نعتقد أنه يصعب القيام بقراءة علمية للصراعات القائمة بين أفراد المجتمع في كافة المجالات وفي الشأن العام بالخصوص وفق بعد واحد كما يفعل بعض المحللين الذين لا يستطيعون استحضار واقع اللامعيارية وفق تفسير ريبوت ميرتون كعنوان لمعاناة الفرد الإنساني والمتجلية في عدم التكافؤ بين اقتدراته ومهاراته وإمكاناته من جهة وطموحاته وتطلعاته من جهة أخرى، تم المعايير التي تؤطر حضور الناس في العقل السياسي وما ينتابه من صعوبات تتمثل في التمييز والانتقائية وأساليب التحالف الظرفي والإبعاد.

          ونرى في هذه المقالة التي هي جانب من بحث علمي مطول حول هذا الموضوع  أنه في العالم المعاصر قد يبدو أن الصراع يقوم على مصالح عندما يتعلق الأمر بالمسائل ذات الطابع الدولي حيث تناور كل دولة وتفاوض من أجل مصالحها بالمقاربة المناسبة لها. أما عندما يصل الأمر بتدبير الشأن العام الداخلي، فإن التدافع الذي قد يكون في غالب الأحيان بين من يحاولون اختزال الديمقراطية في التنافس الانتخابوي عبر التجييش والترغيب والترهيب تأمينا للوصول إلى مواقع يستطيعون عبرها تأمين تحكمهم في كل ما يستغلونه من ثروات وحمايتها بالإضافة إلى تنحية كافة المرافق العمومية وخصخصتها.

         وفي ظل هذا التجاذب المفعم بتعميق ترديات العيش المركزة على تدمير الشخصية الإنسانية بمناهج سامة ومتجددة يأتي التساؤل بشأن حقيقة الصراع السياسي داخل الأحوال المجتمعية المرتبكة ومآل الإنسان وأحلامه في كنف مسرح قد يتسع عدد الممثلين فوقه أفراداً وجماعات. وقد تتعدد المسرحيات التي يقدمها وقد تتناقض لكن مؤلفها ومخرجها واحد ووحيد قد يكون فردا أو مجموعة.

         فالإنسان العصي عن التنميط هو إنسان المعرفة والبحث العلمي القوي على الإسهام في تصنيع السياسة، وليس فقط المشاركة في الانتخابات أو ما يسميه البعض بالتشاور العمومي أو من خلال تشجيع الجمعيات المهتمة بالشأن العام. بل بقدرته على إعطاء تصورات جديدة تتجدد مدلولاتها بتجدد الإنسان للمجتمع والأسرة والدولة والحزب والإدارة والقانون والدستور والاقتصاد والعلم والتربية والإعلام والحرية والسياسة.

    وهكذا فالمشاركة السياسة لا تعني أن يذهب المرء للاستفتاء على الدساتير، ولكن المشاركة تتجلى في قدرته في أن يسهم في الحوار المجتمعي كورش دائم بشأن الدستور كتعاقد مجتمعي، مما يتطلب إحداث قطيعة مع النماذج المعتمدة في التنمية والتعليم والتكوين بل والتخلص من كافة ذهنيات التثقيف على الاستبعاد والاستعلاء الاجتماعي، مع الحرص        على استرجاع العافية النفسية والاجتماعية للأفراد والجماعات والمجتمع على قواعد علوم التفاوض وإدارة الأزمات والبحث العلمي الإمبريقي الذي يتيح كل فرص الارتقاء بناء على نتائج تتسم بالصلاحية العلمية.

    وإذ كان هذا المقال مجرد قراءة قادرة لواقع معاناة أجيال دمرتها آليات التدجين والصراعات الهامشية والإدارة بالأزمات، التي تواجه بشراسة أي تطلع نحو قيم جديدة، فإن غرضها يتمثل في التفاعل مع الصعوبات التي تطال الواقع المجتمعي المأزوم تحت وطأة الدعاية لأفكار التنميط والتدجين والتشويه والحيلولة دون انطلاقة أية مبادرة للتمكين الإنساني التواق للإسهام في تشيد الحضارة الإنسانية.

         ويجذر بنا القول أنه من الصعب التعويل على الأجوبة التي تذهب الى وجود انتقال نحو مجتمع الحقوق والحريات، في الوقت الذى توسعت فيه الصعوبات وتعمقت وكثرت العوائق وتنوعت جراء اختزال العناية بالعنصر البشري، وفق برامج الاستبعاد الاجتماعي المنشأة على قيم الفقر والتسول والتبعية، وليس وفق قيم التمكين من أجل الكينونة المتحضرة.

      فالمشاركة السياسية تعني أن المنتخب بصفة عامة يحمل مشروعا، كان محل تعاقد مع الناخبين ويجب على المنتخب تنفيذه تحت مراقبة الناخبين وهذا غير متأتي ويصعب تأمينه في الوقت الذى يتم الحديث عن المساواة والمناصفة وتكافؤ الفرص وتختزل وفق ذلك في تحقيق المناصفة، كهدف عام.

      لكن عن أية مناصفة يتحدثون هل هي المناصفة في تحمل أعباء العيش اليومي الصعبة تكلفته؟ أم المناصفة في الاقتصاد؟ هل إعمال ربط المسؤولة بالمحاسبة هدفا؟ أم وسيلة لتأمين الأداء لكافة الأجهزة الساهرة على العمليات الإنتاجية؟ هل تشخيص الاختلالات لرفع تحديات الفساد هدف أم مجرد إجراء يتوجب القيام به قبل وبعد وبموازاة مع العمليات الانتاجية؟ هل تدبير المرافق العمومية يحتاج إلى ميثاق أم ينطلق بآليات وقدرات وإمكانيات تؤمن نجاعة المرفق العمومي المفكر بواجب تأمين احتياجات المرتفقين المتسمة بالتطور والتوسع على قاعدة الدولة بكافة أجهزتها ومرافقها في خدمة المرتفقين وليس العكس؟

      إن الأمر يتطلب في نظرنا الرفع من مستوى الرضى الوظيفي لدى القيمين على المرافق العمومية بكل أبعاده وخاصة البعد الشخصي والبعد المعرفي والبعد السيوسيو اقتصادي والبعد المهني. ولعل من أهم الآليات التي يجب فتح ورش علمي بشأنها هي الحرص على التخلص من الفلسفة التقليدية المعتمدة في السياسة الجنائية بفلسفة تنشد صياغة مدونة للتضامن الإنساني ضد الجريمة تكفل بشكل متوازن حقوق الضحايا وتصون أمن المجتمع العام وتعالج أصحاب التصرفات الإجرامية. عبر العقوبة وبدائلها العلاجية والتأهيلية والتمكينية.

       وإذا كانت السياسات القائمة على التمكين الإنساني الرافض لتجييل الحقوق والحريات حيث تركز على التربية والتكوين من المهد إلى اللحد، ليس من أجل جودة المنظومات ولا لدعم المساواة أو التنمية المستدامة فحسب ولكن من أجل الإنتاج المعرفي والعلمي والتقني بشكل متجدد قوي على ابتكار وإبداع العديد من أسواق الشغل وفرص وآفاق الارتقاء السيوسيو اقتصادي ولا ينحصر دورها كما يريد لها البعض ويحصره في الاستجابة لحاجيات أسواق الشغل الحالية من اليد العاملة.

      وباعتبار أن التربية عملية إنسانية مستدامة تعتمد على مستجدات المعارف والعلوم والتقنيات من أجل تمكين الفرد الإنساني بكل الأنساق المكونة للمجال الحيوي، هو ما يدفعنا الي التساؤل هل صحيح أن القول برؤية استراتيجية تطال حقبة زمنية تستطيع صياغة ذوات انسانية فاعلة قوية على التواجد المفكر والمبدع والمنتج والقائد لعالم التمكين الإنساني، وهي رؤية تختزل التربية في خدمات الحصول الدراسة، ولا تأبه بالحضن الأسري وبالمساحة الزمنية للعمر اليومي للفرد الإنساني خارج المدرسة وخارج البيت بل وخارج العمل والتي تفوق أكثر من عشر ساعات في اليوم.

      وفي ظل الاحتجاج من أجل الشغل الذي تتسع رقعته إلى درجة أن الحصول على عمل في ظل علاقات إنتاجية غير متكافئة، قد تحوله إلى امتياز مهما وصل مستوى التدهور الذي يطال علاقات الشغل في القطاعين العام أو الخاص. فالشغل يصعب تأمينه بالاقتصار على عامل جلب الاستثمارات الخاصة الوطنية أو الأجنبية، وذلك في غياب المعرفة العلمية والتقنية المتجددة.

    فهذا النوع من المعرفة، لا يمكن إنتاجه بدون استثمار عمومي سواء أكان مركزيا أو ترابيا وحتى قطاعيا في البحث العلمي، يضع من بين أهدافه الانتقال الي الاقتصاد المعرفي، وذلك عبر الارتقاء بمراكز التكنولوجيا وكليات ومعاهد العلوم إلى أكاديميات متخصصة في اقتصاديات المعرفة، مع تحويل كليات ومعاهد الطب والحقوق والآداب والعلوم الإنسانية والشريعة إلى أكاديميات التمكين الإنساني. هذه الافكار هي مجرد تساؤلات، قد نتقاسم فيها صياغة متنفسات لقلق مشترك وهدف محوري أساسه النهوض بالإنسان صيانة للحاضر والمستقبل أيضا على قواعد إنسانية قوية على تحمل التحديات المطروحة في واقع متغير.