها بالعربية والأمازيغية. وستتناول المناقشة المحاور التالية:
ـ نواقص بسبب تجاهل دور الأمازيغية في تشكّل الدارجة،
ـ وهم “العربية الوسطى”،
ـ طريقة كتابة الدارجة فرع من تصوّرها،
ـ ما هي الطريقة الأفضل للكتابة؟،
ـ صعوبات إضافية بسبب تطبيق الإملائية العربية،
ـ تصعيب الدارجة بتفصيحها،
ـ البناء والإعراب،
ـ بيت القصيد: ما الهدف من قاموس للدارجة؟،
ـ موقف الحركة الأمازيغية من الدارجة.
نواقص بسبب تجاهل دور الأمازيغية في تشكّل الدارجة:
يمكن اعتبار هذا القاموس أول عمل معجمي، جدي وأكاديمي، خاص بالدارجة المغربية. وقد رُتبت مادته اللغوية بطريقة ألفبائية حسب نطق الألفاظ المشكّلة لهذه المادة، خلافا للطريقة المتبعة في صناعة المعاجم العربية، والتي تعتمد على جذور الألفاظ كمداخل، ثم عرض ما يشتق من هذه الجذور من مفردات. وواضح أن هذه الطريقة الألفبائية أبسط وأسهل، لأنها لا تتطلب، لاستعمال القاموس، من مستوى تعليمي سوى معرفة قراءة الحروف العربية، عكس طريقة المداخل الجذرية التي تتطلب حدا أدنى من التكوين في العربية. وقد لا يكون مبرر اختيار هذه الطريقة الألفبائية كون القاموس خاصا بلغة “عامّية”، وموجّها لمستعملي هذه اللغة ممن لا يتقنون بالضرورة العربية. فقد يكون هناك مبرر آخر لهذا الاختيار، مثل اعتبار الدارجة لغة مستقلة عن العربية، ويجب بالتالي التعامل معها معجميا بطريقة تناسب وضعها، وتختلف عن طريقة المعاجم العربية.
لكن إذا كانت الدارجة مستقلة عن العربية، وهو شيء لا أشك أن المؤلفين يختلفون حوله، إلا أنهم لم يتخلصوا من الفكرة الشائعة، العامّية وغير العلمية (حتى عند العديد من علماء اللسانيات)، التي تربط الدارجة بقبائل عربية. هكذا نقرأ في المقدّمة أن: «اللهجة “العروبية” كا تواجد على الساحل الأطلسي اللي كا يعرف كثافة سكانية مرتفعة. وهي الجهة المعروفة باللهجات العربية اللي من أصول هلالية» (صفحة. 9). وهذا ما حدا بهم إلى اعتبار هذه الدارجة «اللغة العربية الأم» (صفحة 19) للمغاربة الذين يستعملونها كلغتهم الفطرية الأولى، مكررين بذلك نفس الأخطاء، الشائعة كـ”بديهيات” لا تناقش، حول طبيعة وحقيقة وموطن نشأة الدارجة. ولهذا فهم يحصرون علاقة الدارجة بالأمازيغية، كما هو شائع في اللسانيات “العامّية”، في ظاهرها الخارجي الذي تمثّله الكلمات والألفاظ ذات الأصل الأمازيغي، والتي تشكل جزءا من معجم الدارجة. وهو ما عبّروا عنه بكون الدارجة نتيجة «لامتزاج الكلمات العربية المغربية والأمازيغية بكلمات من أصل أجنبي، وأخرى فصيحة»، دون التوقف عند تراكيب ومعاني الدارجة التي هي ترجمة حرفية لمثيلاتها الأمازيغية (انظر: “متى يكتشف المغاربة لغتهم الدارجة؟” على رابط “تاويزا: http://tawiza.byethost10.com/1tawiza-articles/arabe/darija.htm)، مما يكشف أن العلاقة بين الاثنتين ليست فقط علاقة معجمية، بل هي علاقة سببية وتكوينية، أي أنه لولا الأمازيغية ومستعملوها الأمازيغيون لما كانت هناك هذه اللغة التي نسميها الدارجة.
هذا التجاهل للدور التكويني الخلاق (لولا الأمازيغية لما وجدت الدارجة) للأمازيغية في علاقتها بالدارجة، يفسّر لماذا بقيت بعض مواد المعجم ملتبسة لم تُوضّح، ولم تُشرح بما فيه الكفاية لرفع اللبس الذي يشوبها. فمثلا نجد المعجم يشرح كلمة “راس” كما يلي: «الهامة، الجمجمة، أعلى الجسد […]. راس المال: قدر ديال الفلوس اللي كترو ج شي شركة […]. راس الحربة: متزعم شي حركة […]. راس الحانوت: مجموعة د العطرية مطحونة ومخلّطة». نلاحظ أن شرح معنى “راس” قد أحاط بكل دلالات هذه المفردة، بما فيها المعنى الحقيقي والمعاني المجازية الأخرى. لكن عندما نبحث عن معنى كلمة “سوق”، يورد المعجم معناها الذي تؤدّيه العبارة المسكوكة “سوق الراس”، ، والذي يشرحه بـ«شغل الواحد والأمور اللي كا تهمه بالخصوص»، موضحا لذلك المعنى بالمثالين التاليين: «ما بغاش يدخل سوق راسه. اخرج من هذ السوق ودّيها في راسك». نلاحظ إذن أن “راس” تتضمن، في هذه الأمثلة الخاصة بكلمة “سوق”، معنى آخر جديدا غير مذكور في مادة “راس”. وهو ما قد يخلق التباسا لدى الباحث عن معنى “راس” عندما يفاجأ بهذا المعنى الجديد الذي أهمله المعجم في عرضه لمعاني “راس”. ولأن المعجم ربط هذا المعنى الجديد (جديد لأنه مذكور عرَضا بصدد مادة “سوق” وليس مذكورا ضمن معاني الكلمة الأصلية التي هي “راس”) باستعمال كلمة “سوق”، من خلال العبارة المسكوكة “سوق الراس”، فإن هذا الربط ـ التخصيص ـ يغلّط مستعمل المعجم عندما يعتقد أن هذا المعنى، غير المذكور ضمن معاني كلمة “راس”، هو مقصور على استعماله بجانب كلمة “سوق” فقط. وهذا غير صحيح طبعا، لأن كملة “راس”، بهذا المعنى المرتبط بكلمة “سوق”، شائعة الاستعمال في الدارجة وفي سياقات واستخدامات مختلفة لا علاقة لها بكلمة “سوق”، كما في: “جا هو براسو”، “قتل راسو”، “جابها فراسو”، “دبّر على راسو”، “حظي راسك”… وواضح أن “راس” تعني في هذه الأمثلة “الشخص نفسه”، “هو نفسه”،” هو ذاته”، وهو معنى أمازيغي مترجم حرفيا من الأمازيغية. هذا التجاهل لمعنى أساسي لكلمة “راس” في الدارجة، شائع وكثير الاستعمال، يرجع إذن إلى الجهل بالدور الأساسي ـ بل التأسيسي ـ للأمازيغية في وجود ونشأة الدارجة.
ونفس الالتباس نلاحظه بخصوص كلمة “حتّى”، التي يشرحها المعجم هكذا: «”حرف كا يعني” إلى حدّ، إلى غاية: طلع حتى لراس الجبل. كا يصومو المسلمين من طلوع الشمس حتى للغروب ديالها. حتى واحد ما جا». إذا كان المثال الأول (طلع…) والثاني (كا يصومو…) مطابقين للمعنى المحدّد للفظ “حتّى” كما شرحه المعجم (إلى حدّ، إلى غاية)، فإن المثال الثالث (حتى واحد ما جا) لا علاقة له إطلاقا بهذا المعنى، إذ أن هذه الجملة/المثال لا تعني البتة “إلى حدّ، إلى غاية”، وإنما تعني “لا أحد جاء، لم يأت أحد”. وإذا كان المؤلفون قد وقعوا هنا في التباس يؤدّي إلى خطأ مؤكد في ما يتعلق بمعاني “حتّى”، فذلك لأنهم لم يستحضروا الأصل الأمازيغي لهذا التعبير الدارج (حتى واحد ما جا)، الذي هو ترجمة حرفية لهذا الأصل الأمازيغي: “أولا د يان أور ديويض”. هذا التغاضي عن إدراك واستحضار الدور التأسيسي للأمازيغية في نشأة الدارجة، كما أشرت، يفسّر هذا النوع من الالتباس والأخطاء في فهم العديد من الألفاظ والتعابير المستعملة في الدارجة.
ولا يرجع هذا التغاضي إلى جهل المؤلفين بالأمازيغية، لأن فيهم من يتقنها كلغته الفطرية الأولى مثل الدكتور خليل امغرفاوي منسق فريق المؤلفين، بل قد يرجع إلى القناعة الخاطئة لديهم ـ والشائعة كبديهية كاذبة عند العديد من اللسانيين ـ بأن الدارجة منتوج لسني عربي، خلقه وأبدعه العرب. أما اعتبارها منتوجا صنعه وأبدعه الأمازيغ، فهو شيء خارج المفكّر فيه. ولم يكن مطلوبا من المؤلفين، عندما يكون معنى الكلمة أو التعبير ذا أصل أمازيغي، أن يذكّروا تصريحا بهذا الأصل. وإنما كان عليهم، وهذا هو المطلوب في كل معجم، أن يذكروا معاني الكلمة دون إيقاع القارئ في الخطأ أو الالتباس، كما فعلوا في العديد من الكلمات والتعابير التي ذكروا معناها، الذي هو أصلا أمازيغي، دون الإشارة إلى أنه كذلك بكتابة علامة (مز)، التي خصّوها لما هو ذو أصل أمازيغي، كما نقف على ذلك بخصوص كلمات مثل: “حل” بمعناها الأمازيغي (فتح شي حاجة كانت مسدودة)، و”شدّ” بمعنييهما المترجمين من الأمازيغية (“اغلق، سد باب أو سرجم أو أي حاجة مفتوحة”، “قبط بشي حاجة أو شي واحد”)، و”حْضي” (احرس، ردّ البال، راقب: احض راسك) التي هي كلمة أمازيغية، والتعبير “باغي غير يسافر ويبدل الجو”، الذي يستمدّ معناه من أداة “غاس” الأمازيغية التي ترجمت بـ”غير”، والتي لا علاقة لها بأداة الاستثناء العربية المعروفة بـ”غير”…
وقد نتج عن هذا التجاهل لدور الأمازيغية في تشكّل معاني وتراكيب الدارجة، ليس فقط تلك النواقص التي أشرنا إليها، والمتمثّلة في وجود التباس وأخطاء في شرح معاني العديد من الكلمات والتعابير، بل نتج عن ذلك أيضا أن المعجم لم يستوف كل المعاني الحقيقية والمجازية، المتداولة بشكل واسع وشبه يومي، لكثير من الكلمات الدارجة، مثل: “حلف” التي لم يذكر معناها الذي يفيد “التهديد” كما في عبارة “حلف فيه”، و”مشى” التي لم يذكر معناها الذي يفيد “ضاع” و”اختفى” كما في عبارة “مشاو لو حوايجو فسّوق”، و”خرج” التي لم يذكر معناها الذي يفيد “المآل والنتيجة” كما في عبارة “خرجت لو طّوموبيل زوينا”، و”جرى” التي لم يذكر معناها الذي يفيد “طرد” و”أبعد” كما غي عبارة “جرى عليه من الدار”، و”طاح” التي لم يذكر معناها الذي يفيد “صادف ووجد”، كما في عبارة “طاح فمرا زوينة “، أو معناها الثاني الذي يفيد “الكلفة النهائية” كما في عبارة “طاحت عليه الدار بخمسين مليون”، و”ضرب” التي لم يذكر معناها الذي يفيد “أكثر وأفرط” كما في عبارة “ضرب كيلو حوت بوحدو”، “ضربها بنعسة ما ناض حتى لمغرب”… وأكرر أنني لا أقصد أنه كان يجب على المعجم أن يحتوي بالضرورة كل المعاني، الحقيقية والمجازية، التي تؤدّيها كل كلمة، وهو ما يتطلب مجلدات، وإنما أقصد تلك المعاني الكثيرة الاستعمال والتداول، كما في الأمثلة التي استشهدت بها، والتي يكون، بالتالي، تضمّنها في المعجم إغناءً لمضمونه ومفيدا لمستعمليه.
وهم “العربية الوسطى”:
الدارجة، كما سبق أن قلت، ورغم ارتباطها المعجمي بالعربية، فهي تشكل لغة قائمة بذاتها ومستقلة عنها. لكن يبدو أن أحد أهداف القاموس هو إلغاء هذه الاستقلالية، وذلك عن طريق “الرقيِّ” بالدارجة نحو مستوى العربية، و”النزول” بهذه الأخيرة قليلا في اتجاه مستوى الدارجة، بغية ـ كما يقول المؤلفون ـ «ردم الهوة بين الدارجة والفصحى» (صفحة 13)، للوصول في النهاية إلى ما يسمّونه بـ”العربية الوسطى” التي يعرّفونها، نقلا عن أحد الكتّاب، كما يلي: «يمكن وصف العربية الوسطى بأنها اللغة اللي كا يستعملو المتعلمين منين كا يتحاوروا بيناتهم أو مع متعلمين آخرين من بلدان عربية أخرى. والسمة الرئيسية لهذه العربية هي أنها كا تحذف بشكل عفوي كل الخصائص والسمات الإقليمية اللي من المحتمل أن الناطقين بلهجات أخرى ما يفهموها شي» (صفحة 14). ويوضّحون ذلك بالأمثلة التالية: «يمكن لمتعلم مغربي أو عربي يقرا على سبيل المثال مقال على “اللقاح” في جريدة أو على الأنترنيت، أو يسمع على “اللقاح ضد نزلة البرد” على قناة إذاعية أو تلفزية. ولكن منين كيتكلمو زوج المتعلمين في هذا الموضوع كا يستعملو بعض الأشكال اللغوية اللي يمكن نقولو أنها الفصحى ممزوجة بواحدة من اللهجات المحلية. تحديد ما إلا كانت هذه المفردات [الجو]، و[الثلج]، و[صحة الطفل]، و[اللقاح ضد نزلة البرد]، طبيب الأطفال]، و[صيدلية الحراسة] كاتنتمي إلى اللهجة أو الفصحى، كا تتوقف في الحقيقة على نطق “ثلج” بالتاء عوض الثاء [تلج]، و”نزلة البرد” كا تنطق [النّزلة] أو [البْرد]. اللي كا يجعلنا نعتبرو المفردات لهجة هو النطق ديالها بالحركة المركزية [الحركة المختلسة [ Ə ] عوض الحركات التامة [فتحة، وكسرة وضمة]، بالإضافة لغياب العلامات الإعرابية في آخر الكلمات» (صفحة 15). ويختمون كخلاصة واستنتاج أن «هذا السلوك اللغوي اليومي ديال الناطقين بالعربية المغربية كا يردم الفجوة بين السجلين وكا يأسس لغة “منتصف الطريق”، اللي انبثق منها اسم “العربية الوسطى”» (صفحة 15).
هذا السعي لـ«ردم الهوة بين الدارجة والفصحى» باستعمال “عربية وسطى”، ينمّ عن تصور ميكانيكي للعلاقة بين العربية والدارجة، وعن فهم ناقص لطبيعة وحقيقة العربية والدارجة. هذه بعض مظاهر هذا التصور الميكانيكي وهذا الفهم الناقص:
ـ بالنسبة لأصحاب هذا المشروع ـ مشروع “العربية الوسطى” ـ يكفي أن يستعمل المتحدّثون بالدارجة مفردات ومفاهيم تنتمي إلى معحم الفصحى، لتتحوّل هذه الدارجة إلى “عربية وسطى”، كالتي يستعملها في حديثهما متحاوران متعلّمان. مع أن الدارجة منذ أن نشأت وهي تستعمل معجما ينتمي إلى العربية الفصحى في أكثر من سبعين في المائة من مفرداتها، دون أن يجعل منها ذلك “عربية وسطى”. حسب هذا التصوّر، تكون إذن هذه العبارة :”الدولة للي ما فيهاش العدالة، ما كايحسش فيها الإنسان بالكرامة ديالو كمواطن” (الدولة التي تنعدم فيها العدالة لا يشعر فيها الإنسان بكرمته كمواطن)، مصاغة بـ”عربية وسطى” لأن المتحدّثين بها متعلّمون يستعملون مصطلحات ومفاهيم من الفصحى. وبنفس المنطق ستكون هذه العبارة الأخرى: “ضربو لْفم هرّس لو ثلاثا ديال سنان” (ضربه في الفم فكسّر له ثلاثة أسنان) لغة دارجة، فقط لأنها لا تستعمل مصطلحات ومفاهيم من الفصحى لأن المتحدّثين بها غير متعلّمين. فهل هذا صحيح؟ هل الجملة الأولى “عربية وسطى” والثانية دارجة فحسب؟ فإذا كانت الجملة الأولى “عربية وسطى” لأنها تستعمل مفردات من العربية الفصحى، فسيكون كذلك التعبير الثاني “عربية وسطى” لأنه يستعمل مفردات هي من صميم الفصحى (ضرب، فم، هرّس، ثلاثة، أسنان). وكذلك إذا كان هذا التعبير الثاني دارجا فقط رغم أنه مصاغ بمفردات من العربية الفصحى، فسيكون الأول هو أيضا دارجا رغم أنه يستعمل مفردات من المعجم الفصيح.
الخطأ الذي وقع فيه المؤلفون هو اعتمادهم على مفردات الفصحى كمعيار للتمييز بين “العربية الوسطى” والدارجة، كما لو أن هذه الأخيرة لا تستعمل نفس المعجم المنتمي إلى الفصحى، وهو ما قد يُفهم منه أنهم يختزلون اللغة في المفردات، مع أن هذه الأخيرة لا تشكّل لوحدها اللغة من دون الأدوات النحوية وحروف المعاني والربط، وهي موجودة في التعبير المعتبر “عربية وسطى” (الاسم الموصول “للي”، حرفا النفي “ما” “ش” في “مافيهاش”، حرف “كا” الدال على الزمن الحاضر، حرف النفي “ش” في ما “كا يحسش”، أداة النسبة إلى المتكلم “ديالو”). وهذه الأدوات والحروف، هي ما يجعل من الدارجة لغة دارجة وليس المفردات المستعملة. لأن إذا كانت تلك المفردات تجعل من التعبير “عربية وسطى”، فقد تجعل منه أيضا “فرنسية وسطى” بالنسبة للمتعلم المفرنس، الذي يعبّر عن نفس المعنى بكلمات فرنسية هكذا: “ليطا (الدولة) للي ما فيهاش لاجوستيس (العدالة)، ما كايحسش فيها الإنسان بلادينيتي (الكرامة) ديالو كوم سيتوايان (كمواطن)”. فرغم أن هذا الكلام يستعمل مفردات فرنسية فصيحة وراقية، إلا أن ذلك لا يجعل منه فرنسية متوسطة، بل يبقى كلاما دارجا لأن أدواته النحوية وحروف المعاني والربط تنتمي إلى قواعد اللغة الدارجة وليس الفرنسية. ولهذا فإن هذا التعبير: “الدولة للي ما فيهاش العدالة، ما كايحسش فيها الإنسان بالكرامة ديالو كمواطن”، هو تعبير باللغة الدارجة وليس بـ”العربية الوسطى”.
ـ وحتى إذا افترضنا أن هذه الدارجة، التي تحتوي على مصطلحات ومفاهيم مجرّدة خاصة بالفصحى، وتُستعمل ـ بسبب ذلك ـ من طرف المتعلّمين والمثقفين، هي “عربية وسطى”، فإنها لن تكون لغة طبيعية وفطرية اكتسبت كلغة أم، بل ستكون لغة مدرسية تُعلّمت ـ ولم تكتسب مثل اللغة الأم ـ في المدرسة كأي لغة غير فطرية (لغة الأم)، مما سيجعل استعمالها مقصورا على المتعلمين والمثقفين، وبالتالي فهي ـ لهذا السبب ـ لغة مختلفة عن الدارجة، التي هي لغة فطرية تُكتسب ولا تُتعلّم.
ولا يمكن الاعتراض بأن هذا هو حال كل اللغات الحية التي تدرّس، كالإسبانية والفرنسية والألمانية الإنجليزية…، حيث يكون مستواها المدرسي مختلفا عن مستوى اكتسابها واستعمالها الفطريين (كلغة أم). هذا غير صحيح لأن الاختلاف، في ما يتعلّق بمثل هذه اللغات، يخص فقط المفردات الجديدة (المصطلحات والمفاهيم) المعبّرة عن الأفكار الجديدة التي يتعلّمها التلميذ في المدرسة، حيث يتوسّع معجمه اللغوي موازاة من توسّع أفكاره، نتيجة للتلازم القائم بين اللغة والفكر. فالتلميذ، في حالة هذه اللغات، لا يتعلّم لغة جديدة، وإنما يتعلم مفردات جديدة (مفاهيم ومصطلحات) داخل نفس النسق اللغوي الذي اكتسبه كلغة أم، بحيث تكون لغة المدرسة استمرارا وتطورا للغة الأم. أما التلميذ المغربي، الذي تكون لغته الأم هي الدارجة، فإنه لا يتعلم في المدرسة فقط مفردات جديدة داخل نفس النسق اللغوي للدارجة، وإنما يتعلم نسقا لغويا جديدا مختلفا، هو النسق اللغوي للعربية الفصحى، الذي يستعمل تراكيب وقواعد وأدوات نحوية وحروفا للمعاني والربط مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي يستعملها النسق اللغوي للدارجة. وهذا ما تنتج عنه قطيعة ـ وليس استمرارية ـ بين لغة البيت ولغة المدرسة. وهذه القطيعة “اللغوية” هي السبب الأول لفشل نظام التعليم ببلادنا.
النتيجة أن ما يسمّيه مؤلفو القاموس بـ”العربية الوسطى”، التي ينتظرون منها أن تردم «الهوة بين الدارجة والفصحى»، وتجعل «اللغة العربية حاضرة وحية وقريبة من اللغة الأم» (صفحة 14)، كما كتبوا، ليست إلا الدارجة نفسها، مع احتوائها مفاهيم ومصطلحات مدرسية يستعملها المتعلّمون والمثقفون. ولهذا فالهوة بين اللغتين، العربية والدارجة، بحكم أن العربية لغة كتابة وليست لغة تخاطب في الحياة اليومية، هي هوة أبدية يستحيل ردمها لاستحالة أن تعود العربية لغة تخاطب في البيت والشارع.
ـ ثم إذا كانت هذه “العربية الوسطى” خاصة بالذين يجيدون العربية، التي يستعملون مصطلحاتها ومفاهيمها المجردّة عند حديثهم بهذه “العربية الوسطى”، فما الذي يمنعهم من الحديث بالعربية الفصحى نفسها، التي تعلّموها ويستطيعون التحدث بها، كما يفعل من تعلّم الفرنسية أو الإسبانية أو الإنجليزية مثلا؟ الجواب: لأن العربية فقدت وظيفة التخاطب الشفوي في الحياة، وأصبحت وظيفتها مقصورة على الاستعمال الكتابي فقط. لهذا فهي لا تملك إلا مستوى واحدا، هو مستوى اللغة الكتابية المدرسية، وبذلك فهي لغة نصف حية أو نصف ميتة، عكس اللغات ذات الوظيفة الشفوية بجانب وظيفتها الكتابية، كالفرنسية والإسبانية والإنجليزية…، والتي تملك، بالإضافة إلى مستواها الكتابي المدرسي، مستوى عامّيا يستعمل في التخاطب الشفوي، ينشأ تحت إكراهات التواصل الشفوي اليومي، ويُكتسب كلغة أم. والفرق بين المستويين هو فرق بين الاستعمال الكتابي والاستعمال الشفوي في التخاطب اليومي، لكن داخل نفس اللغة الواحدة، وبنفس القواعد التركيبية والنحوية لتلك اللغة، مع اختلاف فقط في نسبة من الألفاظ قد تُستعمل في أحد المستويين ولا تُستعمل في المستوى الآخر. وهو فرق لا علاقة له إطلاقا بالفرق الموجود بين الدارجة والعربية، الذي هو فرق بين لغتين اثنتين، مختلفتين ومستقلتين إحداهما عن الأخرى. ولهذا فمن غير المعقول، منطقيا وواقعيا ولسنيا، الحديث عن مستوى “العربية الوسطى” يكون خاصا بالاستعمال الشفوي، قياسا على المستوى العامّي لمثل تلك اللغات التي أشرنا إليها، وذلك لأن العربية، كما قلنا، لا تعرف إلا مستوى واحدا هو المستوى الكتابي، سواء سميناه بالمستوى الفصيح أو المدرسي أو الأكاديمي أو الأدبي، لأنها فقدت، كما بينّا، وظيفة التخاطب في الحياة اليومية، والذي تؤدّي ممارسته إلى ظهور مستوى عامّي شفوي مختلف قليلا عن المستوى الكتابي المدرسي لنفس اللغة.
ـ أما القول إن شكل النطق بالمفردات المستعملة في “العربية الوسطى”، هو الذي يحدّد ما إذا كانت تلك المفردات تنتمي إلى اللهجة أو الفصحى، مثل نطق “ثلج” “تلج”، فهو أولا، بلغة المرافعات القضائية، وسيلة غير مجدية، لأن طريقة نطق الحروف، بالنسبة لأية لغة موحّدة، تختلف قليلا أو كثيرا من جهة إلى أخرى، ومن منطقة إلى أخرى، بل حتى من شخص إلى آخر كأن يكون المعني بالنطق قد فقد أسنانه، أو أصيب بزكام حادّ، أو بمرض في حلقه أو حنجرته أو لسانه… وبتتبّع نشرات الأخبار بالفصحى على الفضائيات العربية، نكتشف اختلافا في نطق بعض الحروف من منطقة عربية إلى أخرى، رغم أن العربية الفصحى المستعملة في هذه النشرات هي لغة واحدة وموحّدة. والاختلافات النطقية الطفيفة لنفس اللغة من جهة إلى أخرى، ظاهرة عامة موجودة داخل كل بلد. ففي فرنسا، مثلا، نلاحظ بسهولة أن نطق فرنسيي منطقة مارسيليا يختلف عن نطق الباريزيين، مع أنهم جميعا يتحدثون نفس اللغة الفرنسية.
وهو (القول) يعبّر، ثانيا، عن سوء فهم لطبيعة اللهجة وللاختلاف بينها وبين اللغة، إذ يعتبر اختلاف النطق معيارا للتمييز بينهما. وهذا غير صحيح طبعا، وإلا لكان نطق “ثاء” “الثلج” “تاء” في هذه الجملة الفصيحة: “يتسبب الثلج في ارتفاع درجة البرودة”، سيجعل منها لهجة مع أنها عربية فصيحة. أما معيار التمييز بين اللغة واللهجة فيبقى هو المدرسة، مما يسمح بتعريف اللغة بأنها “لهجة” تُدرّس، الشيء الذي يرتقي بها إلى مستوى الاستعمال الكتابي، وبتعريف اللهجة بأنها “لغة” لا تُدرّس، الشيء الذي يبقيها شفوية لا تستعمل في الكتابة.
طريقة كتابة الدارجة فرع من تصوّرها:
(يُتبع)