
مظاهرالتنوّع الثقافيّ فى المغرب وإحتفالات السّنة الأمازيغيّة

آراء أخرى
العاصمة الإسماعيلية الفيحاء مكناس ستزدان فى الأيام القريبة القليلة بهندام رشيق يليق بتاريخها التليد، وتراثها العتيد وذلك بمناسبة إختيارها لتكون مرّةً أخرى مقرّاً لإحتفالات السنة الأمازيغية الجديدة (2968) حيث يستعدّ “مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسّلم” – كما هو دأبه كلّ عام- ليعمل على أن تحتضن هذه المدينة التاريخية العريقة أيام 26-27-28 يناير2018 هذه الإحتفاليات بعقد ندوة تأسيسية في موضوع: حوار الثقافات وأسئلة الهوية” الغاية من هذه الندوة صياغة المبادئ العامة لإعلان خاص بدول شمال إفريقيا والشرق الأوسط سيتمّ إعتماده في إختتام ندوة دولية أخرى ستتنظم فى مطلع شهر مايو المقبل من العام الجاري بمدينة الرباط في نفس الموضوع،على أن يتوسع العمل لاحقاً على مناطق محيط دول شمال إفريقيا والشرق الأوسط ،ومن المنتظر أن يتخلل هذه الإحتفالات تقديم أشرطة سنيمائية، وعروض وثائقية ذات أبعاد تاريخية، وثقافية،وإبداعية ،وإقامة حفلات صاخبة بمشاركة فرق موسيقية معروفة ثم غالباً ما تختتم هذه الإحتفاليات بإطلاق الشّهب الاصطناعية.
وخلال إحتفالات السنة الأمازيغية الفارطة 2017 (2967) من تنظيم كلٍّ من “مركزالذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسّلم”الذي يرأسه الباحث عبد السلام بوطيّب ، و”جمعية أدرار للثقافة والرياضة تيكوين ” عرفت كلٌّ من مدينتي مكناس وأكادير تظاهرات كبرى تخلّلتها ندوات، وموائد مستديرة، وعروض سينمائية، ومعارض فنيّة، ولقاءات فكرية بين أساتذة، وكتّاب، ومثقفين، حول مختلف المواضيع ذات الإهتمام المشترك تحوم معظمها حول القضيّة الأمازيغية،والهويّة الوطنية، بمشاركة العديد من الفنانين من المغرب وخارجه.
و فى مثل هذا التاريخ من عام 2016 سبق أن نظّم المركز المذكور حفل السنة الأمازيغية (2966) حيث أقيمت بهذه المناسبة ندوة فكرية حول موضوع “الهوية بين الكونية والخصوصية” ، وكانت هذه الندوة عبارة عن لقاء مفتوح تخلله حوار ثريّ بين صفوة من الباحثين الأكاديميين، ونخبة من الإعلاميين والفاعلين المدنيين ،ومن أبرز المحاور التي عالجتها هذه الندوة مكونات جذورالهوية ومعطياتها ومقوّماتها ، وتجلياتها،وحدود التعايش أو المواجهة بين مرجعياتها القديمة والجديدة، والأدوار التي تضطلع بها مقاربات تعدّد مقوّمات الهوية المغربية الحقوقية، والاجتماعية، والدينية .كما عالجت الندوة وظائف التعدّد اللغوي،وصلة كلّ هذه المعطيات بوسائل الإعلام ومؤسّسات التنشئة الاجتماعية على إختلافها، ،وسبر آفاق المستقبل والرّؤى الإستشرافية لهذه الهوية، ولقد تشرّفتُ بحظوة المشاركة في هذه التظاهرات الثلاث الآنفة الذكر. حول هذه المحاور،والمُعطيات وسواها من قضايا الهوية والتعدّد الثقافي،والتنوّع اللغوي والإثني فى المغرب يدور هذا المقال:
السّنة الأمازيغيّة الجديدة
تؤكّد معظمُ المصادر، والمراجع، والمظانّ أنّ كلمة ” أمازيغي” تعني الرّجل الحرّ أو النبيل ،ويؤكّد “الحسن بن محمد الوزّان” المعروف ب “ليون الأفريقي” صاحب كتاب “وصف إفريقيا”،وسواه هذا المعنى كذلك ، وبذلك تكون لفظة “الأمازيغ” تعني (الرّجال الأحرار أوالنبلاء )، وهم مجموعات سكنية تقطن المناطق الممتدّة بين واحة سيوة (غربي مصر) شرقاً ،إلى المحيط الأطلسي غرباً، ومن شمال البحر الأبيض المتوسط، إلى جنوب الصّحراء الكبرى،وقد إحتفل الأمازيغ يوم 13 ينايرالجاري2018، فى مختلف هذه الضّيع ،والأرباض، والمناطق، والأصقاع، بهذا اليوم الموافق لفاتح السنة الأمازيغية الجديدة التي تصادف هذا العام الذكرى 2968، وحسب جلّ الرّوايات فإنّ هذا االإحتفال يُقرن بانتصار الأمازيغ، بقيادة ملكهم “شيشنق” أو “شيشونغ” على فرعون مصر عام 950 قبل الميلاد. ولطقوس ومظاهر هذه الإحتفالات صلات وثقى،وعلاقات وطيدة بخصوبة الأرض، وتطلّع الأمازيغ بأن تكون السّنة الجديدة سنة فلاحية،خصبة ،جيّدة ،معطاءة حافلة بالمنتوجات،والخيرات التي كا ن لها دائماً إرتباط وثيق بالأرض، ومن ثمّ ينبع حبّهم للأرض،ويتولّد تشبّثهم بها، ودفاعهم عنها.
يشيرالأستاذ حسن إدبلقاسم، الخبير السابق لدى الأمم المتحدة حول حقوق الشعوب الأصلية:” أنّ طقوس إحتفالات الأمازيغ برأس السنة الأمازيغية لا يزال محتفظاً بها في كلّ من المغرب، وبقيّة بلدان شمال أفريقيا وغربها، وفي موريتانيا، ومالي، والساّحل، حيث يوجد الطوارق، إضافة إلى نيجيريا”. فى حين يرى الأستاذ محمد حنداين، رئيس كونفدرالية الجمعيات الأمازيغية في المغرب:” أنّ الاحتفال بالسنة الأمازيغية الجديدة يدخل ضمن أساليب النضال الأمازيغي من أجل إقرار الحقوق الأمازيغية، لأنّ الاحتفال بالسنة الأمازيغية هو أحد الرّموز الأساسية التي إستثمرها المناضلون الأمازيغ لإبراز هويّتهم”. ويشير الأستاذ سعيد أهمان ضمن تحقيق نشرته ” القدس العربي” مؤخّراً حول هذا الموضوع أيضاً :”أنّ معظم الباحثين يرجّحون أنّ “شيشنق” تمكّن من الوصول إلى الكرسي الفرعوني بشكل سلمي في ظروف مضطربة بمصر ، حيث إستعان به مصريّون قدماء ضدّ الاضطرابات التي عمّت مصرَ القديمة جرّاء تنامي سلطة العرّافين والكهنة”. هذا وتجدر الإشارة فى هذا الصدد أنّ أمازيغ المغرب ما إنفكّوا بالفعل يطالبون الحكومةَ بإلحاح فى مطلع كلّ سنة أمازيغية، وفى كلّ مناسبة لإقرار يوم فاتح السنة الأمازيغية يومَ عطلة رسمية مُؤدّى عنها وذلك تماشياً،وإنسجاماً مع إعتراف الدستور المغربي (2011) باللّغة الأمازيغيّة كلغةٍ رسميّةٍ للبلاد إلى جانب اللغة العربيّة،وكانت الفيدرالية الوطنية للجمعيات الأمازيغية بالمغرب قد طالبت رئيس الحكومة سعد الدين العثماني بـ”القطع مع التردّد وإصدار مرسوم يقرّ برأس السنة الأمازيغية عيداً وطنياً”. في مقابل ذلك دعا التجمع العالمي الأمازيغي الأحزاب السياسية والجمعيات إلى مقاطعة العمل والدراسة في الثالث عشر من يناير، إحتجاجاً على عدم الإقرار الرّسمي برأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية مؤدّى عنها، على غرار السنتين الميلادية والهجرية، معتبراً أنّ الخطوة تأتي “عملاً بمبدأ الترسيم الشعبي، ومن أجل انتزاع الترسيم الرّسمي لرأس السنة الأمازيغية كعيد بعطلة، ” إلاّ أنّ رئيس الحكومة خلال انعقاد المجلس الحكومي يوم الجمعة 12 يناير 2018 تجاهل المطالب التي عبّرت عنها العديد من الفعاليات الجمعوية والسياسية، الداعية إلى إقرار رأس السنة الأمازيغية عيداً وطنياً وعطلة مدفوعة الأجر، ومعروف أن الجزائر الشقيقة إعتمدت مؤخراً رأس السنة الأمازيغية عطلة رسمية مدفوعة الأجر على غرار عطل السنتين الميلادية والهجرية وباقي المناسبات الأخرى، وهي سابقة أولى من نوعها في شمال إفريقيا .
روافد وينابيع الهويّة
يؤكّد الدّارسون تمشياً مع هذا السياق أنّ تاريخ المغرب ، وتراثه مستوحيان من هويّة وينابيع مغربية أصيلة، وروافد وافدة متداخلة متعدّدة، وإن إختلفت مصادرها، وأصولها،وتباينت لغاتها وألسنتها،فقد إنبثقت مقوّمات الهويّة المغربيّة الموحّدة التي تلاحمت وإنصهرت فى بوتقةٍ فريدةٍ مميّزة متماسكة بكلّ مكوّناتها، الأمازيغيّة ، والعربيّة، والصّحراوية، والحسّانية الإسلاميّة، الغنيّة بروافدها الإفريقية، والأندلسيّة، والعبريّة، والمتوسطيّة وما فتئت العديد من النصوص، والوثائق، والمظانّ، وأمّهات الكتب والمخطوطات، والأشعار، والآداب، والفنون، والعلوم التي أبدعها كتّاب، وفلاسفة، وعلماء، و شعراء، ومؤلفون مغاربة أقاموا واستقرّوا، أو ولدوا وترعرعوا فى المغرب ، إلى جانب المعالم التاريخية، والمآثر العمرانية، والقلاع الحصينة، والدّور،والقصور،والجوامع والصوامع، والبساتين الفسيحة، والحدائق الغنّاء التي تبهر الناظرين ، فضلاً عن العادات والتقاليد المغربية الحميدة التي تأصّلت في أعراف وذاكرة الشعب في مختلف مناحي الحياة، كلّ ذلك ما زال شاهداً إلى اليوم على مدى الأوج الذي أدركه الإشعاع الحضاري فى هذا البلد. فهذا الغيث الفيّاض المتنوّع من الإبداعات الرفيعة في مختلف الميادين لا يمكنه أن يحيا وينمو و يزدهر من لا شئ، أو داخل حدود ضيّقة أومنغلقة، بل إنّه ظهر وإزدهر إعتماداً على نبعه الأصيل، وإغترافاً من معينه الأوّل وتاريخه التليد، وتراثه العريق ، وموروثاته الحضارية ذات الّرّوافد الثقافية المتعدّدة الثريّة التي تكوّن فى آخر المطاف هويّة “مغربية” موحّدة متماسكة بتفاعلها فيما بينها تاريخاً، وثقافة،وتراثاً، ولغة، وتجانساً، وتمازجاً ، بحيث لا نسطيع فصل جانب منها عن الآخر،أو تجاهل مكوّن منها عن باقي مكوّناتها الأخرى التي تفاعلت فيما بينها على إمتداد االحقب التاريخية المتعاقبة .
هذه الأعراق، والإثنيات،والجذور البشرية عاشت،وتعايشت، وتمازجت، وتفاعلت فيما بينها فى تكامل وإنسجام بعد أن عرفت مزجاً، وتلاحماً فيما بينها فى اللغة والبيان، والقلب واللسان، الشئ الذي يكوّن الصّورة الأكمل، والوجه الأمثل للهوية الوطنية فى هذا الشقّ من العالم،التي تقوم على التوازن الروحي والفكري والنفسي والثقافي والسياسي فى آن واحد، وكلّ تجزيئ أو تفتيت أو إنتقاص من هذه الهوية هو تشويه، أو إختزال وإختلال لها،قد يزجّ بها فى شطط التباهي بالعرقية، والعنصرية، والإنتقائية التي لا تفضي سوى إلى التجزيئ، والإنفصال، والإنفصام، والضعف، والوَهن،والتجنّي ،والضّياع ممّا يفضي إلى التمرّغ فى غمر ما أمسى يطلق عليه البعض جزافاً ب”أزمة هوية” أو ” إشكالية هويّة” تجعل أصحابها وذويها يتغنّون بعيداً عن سرب الجماعة بنغمة أحادية وإنعزالية متفرّدة ومتمرّدة نشاز .
مُلتقى الحضارات
بحكم موقعه الجيوستراتيجي المتميّز كحلقة وصل، وآصرة وثقى، وملتقى الحضارات بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب يعتبر المغرب من البلدان التي حباها الله موقعاً ممتازاً على الصعيد الجغرافي، ممّا خوّل لها أن تضطلع بدور تاريخي وحضاري وثقافي مرموق فى الشمال الغربي الإفريقي.، والتميّز بهويّة يطبعها التعدّد والتنوّع والغنى والثراء منذ أقدم العهود السحيقة حيث تعاقبت عليه،وظهرت على أديمه – مثله مثل سائر جاراته البلدان المغاربية الأخرى- دول، وحضارات، وثقافات قديمة على إمتداد التاريخ ، منها الحضارات الفينيقية، والبونيقية، والموريطانية، والرّومانية،وصولاً إلى الفترة الإسلامية التي تميّزت بإعتناق ساكنة هذه البلدان للإسلام. ويشير العلاّمة المرحوم عبد العزيز بنعبد الله – فى حالة المغرب على وجه الخصوص- إستناداً إلى مؤرخين ثقات من أمثال ابن خلدون،وابن الخطيب، والبكري،وسواهم :” أنّ الحِمْيرييّن بقيادة صالح بن منصور الحِمْيَري هم الذين نشروا الإسلامَ بين الأمازيغ في منطقة الرّيف المغربي وأقاموا إمارة نكور أو إمارة بني صالح ، وكانت بالتالي هي أوّل إمارة إسلامية ظهرت فى المغرب سنة 710م ببلاد الرّيف ” . ثم أسّست بعد ذلك أيّ بعد إنصرام 78 سنة من هذا التاريخ دولة الأدارسة سنة 788م. وكان مؤسّس هذه الدّولة – كما هو معروف- هو المولى إدريس الأوّل ابن عبد الله، الذي حلّ بالمغرب الأقصى وإستقرّ بمدينة وليلي الرّومانية المعروفة باللاّتينية : ب (Volubilis) والتي ( تقع بالقرب من مدينة مكناس) حيث إحتضنته قبيلة آوربة الأمازيغية، ودعمته حتى أنشأ دولته. ومعروف كذلك أنّ دولاً أخرى تأسّست قبل وصول الإسلام إلى هذه الرّبوع من أمثال (نوميديا ،موريتانيا، تنجيس )،وتعاقبت على المغرب بعد كلٍّ من إمارة بني صالح بالنكور،بالريف ، والأدارسة بوليلي بالتوالي دولُ المُرابطين، والمُوحّدين، والمَرينييّن، والسّعديين، وصولاً إلى الدولة العلوية الحالية.
الهويّة وتعدّد الإثنيات
المغرب بهويّته الموحّدة، يزخر بثقافة متنوّعة، وحضارة ثريّة. تمتدّ جذورها فى عمق تاريخه الطويل، بالإضافة إلى سكّانه الأصليين من الأمازيغ ، فقد توافدت عليه العديد من الهجرات المتوالية القادمة من المشرق، ومن جنوب صحراء إفريقيا، ومن الشّمال، وكان لكلّ هذه المجموعات والفئات البشرية أثر كبيرعلى تركيبته الإجتماعية التي عرفت معتقدات سماوية منذ أقدم العهود ، كاليهودية، والمسيحية، وأخيراً الإسلام. ولكلّ منطقة من المناطق المغربية خصوصيّاتها التي تتميّز بها عن سواها من المناطق الأخرى، وقد أسهمت هذه الخصوصيّات في صنع فسيفساء الثقافة المغربية، ووضع الإطار المتميّز والمتنوّع للإرث الحضاري للبلاد. لهذا التنوّع الثقافي والحضاري خصوصيّات ، وعناصر متعدّدة مكوّنة لنسيجه الإجتماعي على إختلاف مناطقه وجهاته، ومن أبرز هذه المكوّنات والعناصرالتي تطبع هذه الأنسجة الحضارية الثريّة المتنوّعة العنصر البشري ،واللغوي، والثقافي ،حيث تنطوي تحت هذه العناصر برمّتها مكوّنات فى العديد من المظاهر الثقافية التي تطبع المغرب بطابع خاص.
ويرى البعض أنّ المغرب يُعتبر دولة أمازيغية- عربية . ويصرّ آخرون بإلحاح على الهويّة الأمازيغية – الإفريقية للمملكة المغربية ، ويعترف المغاربة بالهويّة الأمازيغية للبلاد، بإعتبارهم السكّان الأصليّون فى بلدان الشمال الإفريقي، إنطلاقاً وتأسيساً على التاريخ، والثقافة، واللغة،والعرق،والجنس، والعادات، والتقاليد، والموروثات المتعاقبة فى مختلف المجالات، كلّ أولئك يكوّنون الهويّة التي تميّز كلّ منطقة عن أخرى .فعلى الرّغم من أنّ الأمازيغ قد إعتنقوا الإسلام،وتعلّموا اللغة االعربية وأجادوا ،وألّفوا،وصنّفوا وأبدعوا فيها إبداعاً عظيماً، إلاّ أنهم متشبّتون بهويّتهم ، ومتمسّكون بتاريخهم ،وذاكرتهم الجماعية المتواترة، وفخورون بإرثهم الثقافي المتنوّع ،ومحافظون على تقاليدهم ،ولغتهم وعاداتهم، وأمثالهم، وأشعارهم، وأغانيهم، وحِكَمهم، وفنونهم، وعوائدهم التي يتباهون بها، ويتغنّون فيها بالحياة الكريمة،والحريّة، والكرامة. ولذلك يُعتبر الأمازيغ عنصراً أساسيّاً، ومكوّناً رئيسيّاً للبلاد على إمتداد القرون ، ولقد إستعملت لغة الضّاد بدون إنقطاع فى مختلف مناطق البلاد وأرجائه فى الفقه،والتشريع،والأحوال الشخصية، والتدريس، والتأليف، والتدوين، والتصنيف، وفى مختلف فروع وحقول العلوم على تباينها ، فضلاً عن إستعمالها فى الإدارات، والبلاطات على إمتداد العهود التي تعاقبت على تاريخ المغرب منذ الفتح الإسلامي إلى اليوم .
العربيّة واللغات الأخرى
الدّفاع عن اللغة العربية التي أصبحت من مكوّنات هويّات البلدان المغاربية، لا ينبغي أن يثنينا أو يبعدنا عن العناية، والإهتمام، والدّفاع كذلك بشكلٍ متوازٍ عن عناصر هامّة، وأساسيّة أخرى فى المكوّنات الأساسية للهويّة الوطنية فى هذه البلدان وهي اللغة الأمازيغية التي تعايشت مع لغة الضّاد منذ وصول أو دخول الإسلام إلى هذه الرّبوع والأصقاع،فى مجتمعات تتّسم بالعدّد، والتنوّع، والإنفتاح ،ليس بين لغاتها ولهجاتها الأصلية المتوارثة، بل وحتى على اللغات الأجنبية الأخرى كالفرنسية، والإسبانية ،والإنجليزية،والبرتغالية، والإيطالية وسواها، وحسبي أن أشير فى هذا الصّدد إلى التعايش المتناغم الذي كان قائماً بين هذه اللغات برمّتها،والذي لم يمنع أبداً فى أن يكون هناك علماء أجلاّء فى هذه اللغة أو تلك من مختلف جهات ومناطق هذه البلدان، وكان “العربيّ” فى هذا السياق يفتخر، ويتباهى بإخوانه من البربرالأمازيغ ، والعكس صحيح، قال قائلهم : (وأصْبَحَ البِرّ مِنْ تِكْرَارِهِ عَلَماً / عَلىَ الخَيْرِ وَالنُّبْلِ والمَكْرُمَات). فالبِرّ(بكسر الباء) الذي يعني الخيرَ والإحسان إذا كُرّر أصبح (برّبرّ). ولم يتورّع شيخ علماء الإجتماع والتاريخ فى العالم ابن خلدون من أن يدبّج بهذه الكلمة كتابَه الذي ضربت شهرته الأطناب وهو المعروف ب ” المقدمة” فأسماه : ” كتاب العبر، وديوان المبتدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر” .
الفنون المعمارية..عطاء وإبتكار
يعتبر فنّ العمارة فى المغرب من الفنون الإسلامية التقليدية العريقة، التي كانت ولا يزال لها أبرز الأثر في كثير من المظاهر الحضارية، والمآثر والإبداعات العمرانية منذ مئات السنين وإلى عصرنا الحاضر، وتقف هذه المآثر فى مختلف ربوع البلاد شامخةً بكل ألون الإبداع والفن والإبتكار، و من أبرز تلك المعالم الإبداعات المغربية الخلاقة فنون العمارة التي تنتشر فى مختلف مدنه، وحواضره الألفية، نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر صومعتي الكتبية بمراكش، وحسّان بالرباط .إلى جانب أختهما التّوأم الثالثة “لاخيرالدا ” الكائنة بمدينة إشبيلية بإسبانيا.والتي هي من بناء الموحّدين كذلك ، وما فتئت هذه الصّوامع الثلاث تستقطب إهتمام السياح من كل صوب وحدب،ومن مختلف أرجاء المعمور، وتحظى بإعجابهم ، وإنبهارهم إلى يومنا هذا سواء فى المغرب أو فى إسبانيا. بالإضافة إلى العديد من المعالم المعمارية والمآثر الحضارية الأخرى نذكر منها على سبيل المثال وليس الحصر كذلك المدرسة البوعنانية بفاس، ومقابر السّعديين بمراكش، و سواهما من المعالم والمآثر،والمباني والقصوروالقلاع، والحصون،والأبواب الشامخة، والأضرحة والمساجد الكبرى التاريخية منها والحديثة الكثيرة التي تملأ مختلف ربوع البلاد . وتتميّز هذه المباني المعمارية،والمآثر العمرانية وسواها بطابعها المغربي الخاص الأصيل والمتميّز ذي الأسقف الخشبية المنقوشة، كما يتجلّى هذا الطراز المغربي المعماري بشكل جليّ فى الأثاث، والأسقف ، والأعمدة الرخامية، والزلّيج الملوّن أو الأبواب، وإستعمال الموزاييك ذي الرسوم والألوان والخطوط البديعة الزاهية، التي تقدم تنوّعا رائعا من الأشكال التي قد توحي للناظر إليها بأبهى صور الطبيعة، وروعة جمالها. ومن المثير أن كلّ هذه القطع تجمع واحدة ، واحدة، وتثبّت بالإسمنت والجير لتكوّن لوحات من الفسيفساء التي غالباً ما تزيّن جدران القصور،والدّور، والمساجد، والحدائق ،والجوامع، والصوامع، والأعمدة والأحواض والنافورات. ولا تزال تحتفظ مختلف هذه البناءات بهذه الخاصّيات المميّزة فى فنّ النقش على الجبس في المغرب إلى يومنا هذا . وتشترك أو تتقاسم هذه المعالم العمرانية فى الرّوعة، والبها،ء والحسن الفنون المعمارية الأندلسية التي إزدهرت، وتألّقت هي الأخرى بشكل مثير للإعجاب على إمتداد الأحقاب خلال الوجود العربي والأمازيغي الإسلامي فى شبه الجزيرة الإيبيرية فى إسبانيا بشكل خاص.
المطبخ المغربي.. تنوّع وإبداع
من المظاهر الحضارية الرّاقية التي تميّز التعدّد الثقافي المغربي فنّ الطبخ الذي يعتبر منذ القدم من أكثر المطابخ تنوّعا وشهرة في العالم. ويرجع الفضل فى ذلك إلى تفاعل المغاربة على إمتداد التاريخ مع العالم الخارجي منذ قرون بعيدة خلت . ويتميّزالمطبخ المغربي بثرائه،وتنوّعه،وإبتكاراته وإبداعه، وتعدّد مصادر تكوينه فهو مزيج من المطبخ الأمازيغي الأصيل،والأندلسي،والعربي،والمطبخ التركي العثماني والمغاربي، والشّرق أوسطي، والأفريقي.وهو يستقي أصوله وتأثيراته كذلك ولا شكّ من مختلف الحضارات المتباينة التي نشأت، وترعرعت،وسادت فى حوض البحر الأبيض المتوسّط، والتي تعاقبت على المغرب منذ أقدم العصور،والدهور. واشتهرت العديد من المدن المغربية الكبرى منها والصّغرى على إختلافها بفنون الطبخ، وإعداد أشهى الأطعمة ، والحلويّات التي بوّأت المغرب منزلةً سامقة،ومرتبةً مرموقة،ومكانةً عليا بين الأمم ،وشهرةً عالمية فى هذا القبيل .
الفنون الشّعبيّة والفلكلور
ويحفل المغرب بثراء واسع بمختلف الفنون الشعبية، والعديد من المهرجانات الفلكلورية على إمتداد رقعته الجغرافية المترامية الأطراف ، حيث تقدّم عشرات الفرق داخل الوطن المغربي وخارجه لوحات رائعة، وتعكس هذه الفنون الإبداعية الفطرية والفنية على إختلافها، وتنوّعها، وتعدّدها بشكل جليّ غنى وتنوّع هذا التراث الزّاخر، و مدى عراقة الشعب المغربي وتعدّد إثنيياته وثراء فنونه ، والفلكلور المغربي زاخر بالمواهب ، حافل بالأصالة وهو يعتمد فى الغالب على النغمات والإيقاعات الرّخيمة والمتناغمة، التي تستقي مادتها الأولى ،وعناصرها الأساسية من الفن الشعبي المرتبط بالبيئة ،والأوساط القروية،والبوادي ، والمداشر ، والضيع،والأرباض، والمجتمع كيفما كانت أنواعه وأنماطه. الشيء الذي يزيد من أهميته وغناه من حيث الكمية والنوعية، وهكذا نجد رقصات ولوحات فنية مثل: طرب الآلة، والطرب الأندلسي،والغرناطي، والأمداح، والفنون الأمازيغية على إختلاف المناطق، وتباين الجهات، مثل للاّ بويا، ورقصة،وغناء اكناوة ورقصات أحيدوس، والركّادة ،وغيرها من الفنون والرقصات الشعبية الأخرى المعروفة التي لا حصر لها .
المتاحف.. خزائن لذاكرة الشّعوب
وتختزن العديد من المتاحف المغربية المنتشرة فى العديد من المدن المغربية مختلف المظاهر الحضارية والثقافية التي تعاقبت على البلاد منذ أقدم العصور حفاظا على الذاكرة الجماعية لمختلف جهات ومناطق المغرب ، وتضطلع هذه المتاحف بدور حيوي في حماية التراث الثقافي وحفظه، وصونه والتعريف به ،إلى الجانب دورها الترفيهي والسياحي، وقد أنشئت فى البلاد العديد من المتاحف فى مختلف حقول المعرفة، وفروع العلم والإبداع. والصناعات التقليدية . وتتعدّد المتاحف من أركيولوجية، وإثنوغرافية، إلى متاحف متخصّصة وهي تقدم برمّتها على تنوّعها لزوّارها، وروّادها وللطلبة والدارسين والمتعطشين للعلم والمعرفة صوراً،وأشكالاً، ولمحات تسلسلية عن تاريخ المغرب، وتطور فنون الإبداع ، وتواتر العادات، وتوارد التقاليد فيه عبر العصور.
إلاّ أنه ما زالت العديد من المدن المغربية تفتقد إلى هذه المتاحف إلى اليوم ،منها مدينتنا السّاحلية الجميلة جوهرة البحر الأبيض المتوسط الحسيمة، وسواها من المدن والحواضر المغربية الأخرى،ولقد أمست الحاجة ماسّة وضروريّة إلى سدّ هذه الثغرة أو بالأحرى هذه الفجوة التي باتت وصمةَ عارٍ فى جبين المسؤولين والقائمين على الشأن الثقافي ببلادنا .
والمغرب، بعناصره التعددية والمتنوّعة يتوفّر على أرضية ثريّة شاسعة أسهم فى رسمها تاريخ البلاد الحافل بالامجاد ممّا جعل للبلاد شخصية خاصة ومتميّزة ذات كيان قائم الذات منذ قرون عديدة خلت ، ومركزَا هامّا من مراكز الإشعاع الحضاري الذي يسهم بقسط وافر في التطوّر الإنساني على مستويات الفكر والإبداع،الثقافة، والعلم والعرفان، والأخلاق، والعمران، فى تكامل وتناغم متكاملين بين مختلف العناصر والمقوّمات والمكوّنات التي تجعل منه بلدا ذا شخصيّة متميّزة متفرّدة رائدة فى المنطقة المغاربية والعالم العربي وإفرقيا .
التاريخ لا يُقرأ في هنيهة
الحديث عن الهوية الوطنية والتعدّد الثقافي والحضاري فى البلدان المغاربية يحلو و يطول، والتاريخ لا يقرأ في هنيهة، إنّ الزّائر الذي يأتي للمغرب -على سبيل المثال – يلمس تاريخه حيّاً نابضاً قائماً في كلّ مظهر من مظاهر الحياة ، دراسة هذا التاريخ، و التعمّق فيه و إستخراج العناصر الصالحة منه أمر لا مندوحة لنا عنه،وهو أمر ينبغي أن يولى أهميّة قصوى ،وتتبّعاً متواصلاً من طرف الدّولة والخواصّ ، ومن لدن مختلف الجهات العلمية والتاريخيىة التي تُعنى بهذه المواضيع للتعريف بهذه الذخائر، ونشر الوعي وتأصيله بشأنها لدى أبناء جلدتهم ليكون المستقبل الذي يتوقون إليه مستقبل رقيّ وأوجٍ،وإشراقٍ وتلاقٍ بين ماض عريق، وحاضر واع