
نقابات الضبط الاجتماعي

مباشرة بعد هروب زين العابدين بن علي، أصدرت الأمانة العامة للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب بيانا «بشأن التطورات المستجدة في تونس»، ذكرت فيه أنها «تعتبر الأحداث التي تمر بها تونس أحداثا تاريخية، لها صبغة الانتفاضة الشعبية. وترى أن ما حققته هذه الانتفاضة الشعبية ما كان له أن يتحقق دون الجهود الكبيرة والتضحيات الجسام التي بذلها الشعب التونسي، وقواه الوطنية والنقابية، وفي طليعتها الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي أثبت جدارة عالية في تنظيم نضالات العمال والنقابيين وعموم الشعب»[1]؛ وفي ختام بيانها، أكدت الأمانة العامة «على أن الاتحاد العام التونسي للشغل يظل رقما لا يمكن تجاهله في أي مشروع متكامل يطرح اليوم للإنقاذ وتجاوز المرحلة الماضية بكل تداعياتها»[2].
آراء أخرى
زمان اليقظة النقابية
بعد هذا التحول الجدري في الخطاب النقابي العربي طُرح حينها السؤال التالي : هل هي صحوة جديدة لنقابات عمال العرب أم هو فقط سلوك مؤقت فرضته أحداث غير منتظرة ؟ لم ننتظر طويلا لكي نجد بعض الجواب، حيث لم يمر سوى اثنا عشر يوما على بيان الأمانة العامة حتى عقدت هذه الأخيرة دورة لمجلسها العام في مقر الاتحاد المغربي للشغل بالدار البيضاء تحت شعار «الاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب ودوره في الحركات الاجتماعية العربية» والذي انعقد يوم 28 يناير 2011، أربع أيام فقط بعد اندلاع الثورة المصرية الموسومة بـحراك 25 يناير.
المجلس النقابي العربي جاء في سياق التحولات العميقة والمتسارعة التي بدأت تعيد صياغة الأولويات الشعبية نحو المطالبة، ليس بالمشاركة في الحياة السياسية وفي تدبير الشأن العام، ولكن بالتحرر الاجتماعي والسياسي. تبين للنقابيين التطور الحاصل على المستوى الاجتماعي حيث تحولت الحركات الاحتجاجية إلى حركات اجتماعية إلى حركات عابرة للمجتمعات العربية. كذلك شاهد النقابيون العرب التحولات الإعلامية والتطور الكبير في التعبئة والحشد، حيث تم إحصاء في مدة عشر ثواني حوالي 34 ألف رسالة تعبئة قام بها الشباب المصري يوم 28 يناير على خدمة تويتر العالمية، هذه السرعة التعبوية كانت تتصاعد في غياب تام للنقابات أو تأطيرهم النقابي، حيث لم تصدر نقابات مصر أي بيان حول الأحداث الجارية آنذاك، في الوقت الذي أصدرت نقابات إيطاليا بيانات تضامنية مع الثورة المصرية.
جاء موقف النقابات العربية في البيان «بشأن التطورات المستجدة في تونس» بعد هروب بن علي، أما وقد انتقلت العدوى إلى مصر فمطلوب منهم صياغة تصور عام حول تطورات انطلقت بعد 14 يناير 2011 ثم بدأت تتدحرج ككرة ثلج في جل الوطن العربي. في هذه الظرفية كان الموقف دقيقا وحاسما لأنه سيضع تصورا موحدا لمرحلة تاريخية. فهل كانت النقابات العربية مستعدة لهذه المغامرة ؟ مغامرة الانحياز إلى الشباب المنتفض وإلى الشعوب المتحررة من سلطان الخوف؟
الأمين العام للنقابات العربية، السيد رجب معتوق، كان واضحا بعد اجتماع المجلس العام للنقابات العربية، ووضوحه هذا بدد أحلام من كانوا يعولون على النقابات العربية بأن تلعب دورا هاما داخل التطورات السياسية والاجتماعية العربية، حيث قال : «نحن كحركة نقابية لا ندعي ولا نعطي لأنفسنا الحق بأننا نمثل كل الجماهير العربية، نحن نمثل العمال المؤطَّرين في النقابات المنتمين إلى اتحاداتنا والملتزمين بأهدافنا والملتزمين بدستورنا سواء كان على الصعيد الوطني أو الصعيد القومي… أنا لا يحق لي أن أتحدث باسم شرائح أخرى من المجتمعات العربية ولكن يحق لي أن أتضامن وأنحاز إلى هذه الشرائح فيما إذا رأيت أن نضالات هذه الشرائح مشروعة»[3].
النقابية ثلاثة أنماط
من خلال المواقف السابقة يضح بجلاء أن النقابات العربية تُعرّف نفسها من خلال ثلاث لحظات تاريخية:
1- في لحظة الاستقرار السياسي، تعرف نفسها بالنقابة المؤسساتية التي لا يتعدى دورها « تمثيل العمال المؤطرين في النقابات المنتمين إلى اتحاداتهم والملتزمين بأهدافها».
2- في لحظة الغموض السياسي، تعرف نفسها بنقابة الضبط الاجتماعي التي تراقب العناصر الطليعية في أي حركة اجتماعية تحت ذريعة « التضامن والانحياز إلى النضالات [فقط] المشروعة».
3- في لحظة الانتفاضات الشعبية المنتصرة، تعرف نفسها بالنقابية السياسية التي قامت بواجبها في « تنظيم نضالات العمال والنقابيين وعموم الشعب»، وتقوم بتقديم نفسها «كرقم لا يمكن تجاهله في أي مشروع» سياسي مستقبلي…[4]
الحفاظ على النظام العام هو المقصد الأسمى لآليات «الضبط الاجتماعي» Le contrôle social، وهذا الأخير هو من المفاهيم المحورية في العلوم الاجتماعية. ففي الحقل النقابي كلما تراجعت قوة النقابات التعبوية كلما ركنت إلى وظائف الضبط الاجتماعي التي تراقَب بإزاءها فئة من المجتمع لها خطورتها في حقل نزاعات الشغل وخارجه. لذلك تجتمع «إدارات النقابة والشركات العمومية على مصلحة واحدة من أجل الحفاظ على القاعدة النقابية تحت السيطرة والتخلص من كل معارضة جذرية من شأنها استغلال غضب العمال ضد النظام[5]».
نموذج تجريبي من تونس
لعبت الحركة النقابية التونسية أدوارا مهمة في معركة التحرير الوطني إبان الاستعمار الفرنسي، وبعد الاستقلال تم إلحاق «الاتحاد العام التونسي للشغل» بالحزب الاشتراكي الدستوري إلى حدود سنة 1978 حيث استقالت القيادات النقابية من الحزب لتتفرغ للعمل النقابي، « ففي جلسة مغلقة للمجلس الوطني للنقابة المذكورة، انعقدت فيما بين 8 و 10 يناير 1978، أعلن الزعيم النقابي، الحبيب عاشور، استقالته من المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب الاشتراكي الدستوري، كما دعا المجلس الوطني إلى إضراب عام، سيتحول فيما بعد إلى مواجهات عنيفة بين الحزب الحاكم والحركة النقابية»[6]. وكرد على هذا التوجه الاستقلالي ذهب الحزب الحاكم إلى أبعد مدى عندما انتزع المركزية النقابية من قيادتها الشرعية بقرار فوقي، حيث « صرح الوزير الأول “المهدي انويرة” أمام البرلمان بأن اندلاع الأحداث جاء نتيجة مؤامرة مدبرة من طرف أقلية تسربت إلى قيادة الاتحاد العام للشغالين التونسيين بغية تحويل الحركة النقابية عن مهامها، ثم أضاف موضحا: “إن المنظمة النقابية والعمال ليسوا مسؤولين عن الأحداث، في حد ذاتهم؛ ولكنهم تجووزوا من طرف عناصر الشغب”، ولذلك، وجب – في نظره – إبعاد هذه العناصر عن المركزية، حتى تتمكن هذه الأخيرة من استرجاع هويتها.[7]». بعد ذلك ظلت النقابة قريبة من الحكم الذي استوعب قياداتها التنفيذية وراقب المجموعات الوطنية واليسارية الصغيرة في الاتحاد التونسي للشغل. و« لعب التنسيق الثلاثي المكون من منظمة العمال الوحيدة ومنظمة المشغلين والإدارة إلى تحويل النقابة التاريخية إلى طائفة corporation للضبط الاجتماعي التي تعمل على ضمان ولاء الأجراء للبرامج الرئاسية.»[8].
لم تتنكر القيادات النقابية في الاتحاد العام لهذه الوضعية التي كانت في نظرها « أقل مهانة في مناخ مشحون بالتزلف، حيث كان الاتحاد العام التونسي للشغل يحدد موقفه من الانتخابات الرئاسية قبل شهر من انجازها بتأييدٍ[ لترشح بن علي] لا بمناشدةٍ باعتباره رئيس الدولة، والدولة هي أكبر مشغل يتعامل معه الاتحاد في التفاوض حول مطالب العمال بالساعد والفكر.[9]».
وظلت القيادات النقابية في جميع المراحل تحافظ على تعايش التيارات داخل تنظيم نقابي وحيد رغم كل محاولات التحييد والتقسيم. وتقدم بعض الوثائق، المُجمّعة في «الكتاب الأسود» الصادر عن الرئاسة التونسية بعد الثورة، شهادة حية على هذه المحاولات، حيث كتب واحد من القيادات النقابية رسالة إلى الرئيس السابق يخبره « أنه برزت على الساحة النقابية الوطنية ظاهرة سلبية تتمثل في سيطرة المجموعات اليسارية المتطرفة على العمل النقابي وما أفرزه ذلك من مظاهر ومواقف تهدف إلى زعزعة نظام “بن علي”…». ووجّه صاحب الرسالة أصابع الاتهام إلى قيادة الاتحاد العام « التي تركت للعناصر المتطرّفة الحقّ في النّشاط العلني ممّا مكّنها من اكتساح مواقع داخل هياكل UGTT لـــ “ترتع” في المنظمة من خلال اتّخاذ مواقف تشكل مخاطر تهدّد مستقبل الاستقرار السيّاسي والاجتماعي وتهدد المكاسب الوطنية. [10]».
هذا التعايش في الاتحاد العام التونسي للشغل هو الذي «ميزه عن باقي الاتحادات النقابية العربية، حيث ظل الاتحاد يأوي تيارا، من البيروقراطية النقابية، خاضعا للنظام إلى حد التماهي مع جهاز الدولة، وتيارا آخر تتحكم فيه الحركات السياسية اليسارية والوطنية.. التي تتقدم المشهد النقابي في أوقات الأزمات.[11]».
بعد الانفجار المفاجئ للوضع الاجتماعي في تونس، أواخر شهر دجنبر من سنة 2010، تجمع الشباب في حركات عفوية فوجدوا في التيار الثاني النشيط في بعض الاتحادات الجهوية لـUGTT ملجأ[12] لهم من ملاحقات قوات الأمن وعاملا من عوامل التنسيق والتشاور بينهم ومساندا لتحركاتهم الميدانية. وفي نفس الوقت عملت قيادة التيار الأول في المركزية النقابية، بإزاء وسائلها في الضبط الاجتماعي، على نزع فتيل الانفجار الكبير بالعمل على إيقاف تمدد كرة الثلج في جهات تونس المُهمّشة جغرافيا وتنمويا. لم تكن الشعارات جذرية منذ البداية لذلك لم يجد النقابيون حرجا في دعم فعاليات الشباب أو التدخل لدى السلطات لإطلاق سراح المعتقلين منهم، حيث كان « الإصلاح والتشغيل والتوازن بين الجهات هي أبرز المطالب للمتظاهرين والمحتجين في البدء… لكن المطالب تطورت تصاعديا، كلما ظهر الوهن على أجهزة النظام الحاكم، ارتفع سقف المطالب…[13]».
مع توسع رقعة الانتفاضة بدأ النقابيون يتقدمون إلى مسرح الأحداث عبر إعلان إضرابات جهوية لعل أخطرها « الإضراب العام بجهة صفاقس الذي دعا إليه الاتحاد الجهوي للشغل يوم الأربعاء 12 يناير 2011، وخلاله نظمت مسيرة حاشدة قدرها المراقبون ب: أربعين ألف متظاهر.. واعتبر هذا الإضراب حاسما في بداية انهيار نظام الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي.[14]».
في ذات الوقت ظلت القيادة التنفيذية للاتحاد العام تعبر عن مساندتها لابن علي حتى أيامه الأخيرة، وحرصت وسائل الإعلام على إظهار هذه المساندة خاصة في « يوم 13 يناير 2011، فبعد اجتماعه بالرئيس ابن علي، قال عبد السلام جراد، الكاتب العام لـUGTT في تصريح للصحافة: وجدت عند رئيس الجمهورية رؤية عميقة للمشاكل الرئيسة ولأسبابها كما وجدت عنده إرادة لحلّها.[15]».
في صباح اليوم التاريخي، الجمعة 14 يناير 2011، كانت قد « قررت الاتحادات الجهوية بتونس الكبرى الإضراب العام لمدة ساعتين لكن الجماهير الشعبية قدمت بأعداد غفيرة واحتشدت في الشارع الرئيسي أمام وزارة الداخلية، وهناك رفعت شعارات تنادي بسقوط النظام.[16]». هرب ابن علي مساء ذلك اليوم وبدأ النظام بالانهيار التدريجي، ولما تأكد الخبر « عقد المكتب التنفيذي للاتحاد العام اجتماعا يوم 15 جانفي 2011 … وتوجه بتحية إلى الشعب التونسي على ما قدمه من نضال ومواجهة للدكتاتورية، وأشاد أعضاء المكتب التنفيذي بالدور الذي قام به الاتحاد العام التونسي للشغل في “تنظيم وتأطير النضالات التي خاضها العمال بقيادة هياكلهم النقابية الجهوية والقطاعية وعلى نجاحهم في احتضان بقية شرائح الشعب وفي حمايتهم والدفاع عنهم وعن مصالحهم الاجتماعية”.[17]».
بسبب تسارع الأحداث في تونس وبسبب القوة البنيوية للنقابة، سيعيد الاتحاد العام التونسي للشغل صياغة خطابه النقابي والسياسي وسيقدم نفسه كرقم أساسي في الحوار الوطني وفي الأطوار المفصلية لبناء التجربة التونسية الجديدة. وفي هذه المرحلة – إذن – سيُعرّف نفسه بإزاء النقابية السياسية التاريخية التي تقول : « فكما كان فرحات حشّاد ورفاقه البررة دوما في موعد مع التاريخ أيّام الاستعمار بتحمّلهم مسؤولية قيادة حركة التحرير في تونس وحشد الجماهير لنصرتها وتأطير تحركاتها ونضالاتها، ها هو اليوم في موعد مع التاريخ، يساهم من مواقع متقدّمة في عملية الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي مستفيدا من تجاربه السابقة كقوّة اقتراح وتوازن وضغط .. فكما انتصر الاتحاد لشعبنا الثائر منذ يوم 17 ديسمبر 2010 وساهم في تحويل شعاراته الاجتماعية إلى مطالب سياسية ومدنيّة غايتها استئصال الدكتاتورية ومنظومة الفساد والاستبداد، فقد عمل على امتداد السنوات الثلاث الماضية، مع بقية الفصائل السياسية ومكوّنات المجتمع المدني على إرساء مقوّمات الديمقراطية التشاركية ومجتمع المواطنة والمساواة سواء من خلال مبادرته بإعداد مشروع دستور أو بإبرامه لعقد اجتماعي مع شركائه الاجتماعيين[18]».
[1] النشرة الإخبارية للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب. 16 يناير 2011. غير مطبوع.
[4] للتفصيل النظري لهذه الأنماط الثلاثة يرجى الرجوع إلى دراستنا، في كتاب جماعي، تحمل عنوان “إعادة تركيب الحقل النقابي المغربي”.
[5] Eric Gobe. Les syndicalismes arabes au prisme de l’autoritarisme et du corporatisme. de Olivier Dabène, Vincent Geisser, Gilles Massardier. Autoritarismes démocratiques et démocraties autoritaires : Convergences Nord-Sud, La Découverte, 2008, p. 267-284.
[6] عزيز خمليش. الانتفاضات الحضرية بالمغرب، دراسة ميدانية لحركتي مارس 1965 ويونيو 1981. ص36. أفريقيا والشرق 2005.
[9] الهاني، التهامي. الثورة في تونس، 17 ديسمبر 2010 والدور الوطني للإتحاد العام التونسي للشغل، 2011، ص67.
[10] رئاسة الجمهورية التونسية، دائرة الإعلام والتواصل. الكتاب الأسود، منظومة الدعاية تحت حكم ابن علي. نسخة رقمية، 2013. ص255-257.