
حزب العدالة والتنمية والانتقال الصعب

يعيش حزب العدالة والتنمية انتقالا سياسيا تعددت توصيفاته سواء من قبل قيادته و أعضائه أو من لدن الباحثين والمهتمين الأكاديميين والإعلاميين، فأبناؤه وصفوا ما يحدث بمفردات “الزلزال” و”الفتنة” و”الأزمة” الأخطر في تاريخ الحزب، بينما صنَف آخرون واقعه الداخلي المضطرب بعد قرار الإعفاء الملكي لبنكيران في 15 مارس 2017 بكونه نتيجة رد فعل طبيعي عن قرار سيادي قاس لإنهاء مسار سياسي مثير للجدل لزعيم شعبوي مزعج للأعراف والتوازنات التقليدية المتحكم فيها داخل الحقل السياسي المغربي، وفي الحقيقة فإن لهذا التوصيف الأخير على قسوته نصيب وافر من الحجية يكتسبها من موجة الإعفاءات السياسية المتناسقة التي طالت العديد من الرموز السياسية التي صارت غير مرغوب فيها من قبل صناع القرار ( مزوار، شباط، بن عبد الله) في ظل ترتيبات ضبط المجال السياسي والمؤسساتي لما بعد مفاجأة نتائج انتخابات السابع من أكتوبر 2016 ، نحو المزيد من قتل السياسة والتمكين للشخصيات التقنوقراطية والإدارية الخانعة التي تشكل على سبيل الذكر لا الحصر شخصية الأمين العام الجديد لحزب الاستقلال نزار بركة نموذجا جليَا لها في هذا الباب. ويظل هذا الخيار التقنوقراطي المجرَب منذ عقود حاملا لعلامات الفشل سواء في المنطق الديمقراطي أو بميزان القبول الشعبي، لكونه يترجم إجابة خاطئة عن أزمة النخبة الحزبية بالمغرب التي ترهلت وأنهكت لأسباب ذاتية وموضوعية ترتبط في مجملها بأزمة المصداقية والأخلاق السياسية هي من أعراض مرض ذات النخبة ضمن بنية نسق سياسي مختل.
آراء أخرى
الوضع الحالي لحزب العدالة والتنمية بجميع تفاصيله وتطوراته لا يتعلق بخلاف سياسي وقانوني حول قضية التمديد لعبد الإله بنكيران أو إلغاء عضوية الوزراء في الأمانة العامة وقبلها حول سردية المشاركة في الحكومة بقيادة سعد الدين العثماني، بل هو نتيجة تراكمات متعددة هي في الخلاصة تعبير عن انتقال صعب يعيشه الحزب مسَت بنيته الحزبية على مستوى نمط القيادة وفي سوسيولوجية نخبه وثقافتها السياسية وفي طبيعة علاقة بعض رموزه بالدولة، كما برزت صعوبة المرحلة الانتقالية بإكراهاتها ومخاضها على الوضع الكلاسيكي المحافظ للحزب في فجائية تغير الموقع السياسي من معارضة هوياتية محدودة إلى قيادة الحكومة في سياق سياسي استثنائي في تاريخ المغرب المعاصر أثر على ارتباك الموقف السياسي للحزب المؤسس على سردية مواجهة التحكم، التي فقدت حيويتها التفسيرية والتعبوية لمعظم أعضاء الحزب بفعل التطورات السياسية القاسية التي تلت فوزه المستحق بـ 125 مقعد بمجلس النواب في انتخابات السابع من أكتوبر2016.
– البنية الحزبية: من قيادة الأقران إلى ظاهرة الزعيم.
عرف حزب العدالة والتنمية على مستوى نمط بنيته الحزبية انتقالا كبيرا في نمط قيادته وسوسيولوجية نخبه وثقافتها السياسية، فانتقل أسلوب القيادة من وضعه التاريخي القائم عمليا على القيادة الجماعية للأقران بين الجيل الأول المؤسس للتجربة، إلى بروز ظاهرة “الزعيم” مع السيد عبد الإله بنكيران، وقد أسهمت في هذه المعادلة الجديدة ظروف السجال والصراع السياسي والإعلامي الذي جعلت بنكيران بمهارته الخطابية ولغته البسيطة المفعمة بعناصر الفرجة والإثارة في قلب الحدث السياسي الوطني، خاصة مع تزايد الطلب على السياسة بعد حراك 20 فبراير2011، بالإضافة للنجاح الإعلامي في تسويق خطب الزعيم وصورته، الذي أتقنته الشبكة الإعلامية للحزب على صعيد مواقع الإعلام الجديد، في تزامن مع تطور حصيلته الانتخابية في الانتخابات الجهوية سنة 2015 وانتقالها من 107 مقعدا سنة إلى 125 مقعدا سنة 2016 في الانتخابات التشريعية ، فلم تنتبه القيادة الجماعية للحزب في عز نشوة الانتصار في السجال و”البوليميك” السياسي مع حزب الأصالة والمعاصرة، وفي خضم نجاح المهرجانات السياسية والانتخابية لبنكيران في أكثر من مناسبة بأنها تؤسس لانقلاب كبير على تراث الحزب وأعرافه في نمط القيادة من خلال استفراد الأمين العام للحزب بتأطير المهرجانات الانتخابية لسنتي 2015 و2016، والتي هي طالما عزت تميزها عن تجارب حركية إسلامية أخرى بكونها بنت مجدها التنظيمي على قيادة الأقران بعيدا عن مفاهيم المشيخة والزعامة، وإذا بالحزب يصنع مشيخته في حقل السياسة على علته ومصالحه ونسبيته؟؟.
لم تواجه البنية الحزبية التقليدية هذا الانتقال إلا بعد تدخل خارجي في توجيه قرار الحزب بعد تنحية بنكيران بقرار ملكي وتكليف سعد الدين العثماني برئاسة الحكومة عوض عنه في مارس 2016 بعد ستة أشهر من الانحصار السياسي المرتَب في مفاوضات تشكيل الحكومة، فالبنية الحزبية الصانعة لظاهرة الزعيم كانت تمهد للتمديد لولاية ثالثة مع استمرار بنكيران في رئاسة الحكومة، لكن جاءت رياح النظام بما لم تشتهه سفينة الحزب، فأدى الحزب ضريبة هذا الانتقال وتداعياته بتوقف انعقاد الأمانة العامة لمدة من الزمن ووقوع سجال سياسي وقانوني وتقاطب حاد أبانت عنه مخرجات لجنة الأنظمة والمساطر وقرار المجلس الوطني للحزب المنعقد في26 نونبر2017. ويبدو أن مسار هذا الخلاف السياسي مرشح للتغلغل أكثر في دواليب الحزب وبين نخبه إن لم يعالج بالتأسيس لحوار داخلي عميق يتجه لتطوير البنية التنظيمية للحزب في أفق تعميق التحديث والدمقرطة وتكوين النخب الحزبية الجديدة، خاصة وأن الحزب انتقل من جماعة مغلقة إلى حزب مفتوح على الإعلام والرأي العام بحكم منطق الوقت وروح العصر القائم على السيولة الإعلامية وتزايد الطلب على الديمقراطية.
-الموقع السياسي: من المشاركة المحدودة إلى فجائية رئاسة الحكومة.
ظل مسار المشاركة الانتخابية لإسلاميي المؤسسات منذ دخولهم العمل المؤسساتي الرسمي في منتصف التسعينيات عبر معبر حزب الحركة الشعبية الدستورية بزعامة الخطيب موسوما بالمحدودية والضبط السياسي من قبل السلطة، بله والانضباط الذاتي بدعوى التدرج في المشاركة الانتخابية، وقد استحضرت في تبرير ذلك معطيات التجربة الجزائرية والنفوذ الفرنسي بالمغرب، كما استحضر في إقناع القواعد والمتعاطفين فقه ابن تيمية وفتاوى الشيخ يوسف القرضاوي، فكانت المشاركة الانتخابية جزء من فقه الدعوة ومتطلباتها، وهو ما انعكس في طبيعة وهوية معارضة الحزب في البدايات الأولى لفريقه البرلماني إذ طغى عليها وقتئذ الطابع الأخلاقي والهوياتي والدعوي، مع تطور الممارسة النيابة صار الحزب أكثر احترافية في المعارضة التي تحولت إلى مناقشة ومعارضة التدبير ضمن تحول من أطروحة الهوية إلى التدبير.
استمرارية خيار المشاركة المتحكم فيها تسارعت محنته مع تأسيس حزب الاصالة والمعاصرة وانحياز الإدارة له في أكثر من مناسبة، مما كرّس مظلومية الحزب لدى الرأي العام، ولم يخرج من هذا الوضع الدراماتيكي إلا مع منعطف ثورات الربيع العربي ونسخته المغربية حركة 20 فبراير 2011، التي أسهمت في تبوئ الحزب الرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية في سنة 2011. وهو ما كان له وقع المفاجأة على طبيعة الثقافة السياسية للحزب وعلى جمهرة نخبه، التي اتسمت مواقفها أكثر بالمحافظة السياسية تجاه خيار تطوير النظام السياسي، وصمتت عن تغول المسلكيات السلطوية في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والحقوقية.
وزاد من ترسيخ منسوب المحافظة السياسية تجاه متطلبات تطوير النظام السياسي، فجائية هذا التحول الذي نقل الحزب من اخشوشان المعارضة الدعوية إلى ترف الدولة وأبهتها بتعبير الحكيم ابن خلدون، فتملك حزب العدالة والتنمية لـنخبة وزارية وازنة وسفير وحاشية مهمة من أعضاء الدواوين الحكومية، ثم لـتمثيلية 125 نائب بمجلس النواب، وفريق بمجلس المستشارين و5000 مستشار جماعي، لم يكن أن يمر دونما إحداث أثر عميق على سوسيولوجية نخب الحزب ونمط تفكيرها السياسي، فصار الخوف من الصدام مع الدولة والحفاظ على مكتسبات الحزب والحركة والنقابة والنسيج الجمعوي في صلب العقل السياسي لمعظم نخبة الوزراء والمنتخبين والتقنوقراط داخل الحزب، وهذا ما يفسر تسويغ وتبرير المشاركة في الحكومة في ظل شروط أخنوش ومن معه، وتعبئة أعضاء المجلس الوطني لرفض التمديد “للزعيم المشاكس” بمبررات السياق الدولي وتفادي الاصطدام بالملك، ومن ثم صرنا أمام قيادات أكثر يمينية من بنكيران بتوظيفها للملك في صلب الخلاف الحزبي، على اعتبار أن بنكيران يمر بحالة نفسية خرجت به عن ” المنهج” الذي كان من أوائل مؤسسيه.
–الموقف السياسي: حماسة مواجهة التحكم وصدمة الإعفاء الملكي.
بنى حزب العدالة والتنمية مجده السياسي أمام الشعب على سردية مواجهة التحكم، في نفس الوقت الذي وطد علاقته بالدولة إبان غليان الشارع على أساس رفض الانخراط في الضغط على النظام خارج النسق المؤسساتي، وبهذه التوليفة التي بلغت حد التناقض كان رئيس الحكومة المعفى عبد الإله بنكيران يجمع بين القصتين ويصدح بسنفونيته المفضلة كل وقت وحين داخل قبة البرلمان وخارجه ضمن ما اصطلح عليه بلازمة ” الإصلاح في ظل الاستقرار”، قامت أطروحة مواجهة التحكم على هلاميتها بوظيفة تطمينية وتعبوية في صفوف أعضاء الحزب، وجعلتهم في وضعية إشباع نظري إزاء تعقيدات الوضع السياسي في البلاد، خاصة وان الحزب كان يصبغ على ما أسماه بالتحكم سمات سوريالية فتارة هو الحزب المعلوم وتارة هم التماسيح والعفاريت والدولة العميقة، مما أضاف عنصر التشويق والدراما على الخرجات الإعلامية لبنكيران الذي صار أشهر من نار على علم وصار ذكره على كل لسان خاصة في جلساته الشهرية بقبة البرلمان حيث برزت كاريزما الرجل وعنتريته على ” معارضة صاحب الجلالة” التي ارتضت لنفسها أن تعارض الحكومة لصالح الحكم.
صمدت حماسة وحيوية العرض السياسي للحزب القائم على المواجهة الكلامية والإعلامية “الدونكشوتية” في إسباغها للطابع الهلامي و اللا مرئي عن التحكم طيلة التجربة الحكومية الأولى بقيادة بنكيران، وانتهى مفعولها على وقع صدمة الإعفاء الملكي لبنكيران وتعيين العثماني رئيس المجلس الوطني للحزب رئيسا للحكومة في 17 مارس 2017، بعد أن تبين للحزب بأن التحكم في الحقل السياسي هو من الوظائف التقليدية للمؤسسة الملكية لحفظ التوازنات المرعية عندما لا تلتقط الإشارات، وقد كان لتذمر الملك في بعض خطبه من التصريحات السياسية المسيئة لصورة البلد والمؤسسات، ومنعطف “البلوكاج الحكومي” وقبله تعيين الحبيب الملكي رئيسا لمجلس النواب بمثابة إشارات عن عدم رغبة القصر في استمرار بنكيران على رأس الحكومة والحزب بنفس الأسلوب السجالي والدينامية داخل مشهد سياسي لازالت سلطة المخزن تحتفظ فيه بالغيرة من أي شريك ومنافس في الرمزية وتعاطف الناس.
نتج عن صدمة الإعفاء الملكي واستباق انعقاد المجلس الوطني للحزب يوم 18 مارس 2017 بتعيين د.سعد الدين العثماني على رأس الحكومة في تأويل مرجوح بكونه الرجل الثاني بالحزب، مع العلم بأن معظم التجارب الحزبية في العالم تعتبر نائب الأمين العام هو الرجل الثاني في البنية التنظيمية الحزبية، تقليص هامش المناورة داخل الحزب الذي اكتفى بتثمين تعيين العثماني وفتح في الآن نفسه أبواب الصراع والانقسام الحاد داخله، إذ لم يستطع أن يتفاعل بالعقلانية السياسية كالتي اتسم بها بلاغ الاتحاد الاشتراكي حول الخروج ” الخروج عن المنهجية الديمقراطية ” أو البلاغات الأخيرة لحزب التقدم والاشتراكية تفاعلا مع البلاغ الملكي المحتج على ما اعتبر إساءة للمستشار الملكي القوي عالي الهمة في حوار نبيل بنعبد الله مع أسبوعية الأيام ، أو في دفاع الحزب وترافعه عن الوزيرين بنعبد الله والوردي بعد إقالتهما إثر تداعيات حراك الريف وتعثر مشاريع الحسيمة منارة المتوسط.
وبالإضافة إلى إنهاء السردية الهلامية في مواجهة التحكم كان لقرار الإعفاء الملكي لبنكيران وقع سلبي على الكثير من أعضاء الحزب الذين أصيبوا بالإحباط من متتالية الضربات القاسية التي انطلقت منذ المسيرة الشهيرة المعروفة إعلاميا ” بمسيرة ولد زروال” بالدار البيضاء يوم 18 شتنبر 2016 قبل أيام قليلة من الانتخابات التشريعية. وكان من تداعيات هذا الإحباط من هشاشة خيار المشاركة الانتخابية ومن الانقلاب على الفوز الانتخابي الذي صار بطعم الهزيمة أن رفع مطلب التمديد لبنكيران وإلغاء عضوية الوزراء في الأمانة العامة كمسلك لمواجهة مخطط تنحية الزعيم قسرا من صدارة المشهد السياسي، مع تصاعد حدة الانقسام والصراع والاتهام بالتخوين والانبطاح أو الخروج عن “المنهج” ومحاولة الاصطدام بالملكية بين الفريقين المختلفين وهي مؤشرات عميقة عن صعوبة المرحلة الانتقالية التي يعيشها الحزب، والتي ستضع مستقبله بين خيارين: خيار التعافي والصمود عن طريق مأسسة الحوار الداخلي وصوغ أطروحة سياسية تجيب عن الإشكالات المطروحة مع إرساء تنظيم حزبي حديث قائم على تفعيل دورة النخب ولامركزية القرار والخروج من الثقافة السياسية المحافظة في اختيار القادة إلى تأسيس الاختيار على أسس البرامج والتعاقد لتجنب الاستنجاد الدوري بقيادة الحركة الدعوية لتطعيم الصف الأول في الحزب وفي الانتخابات، بينما ينبني خيار الضعف والتراجع على الإحراج الكبير الذي يتسبب فيه هامش السياسة بالمغرب سواء للمؤسسة الحكومية أو الحزبية، وعلى استمرارية الضبابية في الموقف السياسي وارتباك في البنية الحزبية إزاء هذا الوضع السياسي السلطوي، ومن ثمة يصير الحزب في أحسن أحواله حزبا حكوميا تدبيريا يضم نخبة سياسية تحترف المناصب وتنحاز للخيار التكنوقراطي وفق رؤية دينية تقليدية تؤمن بأن ما في الإمكان أبدع مما كان، كما هو مآل تجربة حركة مجتمع السلم الجزائرية.