قدم المجلس الأعلى للحسابات تقرير طبقا لأحكام الفصل 147 من دستور 2011 ولمقتضيات المادتين 44 و 45 من القانون التنظيمي رقم 29.11 المتعلق بالأحزاب السياسية يشمل التقرير تدقيق حسابات الأحزاب السياسية وفحص صحة نفقاتها برسم الدعم الممنوح لها للمساهمة في تغطية مصاريف تدبيرها وتنظيم مؤتمراتها الوطنية العادية خلال السنة المالية 2016

لقد عرف المغرب منذ فجر الاستقلال حياة سياسية صاخبة، شكلت الأحزاب السياسية فيها الدور الأساسي في عملية الدمقرطة والتنمية، نظرا لما كانت تعرف من قوة القرار ومصداقية الفعل لدى المواطن لكن الوضع لم يستمر حيث طال بعض الأحزاب السياسية كسل كبير و لم تفلح في تبني مسارات التحول الديمقراطي كما أخذ الضعف والوهن يدب في الهيكل الحزبي وإذا كانت أسباب ذلك متعددة، فإن أهمها، على الأرجح، تتعلق بتعطيل منهجية العمل الديمقراطي داخلها، وهو الأمر الذي ظلت عليه فديمومة الحزب و قوته لا تكتمل الا إذا كانت تجعل من الديمقراطية الداخلية منهجية لا محيد عنها .وبتعبير آخر، لا يمكن للأحزاب أن تتبنى قضية الديمقراطية إذا كانت هذه الأخيرة غائبة أو ضعيفة الوجود على مستوى الهياكل الداخلية للأحزاب.

جاء تقرير المجلس الأعلى للحسابات في سياق مرتبك نتج عنه ربط المسؤولية بالمحاسبة و ما خلفه  الزلزال السياسي من إجراءات تأديبية صارمة، كذلك حالة من الترقب المرتبط بالتعديل الحكومي المرتقب، الشيئ الذي جعل الأحزاب السياسية ملزمة بأن تدبير ماليتها بطرق سليمة و استرجاع ما تبقى منها إلى الخزينة العامة للمملكة، وبما أن التمويل العمومي للأحزاب السياسية يعتبر الألية التي تتيح إمكانية القيام بالمهام المنوطة بها والمتمثلة في التأطير والتكوين السياسي، وتدبير الشأن العام، وكذا التعبير عن إرادة الناخبين حسب الفصل السابع من دستور 2011، فإن مسألة تأطير هذه العملية بمجموعة من النصوص القانونية والضمانات كفيل بالحد من مجموعة من الظواهر التي تفسد الحياة السياسية والحزبية وتحيد بها عن أهدافها المتوخاة منها، حيث عملت الدولة  إلى دفع الأحزاب السياسية وخصوصا المعارضة منها إلى المشاركة في الحياة السياسية، تم إقرار الدعم العمومي للأحزاب السياسية وذلك لرفع الحظر عن عدم تقديم الدعم المالي من مالية الدولة، وذلك نتيجة فهم النظام لإشارات التحول في مواقف الأحزاب السياسية، جاء المقابل لتلك التنازلات في شكل دعم مالي للأحزاب السياسية ولحملاتها الانتخابية العامة الجماعية والتشريعية.

لكن رغم هذا التحول نستشف من خلال مضمون التقارير التي يصدرها المجلس الأعلى للحسابات أن من أصل أربعة وثلاثين حزبا أودع اثنان وثلاثون حزبا حساباته السنوية لدى المجلس، كما تخلف عن القيام بذلك حزبين، في حين لم تلتزم ثمانية أحزاب بإيداع حساباتها السنوية داخل الأجل القانوني، هذا مؤشر على ان نسبة الوعي بالمسؤولية لدى بعض الأحزاب لم تنضج بالقدر الذي يتماشى و خطابات جلالة الملك لاسيما خطاب العرش الذي قدم تقييم للوضعية السياسية للبلاد، كما تكشف التقارير عن غياب الإرادة السياسية لدى بعض السياسيين في مسايرة توجه الدولة المبني على الحكامة المالية و ترشيد النفقات العمومية، الشيء الذي يجعل من العمل السياسي لازال رغم محاولات اصلاحه يبقى متعثر لا من حيث تخي الأحزاب عن أدوارها وإخفاقها في تحقيق التواصل مع الناخب بغية تجويد الحياة السياسية، و لا من حيث ساهمتها بشكل كبير في تكريس الهوة بينها وبين المواطن ، وبالتالي أنتجت العزوف السياسي اكثر من محاربته، فالمواطن اليوم فقد الثقة في الأحزاب وفي العمل الحزبي ،وهذا ما تؤكده نسب المشاركة في الانتخابات عموما، بالرغم من ما تستفيد منه الأحزاب السياسية من مبالغ طائلة، غير أن هذه الأحزاب تبقى ضعيفة جدا في تأطير المواطن ، إن لم نقل مناسبتيه ، مرتبطة بالاستحقاقات ، لدرجة أن بعض الأحزاب السياسية في بعض المناطق  لا تفتح مقراتها إلا في المناسبات، و نتيجة لذلك فقد أصبح عدد من هذه الأحزاب مجرد مؤسسات منغلقة تغيب فيها مظاهر الشفافية و الممارسة الديمقراطية المطلوبة داخل نفسها , الأمر الذي انعكس كظاهرة أصبحت تعيشها بعض هذه الأحزاب و التي لم تستطع تطوير أدائها , بل إن بعضها ظلت تعيش ثمة أزمة مؤسسية على مستوى تدبير اختلافاتها الداخلية و بلورة وظائفها الاجتماعية و السياسية و التربوية المناط بها تعزيز و توطيد دعائم الشكل الحديث للدولة ولتلك العوامل فقد أدى ذلك لاحقا إلى بروز ظاهرة الانشقاقات داخل بعض الأحزاب و ضعف اكثرها

ما نستنتجه من تقارير المجلس الأعلى للحسابات ان بعض الأحزاب المغربية لازالت تكرس لنمط الاستفادة والاتكالية على خزينة الدولة مما يجعلها مستثمرة أكثر منها متطوعة في بلوغ أدوارها الوطنية و هذا ما يفسر حالة الارتباك العميق الذي تتخبط فيه داخليا حيث لازالت تعرف انغلاق بنيتها التنظيمية وعدم انفتاحها ليس فقط على المجتمع وطبيعة التحولات التي يعرفها، وإنما على النقاشات الداخلية، سواء كانت فردية أو جماعية، وهي الظاهرة التي ارتبط بها منطق الإقصاء والإقصاء المضاد، الأمر الذي يترك تأثيرا سلبيا على إنتاج الأفكار والمفاهيم، ونتيجة لكل هاته الأسباب وجب على الفاعل الحزبي مراجعة موقع حزبه داخل الحقل السياسي و جعله منسجم مع التغيرات التي تعرفها الدولة بما فيها قضية الصحراء المغربية و التوسع الافريقي و غيرها من الاوراش الكبرى