
لغة الضّاد..هل هي فى حاجة إلى طوق نجاة أو درع وقاية..؟

على هامش المؤتمر الخامس للإئتلاف الوطني من أجل اللغة العربية
آراء أخرى
على هامش المؤتمر الخامس للإئتلاف الوطني من أجل اللغة العربية الذي انطلق مؤتمرُه الخامس يومي الجمعة والسبت (9و10) من مارس الجاري بالمكتبة الوطنية بالرباط. تحت شعار : ” نحو استراتيجية وطنية للنهوض باللغة العربية (الخيارات اللغوية بالمغرب وتطوير النموذج التربوي ) ،تجدر الإشارة أنه قد إسترعى إنتباهي كلمة فى شعار برنامج هذا المؤتمر العتيد ، وهي كلمة ( النهوض) ..فالنهوض كما هو معروف يقتضي السّقطة .. أو الوقوع .. أو العثرة..أوالزلّة.. أوالإنزلاق..أو الكبوة..أوالغفوة…؟ وعليه فإنّ السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح والحالة هذه، يأتينا كما يلي : هل تعاني اللغة العربية حقاً فى وقتنا الراهن من هذه السقطات،والهفوات ،والكبوات، والنقائص، والزلّات، والعثرات،والإنزلاقات ..؟ هل هي فى حاجة فعلاً إلى طوق نجاة ينقذها من الغرق.. أو بالأحرى هل هي فى حاجة إلى درع وقاية يردّ عنها كيدَ الكائدين.. وشماتةَ الشامتين ؟
من المعروف أن العالم يحتفي فى 18 من شهر ديسمبر من كل عام بيوم اللغة العربية العالمي كلغة رسميّة، متداولة، ومُستعملة في جميع المحافل الدّولية، و معروف أن هذا التتويج لم يأت عبثاً أوإعتباطاً ، بل جاء بعد نضالٍ متواصل، وجهودٍ متوالية إنطلقت منذ أواسط القرن الفارط،، بعد أن أقرّت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم اليونسكو ذلك في الدورة الثانية والتسعين لمجلسها التنفيذي المنعقد عام 2012، حيث طفق هذا المّحفل الدّولي فى الاحتفال لأوّل مرّة بهذا اليوم في ذلك العام، قبل أن تقرّر الملحقية الاستشارية للخطة الدّولية لتنمية الثقافة العربية المعروفة ب (أرابيا) المنبثقة عن اليونيسكو هذا اليوم عنصراً أساسيّاً في برنامج عملها المتواتر فى هذا المجال .
ويؤكّد الخبراءُ المتخصّصون في هذا المجال أن قرار منظمة اليونيسكو جاء في سياق سلسلة من القرارات الدولية الأخرى للأمم المتحدة، ومنظماتها حول اللغة العربية، من بينها القرار(878) الصّادر عن الدّورة التاسعة للأمم المتحدة المنعقدة عام 1954، الذي كان قد أجاز الترجمة التحريرية لوثائقها إلى اللغة العربية، لتقرّر منظمة اليونسكوالعالمية عام 1966 استخدامَ اللغة العربية في المؤتمرات الإقليمية التي يتمّ تنظيمها في البلاد العربية، بالإضافة إلى إجازة المنظمة ترجمة الوثائق والمنشورات الصّادرة والمنبثقة عنها إلى اللغة العربية، ثم قرّرت اليونسكو كذلك في السّنة نفسها تقوية وتعزيز استعمال العربيّة في أعمالها، من خلال إقرار خدمات التّرجمة الفورية من اللغة العربية إلى غيرها من اللغات الأخرى والعكس في جلساتها العامة، وعند مشارف عام 1968 تمّ اعتماد العربية لغة عملٍ في هذه المنظمة الدولية، مع ترجمة مختلف وثائق العمل، وكذلك المحاضر إليها فضلاً عن توفير، وتأمين الترجمة الفورية بصفة نهائية رسميّة.
على الرّغم من هذه المكاسب،والإنجازات المهمّة التي حققتها اللغة العربية على الصّعيد الدولي ما زالت تتوالى الدّراسات، وتُطرح التساؤلات، وتثار التخوّفات في المدّة الأخيرة عن اللغة العربية، وعن مدى قدرتها على استيعاب العلوم الحديثة ومواكبة العصرنة والابتكار والتجديد الذي لا تتوقّف عجلاتُه ولا تني، وتخوّف فريق من عدم إمكانها مسايرة هذا العصر المتطوّر والمُذهل.،وما فتئت بعض الأصوات تتعالى ” للنهوض” باللغة العربية وتمكينها عكّاز الطريق، وكأنّ ” الظَّلْع ” قد أصابها..!
كما تحمّس فريق آخر بالمقابل فأبرز إمكانات هذه اللغة وطاقاتها الكبرى، مستشهداً بتجربة الماضي، حيث بلغت لغة الضاد في نقل العلوم وترجمتها شأواً بعيداً، وهكذا كثر الكلامُ في هذا المجال حتى كاد أن يُصبح حديثَ جميع المجالس، والمنتديات والمؤتمرات، في مختلف البلدان العربية وخارجها.
الحرف والخط العربيّ
بالنسبة للحرف العربي ومعه الخطّ فقد تعدّدت نداءات لإصلاحه، وتحسينه، ولكنّها باءت جميعها بالفشل الذريع، وظلّت الغلبة للأشكال المتوارثة التي كتبت بها عشرات الآلاف من الكتب في مختلف الميادين العلميّة والفلسفية والأدبية وسواها، زعم البعض أن شكلَ الحرف العربي الرّاهن وتركيبه لا يتّفق مع العصر، فقدّم لنا في هذا السياق بعضُ الباحثين أشكالاً متباينة لخطّ جديد تشبه إلى حدّ بعيد رسوم الخط الإفرنجي، غير أن القارئ يكتشف منذ الوهلة الأولى أنها في غالبيتها أشكال غريبة عليه يمجّها ذوقه السليم، بل إنها تكلّفه عناءً شديداً في هجاء حرف واحد منها، والحقيقة أن جمالية الخط العربي أو حرفه لا تبارىَ، فقد ثبت الآن أنه حرف مثالي في جمال تكوينه وشكله وتنوّعه، وإلتوائه واستوائه وتعريجاته واختصاره، وإن الصفحة الواحدة من الكتاب العربي لو كتبت بالحرف اللاتيني لاحتاجت إلى صفحتين على الأقل، فالكتاب المؤلف من مئة صفحة بهذا الخط الجميل لا يمكن رصفه بأقل من مئتي صفحة بالحرف اللاّتيني، ثم أن تطوّر واستعمال الحواسيب الإلكترونية المتطوّرة الحديثة تتّجه سريعاً نحو أساليب جديدة مبتكرة للكتابة، ومعنى ذلك هو العدول بالتدريج عن أسلوب الرصف الحرفي واختصار القوالب، وقد توصّل بعض العلماء إلى ابتكار رسوم حديثة للحرف العربي لا تخرجه عن شكله، ولا تبعده عن أصله، ومع استعمال الكومبيوتر واحتضانه وانتشاره وقبوله للحرف العربي بسهولة ويُسر بنجاح باهر وبنتيجة مُذهلة، سقطت دعوى الداعين إلى استبداله بالحروف اللاتينية، وبذلك يفقد خصوم هذه اللغة معركتهم.
إنه لمن المستغرب أن نجد بين ظهرانينا من يدعون إلى استبدال الحرف العربي بالحرف اللاتيني، متّخذين ممّا ابتدعه مصطفى أتاتورك للّغة التركية مثالاً يُحتذى، وكذلك بدعوى السّهولة واليسر وضبط الكتابة، وإبراز حركات الحروف، وهذه الدعوى باطلة من أساسها، تحمّس لها بعض خصوم هذه اللغة عرباً كانوا أم أجانب. ومن بين المفكرين الذين كانوا قد تحمّسوا لهذه الدعوى الكاتب سلامة موسى في مصر، الذي دافع عن هذه الفكرة، وقدّم تبريرات ومقترحات في شأنها، إنه يقول في ذلك: «هذا السّخط الذي يتولانا كلما فكّرنا في حالنا الثقافية وتعطيل هذه اللغة لنا عن الرقيّ الثقافي، تزيد حدّته كلما فكّرنا وأدّى بنا التفكير إلى اليقين بأن إصلاحها مستطاع، والقلق عام ولكنّ الجبن عن الابتكار أعمّ.
النّحو العربيّ أو قواعد اللغة
يشتكي النشء من متعلّمي اللغة العربية من صعوبة نحوها، وقد ذكّر البّاحث المغربي أحمد عصيد في هذا القبيل بما سمّاه «الصّعوبات الجمّة» لهذا النّحو، حيث يقول في ذلك «ونعتقد أن الأوراش الكبرى للغة العربية التي يعيها الأخصائيون في هذه اللغة وعيا تاماً تتعلق أساسا بضرورة النظر في النحو العربي وتحديثه، بسبب الصعوبات الجمّة التي يصادفها الأطفال والكبار على السّواء في تعلمه، وكذا النظر في الإملاء وتنميطه تنميطا حديثا».
إن الخطأ الفادح الذى يقع فيه واضعو مناهج التعليم في معظم البلدان العربية كونهم يلقنون القواعد في صورتها الجافة قبل النصوص، في حين نجد القائمين على مناهج التعليم في المدارس الأوروبية على اختلافها يعوّدون التلميذ على التعامل مع النصوص في المقام الأول، فهو يقرأ ويعيد ويحفظ من غير أن يكون ذا إلمام بعلم النحو، ثم يطبّق بعد ذلك ما قرأه على القواعد، فإذا أردنا الخروج بنحونا من صلابته علينا أن نكثر في المراحل الأولى من مناهج تعليمنا من النصوص، فالتعامل مع النصّ يكسب الطالب أو المتعلّم سليقة فطرية، ويعوّده بطريقة تلقائية على أشكال الحروف وبنائها وتراكيبها وتعدّد أساليبها، فقد وجدت النصوص مذ كانت العربية، أمّا النحو» كعلم قائم مدوّن» فلم يوضع إلاّ في زمنٍ متأخّر، أيّ في القرن الأوّل الهجري على يد الخليل بن أحمد الفراهيدي كما هو معروف.
مسألة الشّكل
وتنبثق عن النحو العربي مسألة اخرى يرى فيها البعض مشكلة قائمة بذاتها وهي مسألة” الشّكل” شكل الحروف العربية تفادياً للغموض واللبس والإبهام. وهناك إتهام مشهور يوجّه لأبناء اللغة العربية، في هذا الصدد، وهو أنه حتى كبار دارسيها يحارون أو يتعثّرون في بعض الأحيان عند قراءة نصّ من النصوص العربية مخافة الخطأ او اللحن ومن أجل شكلها شكلاً صحيحاً. على حين أننا نجد القارئ الفرنسي، أو الإسباني –مثلا- حتى وإن كان دون مستوى مرحلة الثانوية العامّة يقرأ النصوصَ في لغته بطلاقة من غير أن يرتكب خطأ واحداً، وهذه من أخطر الإتهامات التي توجّه للغة العربية، ويرى في ذلك الباحثون رأيين إثنين، يقول الأوّل:أن اللغة العربية ليست صعبة كما يدّعون، بل أن النقص كامن فيمن لا يجيدها حقّ الإجادة، وإذا كان المرء عالماً بأصولها، مطلعاً على أسرارها، دارساً لقواعدها، ملمّاً بأساليبها فإنّه لا يخطئ أبداً، في حين يذهب الرأى الآخر أن العربية فعلا تشكو من هذه النقيصة، ففيما يخصّ شكل الكلمات على الأقل. هناك كلمات يحار المرء في قراءتها القراءة الصحيحة وقد يقرأها على غير حقيقتها، وهناك أخرى يمكن نطقها على خمسة أو ستة أوجه، وهذه مشكلة في حدّ ذاتها، ولكن كما أسلفتُ آنفا فإنّه مع المِران، والممارسة، والقراءة المتعدّدة وتتبّع السياق كل ذلك يساعد على تفادى أمثال هذه الأمور التي لم تحلّ أبداً دون التأليف والخلق والإبداع المستمرعلى إمتداد التاريخ العربي الحافل بجليل الآثار في كل علم.
الفُصحىَ أم العاميّة
تعدّدت الدراسات بين مؤيّد للعامية متعصّب لها بدعوى التبسيط والسهولة واليُسر، وبين متمسكٍ بالفصحى لا يرضى بها بديلا. والحقيقة أن الغلبة كانت للفصحى على الرغم من هذه الدعوات والمحاولات، فكم من كاتب نادى وتحمّس للعاميّة وعمل على نشرها وتعميمها، ثمّ عاد يكتب بفصحى ناصعة صافية نقيّة، وفى فترة مّا من حياة الكاتب الراحل محمود تيمور كان قد تحوّل عن الفصحى إلى العامية بل ّنه كتب قصصاً بها غير أنه سرعان ما عاد كاتباً عربياً مبيناً، بل ومتحمّساً كبيراً للفصحى ومدافعاً عن لوائها كعضو بارز في مجمع اللغة العربية بالقاهرة. ودعوات الأديب اللبناني سعيد عقل، إلى إستعمال العامية معروفة وسال من أجلها حبر غزير.
هذا وقد أثير في المغرب مؤخّرا نقاش حام حول هذا الموضوع سرعان ما خبا أواره، وخمدت ناره، حيث دعا بعضُهم إلى إستعمال “الدّارجة” (العاميّة) بدل الفصحى في بعض مراحل التعليم، وعزا هؤلاء عن غير رويّة، ولا بيّنة ولا علم ولا برهان المشاكل التي يتخبّط فيها التعليم في هذا البلد وسواه إلى هذا الأمر، ولكن هذه الدعوة الواهية سرعان ما وئدت هي الأخرى في مهدها.
كلمات عربيّة وأمازيغيّة فى الإسبانية
الدّفاع عن لغة الضاد التي أصبحت اليوم فى نظر البعض من مكوّنات هويّات البلدان العربية، إلاّ أنّ هذا الدفاع لا ينبغي أن يثنينا أو يبعدنا عن العناية، والإهتمام، والنّهوض، والدّفاع كذلك بشكلٍ متوازٍ عن عناصر هامّة، وأساسيّة أخرى فى المكوّنات الأساسية للهوية الوطنية فى هذه البلدان ، وفى حالة البلدان المغاربية على سبيل المثال ، فإنّ اللغات الأمازيغية الأصليّة فيها قد تعايشت مع لغة الضّاد منذ أقدم العصور فى هذه الرّبوع والأصقاع،فى مجتمعات تتّسم بالعدّد والتنوّع والإنفتاح ،ليس على لغاتها ولهجاتها الأصلية المتوارثة وحسب، بل وحتى على اللغات الأجنبية الأخرى الدخيلة كالفرنسية، والإسبانية ،والإنجليزية، والإيطالية وسواها، وحسبي أن أشير فى هذا الصّدد إلى التعايش المتناغم الذي كان قائماً بين هذه اللغات برمّتها،والذي لم يمنع أبداً فى أن يكون هناك علماء أجلاّء فى هذه اللغة أو تلك من مختلف جهات ومناطق هذه البلدان،سواء البلدان المغاربية أو خلال التواجد الإسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية وبشكل خاص فى الأندلس،حيث تعايشت كلّ من اللغتين العربية والامازيغية جنباً إلى جنب،بل لقد كان لهما تأثير بليغ فى لغة سيرفانتيس ، وبحكم هذه المعايشة يرى المُستشرق أمريكُو كَاسْترُو أنّ معظمَ الكلمات الإسبانية التي لها علاقة بالعدّ، والقياس، والأكل ،والسّقي ،أو الريّ،والبناء،كلها من أصل عربي ، وهو يتساءل فى هذا القبيل : مَنْ يبني البِنَاء ؟ ألبانييل Albañil(بالإسبانية) وهو البَنَّاء ،أو الباني،وماذا يبني؟ القصرAlcázar، القبّة Alcoba ، السّطح Azoteaأو السقف (وهي بالتوالي تُنطقُ فى الإسبانية : ألكَاسَرْ،ألْكُوبَا،أسُوطييّا). وكيف وبماذا يسقي أو يروي الأرضَ؟ بالسّاقية Acequia، والجُب Aljibe ، وألبِرْكَة Alberca (وهي تُنطق فى الإسبانية):أسِيكْيَا،ألْخِيبِي،ألبيركَا. وماذا نأكل بعد ذلك؟ السكّرAzúcar، الأرزArroz ،النارنج Naranja ،الليمون Limón، الخُرشُف Alcachofa،التّرمُسAltramuces ، السّلق Acelgas، السّبانخ Espinacas(و هي تُنطق فى الإسبانية بالتوالي: أسوُكار،أرّوث،نارانخا،الليمون ،الكاشُوفا، ألترامويسيس ،أسيلغا، إيسبيناكاس).وبماذا تزدان بساتيننا، أوتُزَيَّنُ حدائقنا..؟ بالياسمين، Jazmín والزّهرAzahar، والحبَق Albahaca، وتُنطق بالإسبانية: أثهَار، خَاثْمين، وَألبَهاَكا،) بالإضافة إلى العديد من الكلمات الأخرى التي لا حصر لها كلّها دخلت وإستقرّت فى هذه اللغة، وما فتئت الألسنُ تلوكها ،والمعاجم تثبتها ،وتنشرها ،وتتباهى بها والكتب والتآليف والمجلدات والأسفار والوثائق والمظانّ تحفل بها بدون إنقطاع إلى اليوم سواء فى إسبانيا، أو ما وراء بحر الظلمات فى مختلف بقاع، وضِيَع، وأصقاع العالم الجديد.
وهناك كذلك العديد من الكلمات الأمازيغية التي إستقرّت بدورها فى اللغة الإسبانية نسوق منها فى هذه العجالة على سبيل المثال وليس الحصر،كلمات: (تَزَغّايثْ) أو الزغاية Azagaya (وتعني( الرّمح الكبير) وقد أثبتها المُستشرق الهولاندي الشهير”دُوزي” فى معجمه ككلمة تنحدر من أصل أمازيغي بربري، وإستعملها كولومبوس فى يومياته، بصيغة الجمع Azagayas( الزغايات) وهي موجودة، ومُدرجة فى معجم الأكاديمية الملكية للّغة الإسبانية بهذا المعنى،وغير موجودة فى المعاجم العربية لا” لسان العرب”،ولا”مقاييس اللغة” ولا “الصّحاح” في اللغة ” ولا ” القاموس المحيط ” ولا ” العُباب الزّاخر ” لا فى صيغة المفرد ، ولا فى صيغة الجمع ،مِمّا يدلّ الدلالة القاطعة على أصلها وأثلها الأمازيغي حسب ما يؤكّد المستشرق الهولاندي الثقة المعروف الآنف الذكر (رَيِنْهَارْت دُوزِي ـ (Reinhart Dozy) (ليدن، هولندا، 21 فبراير 1820 ـ والإسكندرية، مصر، 29 أبريل 1883) ، و هناك كلمة (آش) وتُجمع ب “أشّاون” وتعني القرون ومنها إسم مدينة (الشّاون) (شمال المغرب) المعروفة بفردوس الجبل الجميلة، ويؤكّد صاحب ” الإحاطة فى أخبار غرناطة ” إبنُ الخطيب أنّ النّهر الوحيد فى شبه الجزيرة الإيبيرية الذي يحمل إسماً أمازيغياً هو”مدينة آش” ،ونهر”وادي آش” أيّ وادي القرن وهو فى الإسبانية “Guadix “، أو “río de Acci”، “Wadi Ash”،” río Ash ” بالقرب من مدينة غرناطة.إلخ (وهكذا الأمر مع العديد من الأسماء المتعلقة بالقبائل، وبعض، الضّيع والمدن مثل مدينة Teruel الإسبانية (بالقرب من سراقسطة) المقتبسة من إسم مدينة ” تِرْوَال” المغربية بالقرب من مدينة وزّان بالمغرب ( وهي من قبائل بربرصنهاجة)، ومدينة Albarracín بالقرب من ترويل الإسبانية، ويرجع إسم هذه المدينة الى القبيلة البربرية “بني رزين” التي عاشت بها وإستقرت في ربوعها في القرن الثالث عشر، وآخر ملوكها حُسام الدّولة الرزيني، وهي تنحدرمن” بني رزين ” وهي قرية أمازيغية جبلية مغربية والكائنة فى الطريق السّاحلي الرّابط بين تطوان والحسيمة .ومنها كذلك كلمات مثل Bargas وهي من أبرقاش، وهي قرية تقع بالقرب من طليطلة ،كما أنها إسم نسب موجود فى كل من المغرب وإسبانيا، و Gomera من “غمارة” وهي عند الإسبان إسم جزيرة فى الأرخبيل الكناري، de Gomera Vélezوهذه الكلمة من إسم ” بادس” وهو(إسم شبه الجزيرة المحتلة من طرف الإسبان إلى اليوم الكائنة بجوار شاطئ ” قوس قزح” وبني بوفراح ونواحيها بإقليم الحسيمة)،وإليها يُنسب الوليّ الصّالح أبو يعقوب البادسي،الذي ذكره إبن خلدون فى مقدمته بكل تبجيل،كما تحمل إسمَه الكريم أعرقُ ثانوية فى مدينة الحسيمة، وإسم بادس مُستعمَل بكثرة فى إسبانيا مثل:Vélez Rubio, Vélez Malaga,Velez Benaudalla,Velez Blanco ,Rio Vélez, إلخ ، وفى العامية المغربية نجد العديد من الكلمات الأمازيغية (سوسية، وشلحية، وريفية) مبثوثة فيها ، نسوق واحدةً منها فقط على سبيل المثال لضيق الوقت،(لعلّها تفي بالغرض ) ! وهي كلمة” تاغنّانت” ألتي إستقرّت فى العامية بإسم ” أغنان” والتي يقابلها فى العربية كلمة “العِناد” !، ولا وجود لكلمة (أَغْنَانْ أو غَنَنَ) فى المعاجم العربية بهذا المعنى. ناهيك عن أسماء المنتوجات التي أدخلها المسلمون إلى أوربا فى مختلف الحقول والمجالات . ويصل “أمريكو كاسترو” إلى نتيجة مثيرة فيقول: ” إنّ فضائلَ الأثر والعمل عند المسلمين ،والثراء الإقتصادي الذي كان يعنيه هذا العمل وهذا الأثر كلّ ذلك قُدِّمَ قُرْباناً وضحيةً من طرف الحكّام الكاثوليك والإسبان”. ويختم “كاسترو” بكلماتٍ مغلّفةٍ بسخريةٍ مُرّة من بني طينته مُشيراً :” أنّ ذلك الثّراء ، وذلك الرّخاء ، لم يكونا يساويان شيئاً إزاء الشّرف الوطني .”..!!!.
لغة الضاد وتأثيرها فى الإسبانيّة
ولا يمكن أن يستسيغ الحديث عن “أوج” اللغة الاسبانية، وتراثها ،وغناها ،وإنتشارها من دون التطرّق إلى الأصول التي تنبثق، أو تستمدّ، أو تنبني عليها هذه اللغة ، فعلى الرّغم من جِذرها، وأثلها اللّاتينيين، فإنه معروف لدى جميع جمهرة الباحثين، وغير الباحثين مدى التأثيرالبليغ الذي أحدثته لغة الضّاد في هذه اللغة على إمتداد القرون الثمانية التي كانت الغلبة فيها من دون منازع لها في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ الفتح الإسلامي عام 711 م إلى سقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية في الاندلس وهي غرناطة 1492م، بل لقد تأكّد بما لا يترك مجالاً للشكّ والرّيبة للباحثين، والمتخصّصين أنّ الوجود العربي والأمازيغي بالاندلس إستمرّ حتى القرن السادس عشر عندما تمّ طرد وإبعاد آخر الموريسكيين الذين ظلوا متستّرين في المدن والقرى ،والضيع،والمداشر، والمدائن الأندلسية ، وقد بلغ عددهم سبعة آلاف عام 1588، وعشرات الآلاف عام1609وهكذا لا ينبغي إطلاق الكلام على عواهنه في هذا المضمار،بل يجب إعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقه، ووضع الأمور في نصابها إحقاقاً للحقّ، وصَوناً لمجرىَ التاريخ ،وحفاظاً للأمانة العلمية والتاريخية فى هذا القبيل .
ففي هذا السياق يؤكّد جميعُ الباحثين، والمؤرّخين، والمثقفين إسباناً كانوا أم غير إسبان هذا التأثير البليغ والعميق الذي أحدثته الحضارة الإسلامية في الأندلس، ليس في ميدان اللغة وحسب، بل في مختلف مناحي الحياة كما هو معروف بما لا يترك مجالاً للشكّ، وقد سلّم العديد من هؤلاء المثقفين الإسبان بالخصوص بهذه الحقيقة ، بل ذهب بعضُهم أبعد من ذلك حيث أكّد الرّوائي العالمي الراحل خوان غويتيسولو،والكاتب الإسباني المعروف أنطونيوغالا، وقبلهما شيخ المستشرقين الإسبان إميليوغارسيا غوميس، وكذا الباحث الاسباني الكبير بيدرو مارتنيس مونتافيس وسواهم أنّه يستحيل فهمُ وإستيعابُ تاريخ إسبانيا وثقافتها ولغتها على العموم فهماً وإستيعاباً حقيقيين دون معرفة اللغة العربية وثقافتها .
والسؤال الذي يطرح نفسَه بإلحاح فى هذا السياق هو: كيف إذن لا توجد هناك أيّ دراسة معمّقة أوتحليل ضاف لهذه البدهية في مختلف المؤتمرات ،والندوات، والتظاهرات الكبرى التي تنظّم بين الوقت والآخر حول الأخطار التي قد تحدّق، أو تداهم اللغة العربية ، أو حول التأثير المتبادل بين هذه اللغة أو تلك..؟
بل إنّ هذا الشطط قد يحدث حتى عند بعض الإسبان الذين يحظون بشهرة عالمية واسعة مثلما حدث مع الكاتب الاسباني الراحل “كاميلو خوسي ثيلا “الحائز على جائزة نوبل في الآداب، فقد فاته وهو يحاضر في مؤتمر عالمي حول الرّوافد التي أثّرت في اللغة الاسبانية الإشارة صراحة وبكل وفاء إلى هذه الحقيقة البدهية ، وإبراز فضل اللغة العربية على الاسبانية ، وهو الذي يستعمل في حديثه اليومي، وكتاباته المتواترة، ورواياته العديدة عشرات الكلمات العربية أو من أصل عربي، بل هو الذي وضع روايةً تحمل عنواناً عربياً واضحاً وهي روايته المعروفة ” رحلة إلى القارية” ،والقاريّة من السّنام أعلاه وأسفله ، أو القرية ، إلاّ أنّ هذا الكاتب نفسه تراجع – على الرغم من ذلك- وأكّد خلال ندوة دولية أخرى لاحقة أنّ لغتنا العربية ستصبح في قريب الأعوام من أولى لغات العالم أهميةً وإنتشاراً، حيث قال بالحرف الواحد: “نحن الإسبان، وسكان أمريكا اللاتينية الناطقين بالاسبانية نعرف جيّداً أننا أصحاب لغة سوف تصبح في المستقبل القريب من أعظم اللغات الحيّة في العالم، وأنتم تعرفون اللغات الثلاث الحيّة الباقية وهي الإنجليزية والعربية والصينية” .
كريستوفر كولومبُوس واللغة العربية
ومن أطرف ما يمكن أن يحكى فى هذا القبيل،أيّ فى مجال التأثير (اللغوي) العربي- الأمازيغي فى المجتمع الإسباني، كذلك، هو أنّ الرحّالة الشّهيركريستوفر كولومبوس نفسه إستعمل كلمات من أصل عربي أو أمازيغي فى يومياته الشّهيرة ليس فقط تلك التي لها علاقة بميدانه أيّ علوم البحر، ومعارف الإبحار التي برع فيها العرب وألفوا وصنّفوا ، بل فى المسمّيات اليومية العادية، ويكفي أن نستدلّ فى هذا الشأن على سبيل المثال وليس الحصر بالفقرة الأخيرة من يوميات كولومبوس بعد وصوله إلى اليابسة، وهي الفقرة التي تحمل تاريخ السبت 13 أكتوبر1492 من هذه اليوميات حيث يقول :”وعند الصّباح حضر إلى الشاطئ عدد غفير من هؤلاء القوم ثمّ ، قَدِمُوا فى إتّجاه المركب بواسطة (المعدّيات) فى الأصل الإسباني كما نطقها كولومبوس(ألميدياس)، (مفردها المعديّة وهي كلمة أوردها معجم الدكتور عدلي طاهر نور فى كتابه الآنف الذكر، وهي مَرْكب أو زَوْرق صغير يعبر عليه من شاطئ إلى آخر ، ومنها عدوة الأندلس، أو عدوة سلا والرّباط على نهر أبي رقراق)، إلى أن أن يقول :”وإستقدموا معهم لفائف من( القطن) ، ( وهي كلمة عربية كذلك ونطقها كولومبوس” ألغودون” كما تنطق اليوم فى الإسبانية)، وكانوا يحملون( الزغّايات) ،وجاءت هذه الكلمة فى يوميات كولومبوس باسم “أزاغاياس” وهي ( من الزغّاية وهي الرّمح أو الرّماح وحسب معجم دوزي هي كلمة من أصل بربري أمازيغي تعني الآن عند الإسبان الحربة القاطعة التي تثبت فى الطرف الأعلى للبندقية التي كان يحملها رجال الحرس المدني الإسباني وحرّاس الليل الذين كان يطلق عليهم فى اللغة الإسبانية حتى عهد قريب إسم (سيرينوس). ويضيف كولومبوس: كما إستقدموا معهم طيور( البابّاغايوس) “جمع الببّغاء وهو طائر يُطلق على الذكر والأنثى، من خصائصه أنّه يحاكي كلامَ الناس”، وهكذا نجد فى فقرة قصيرة جدّاً من هذه اليوميّات الكلمات العربية والأمازيغية التالية:( المعديّة،القطن،الزغّاية، الببّغاء) بالإضافة إلى كلمات أخرى وفيرة مبثوثة هنا وهناك من هذه اليوميات ، بل إنّ كولومبوس نفسه كان يحمل لقباً عربياً وهو ” أمير البحر” وينطق فى الإسبانية محرّفاً بعض الشئ (ألميرانتي) ، وما زال هذا اللقب يستعمل فى الإسبانية إلى اليوم .
المستشرقون ولغة الضّاد
يقول المستشرق الفرنسي «لوي ماسّنيون» في كتابه (فلسفة اللغة العربية): «لقد برهنت العربية على أنّها كانت دائما لغة علم، بل وقدّمت للعلم خدمات جليلة باعتراف الجميع، كما أضافت إليه إضافات يعترف لها بها العلم الحديث، فهي إذن لغة غير عاجزة البتّة عن المتابعة والمسايرة والترجمة والعطاء بالروح والقوّة والفعالية نفسها التى طبعتها على إمتداد قرون خلت، إنها لغة التأمل الداخلي والجوّانية، ولها قدرة خاصّة على التجريد والنزوع إلى الكليّة والشمول والإختصار..إنها لغة الغيب والإيحاء تعبّر بجمل مركزة عمّا لا تستطيع اللغات الأخرى التعبير عنه إلاّ في جُمَلٍ طويلة ممطوطة». إنّه يضرب لذلك مثالاً فيقول: «للعطش خمسُ مراحل في اللغة العربية، وكلّ مرحلة منه تعبّر عن مستوى معيّن من حاجة المرء إلى الماء، وهذه المراحل هي: العطش، والظمأ، والصَّدَى، والأُوّام، والهُيام، وهو آخر وأشدّ مراحل العطش، وإنسان «هائمٌ» هو الذي إذا لم يُسْقَ ماء مات»، ويضيف ماسّينيون: «نحن في اللغة الفرنسية لكي نعبّر عن هذا المعنى ينبغي لنا أن نكتب سطراً كاملاً وهو «إنه يكاد أن يموت من العطش» ولقد أصبح «الهيام»(آخر مراحل العطش وأشدّها) كناية عن العشق الشّديد. وآخر مراحل الهوى، والجوى، والوله، والصّبابة. يرى «بروكلمان» أن معجم اللغة العربية اللغوي لا يضاهيه آخر في ثرائه. وبفضل القرآن بلغت العربية من الاتّساع إنتشاراً تكاد لا تعرفه أيُّ من لغات الدنيا. ويرى «إدوارد فان ديك»: أن العربية من أكثر لغات الأرض ثراءً من حيث ثروة معجمها وإستيعاب آدابها». المستشرق الهولندي «رينهارت دوزي» (صاحب معجم الملابس الشهير): يقول» أن أرباب الفطنة والتذوّق من النصارى سحرهم رنين وموسيقى الشّعر العربي فلم يعيروا إهتماما يُذكر للغة اللاتينية، وصاروا يميلون للغة الضاد، ويهيمون بها.» يوهان فك»: يؤكّد أن التراث العربي أقوى من كلّ محاولة لزحزحة العربية عن مكانتها المرموقة في التاريخ». جان بيريك: «العربية قاومت بضراوة الاستعمار الفرنسي في المغرب، وحالت دون ذوبان الثقافة العربية في لغة المستعمر الدخيل». «جورج سارتون»: «أصبحت العربية في النّصف الثاني من القرن الثامن لغة العلم عند الخواصّ في العالم المتمدين». وهناك العشرات من أمثال هذه الشهادات التي لم تُخْفِ إعجابها الكبير بلغة الضاد يضيق المجال لسردها في هذا المجال.