1- أزمة “الديمقراطية” وليس فشل “نموذج تنموي”.

ما يعانيه النظام السياسي والاجتماعي و الثقافي في المغرب يتلخص في أزمة “الديمقراطية” وليس فقط فشل “نموذج تنموي”. أزمة “الديمقراطية” تجلت فشل محاولات بلورة نظام سياسي بتركيب مؤسسات سياسية وإيديولوجية متناقضة تتمثل في مؤسسة تقليدية (مؤسسة دينية ومؤسسة مخزنية ومؤسسات حديثة (برلمان، حكومة، قضاء، جماعات ملحية…). 

وعكس هذا التصور الذي ساد في المغرب مند 1956، الديمقراطية اليوم إما أن تكون بمضمونها الشامل السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي، وفق رؤية ديمقراطية حقيقية تخدم مصالح الطبقات الشعبية التي تطالب بالمساواة وبحقوقها الاجتماعية والإقتصادية والمدنية وبالحرية وبالكرامة وبالمساواة كما عبرت عنها سابقا جماهير “حركة 20 فبراير”، تمثل هذه الديمقراطية الحقيقية مطلبا أساسيا للطبقات الشعبية المغربية ونضالها الجماهيري.

أو لا تكون…

 لكن الجديد اليوم، مرة أخرى، هو توفر الشرط الموضوعي للتغيير الديمقراطي الحقيقي عبرت عنه الاحتجاجات الاجتماعية العفوية والمنظمة التي ترفض السياسة السائدة، أي ترفض التصور المختزل و المزيف للديمقراطية. و ما يجري في منطقة الريف وجرادة وزاكورة وتندرارة والرشيدية وطانطان… ومناطق أخرى بحدة أقل، يؤكد أن صيرورة إنضاج الشرط الموضوعي للتغيير الديمقراطي الجذري متوفرة وطنيا بنسبة كبيرة يوضح التناقض بين هذا الشرط السياسي الموضوعي للانتقال إلى الديمقراطية وبين المؤسسات السياسية السائدة في النظام السياسي.

وعامل آخر يزيد من أزمة النظام السياسي والاجتماعي و الثقافي هو تضخم واقع اجتماعي شعبوي تبلورت داخله نزعات التطرف الديني بسبب ما تروجه خطابات حركات الإسلام السياسي و”فقهاء” التطرف ديني وثقافة الانغلاق الهوياتي  من جهة؛ ومن جهة ثانية السياسة الدينية الرسمية السائدة التي لا تفصل بين السياسة والدين. هذا التطرف الديني الذي أنتج الإرهاب دفع الدولة إلى سن “قانون الإرهاب” وبلورة سياسة أمنية جديدة. لكن سيتم تعميم هذه السياسة الأمنية في المغرب لمواجهة الاحتجاجات الشعبية في عدة مناطق، مما يجعل الشعب المغربي وحركاته الاجتماعية والسياسية المناضلة تعيش شبه حالة استثناء عير معلنة.

واتضح في الواقع السياسي أن رد القوى الديمقراطية واليسارية غالبا ما يواجه هذه المقاربة الأمنية بالخطاب، إذ لم تستطع هذه القوى أن تتوحد حول تصور وبرنامج سياسي مرحلي لمواجهة التراجعات الكبيرة التي تمس بعض المكتسبات السياسية وفي مجال حقوق الإنسان، على هزالها في الواقع، والنضال من أجل دستور ديمقراطي صياغة وإقرارا ونظام سياسي ديمقراطي ومجتمع ديمقراطي، مؤطرين بثقافة وممارسة سياسية واجتماعية ومدنية ديمقراطية تحترم حقوق الانسان، لعزل الإرهاب الإسلاموي والقضاء على أسبابه وعلى كل نزعات الإجرام والفوضي.

وأزمة الواقع السياسي الاجتماعي أصبحت أكبر وأضخم من برامج وإجراءات الحكومة وقوانينها المالية، و يتجلى ذلك كون الأحداث السياسية والاجتماعية والاحتجاجات الاجتماعية تجاوزت الحكومة وسياستها. ونعتقد أن سياسة الترقيع يم تعد تنفع مع أن أعلى سلطة سياسية في البلد أقرت بفشل ما يسمى “النموذج التنموي” الذي صاغته وأقرته هذه السلطة السياسية نفسها.

2- من أجل ديمقراطية حقيقية

نعتقد أن الديمقراطية وفقا لرؤية شاملة بعمق الاجتماعي والثقافي بقدر ما يجب أن تتجسد في الطبيعة الديمقراطية للنظام السياسي وممارسات إداراته ومؤسساته السياسية والاجتماعية بقدر ما من المفروض أن تتأسس على/ ويتم بناؤها في البنيات والممارسات المجتمعية والمصالح الاقتصادية والاجتماعية والثقافية المجتمعية أي في العلاقات الاجتماعية برمتها.

واقع بعض القيادات السياسية الديمقراطية لا تستفيد من التجارب السياسي التي عاشتها، وبالتالي لا يمكن لتجاربها السياسية أن تفرز تغييرا نوعيا في ممارستها السياسية لتستطيع المساهمة في تقوية المد الديمقراطي الاجتماعي والسياسي الذي تبلوره نضالات الحركات الاجتماعية.      

وقد بينت تجربة ما سمي بـ”التناوب التوافقي”، الذي تبلور بعد أزمة “السكتة القلبية” الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي وصلها الواقع المغرب في منتصف تسعينات القرن الماضي، تلك التجربة التي اعتقد خلاله آنذاك عبد الرحمان اليوسفي، زعيم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أن “الـْكـَـلـْـمَة” و”الـْـقَسَم” على القرآن،ستمكن “التناوب التوافقي” الذي تبلور بينه وبين الملك الراحل الحسن الثاني، من فوق ودون ارتباطه السياسي بواقع الطبقات الشعبية وبضرورة وعيها السياسي الديمقراطي، اعتقد أن هذا “التناوب الفوقي” يمكن أن يتحول إلى “تناوب ديمقراطي” بإرادة سياسية مشتركة بين الاتحلد الاشتراكي للقوات الشعبية والمؤسسة الملكية والمخزن.

وبينت تجربة “التناوب التوافقي” فشل هذه الرؤية السياسية في الانتقال إلى الديمقراطية خطوة خطوة، بإرادة فوقية، ومن داخل نظام سياسي مخزني تبعي يتشبث بمخزنيته وبتبعيته وبطقوسه، كما بينت أن سبب فشل تجربة “التناوب التوافقي” في الانتقال بالمغرب إلى ديمقراطية حقيقية  تبلورت معزولة عن المشاركة الفعلية والواعية للجماهير الشعبية وعن الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي للمجتمع وللشعب.

إن الذي غاب في رؤية عبدالرحمان اليوسفي عند قبوله بتشكيل حكومة “التناوب التوافقي” وتقديره السياسي بإمكانية الانتقال إلى “تناوب ديمقراطي” ببناء الديمقراطية من فوق، هو أن الديمقراطية صراع مصالح طبقية يتبلور سياسيا ومجتمعيا واقتصاديا و ثقافيا بين القوى الديمقراطية وبين القوى المخزنية الاستبدادية والرجعية، ولن يتحقق الانتقال إلى الديمقراطية في هذا الصراع إلا بانهزام كامل سياسي واجتماعي وثقافي لقوى الاستبداد والمخزن والرجعية.

وإذا حللنا الديمقراطية، وفقا للتجارب الإنسانية التاريخية، فإنها تبلورت عبر ثورة اجتماعية وثقافية ديمقراطية غيرت العلاقات الثقافية فكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية السائدة بعلاقات ديمقراطية جديدة سياسية واجتماعية وثقافية داخل المجتمع وفي ممارسة وعلاقة الدولة/السلطة بالمجتمع و بالطبقات الشعبية، أي أن الديمقراطية تتبلور من التحت، من طموحات ونضالات حركة اجتماعية وفكرية وثقافية وسياسية ديمقراطية منظمة لطبقات الشعب المغربي ولمثقفيه ولمثقفاته الديمقراطيين. 

وما يعانيه الوضع السياسي والمجتمعي في المغرب هو غياب شبه كامل لعلاقة سياسية جدلية بين نضال الحركة الجماهيرية التي هي أكثر عفوية وأقل سياسة وتنظيما وفاقدة لقيادة سياسية ديمقراطية وبين قوى سياسية ديمقراطية ويسارية موحدة حول مشروع ديمقراطي بديل واضح. 

ولذلك، تعلمنا دروس الواقع والصيرورة النضاليين لـ”حركة 20 فبراير” أن الديمقراطية صيرورة تاريخية لبناء قوة اجتماعية ديمقراطية وقيادة ديمقراطية من الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء وعموم الأجراء محدودي الدخل والمثقفين والمثقفات الديمقراطيين الثوريين وفئات اجتماعية شعبية لها مصلحة مرحلية واستراتيجية لتحقيق نظام سياسي مجتمع ديمقراطيين. 

وهذا لا يعني أن أفراد قلة قليلة من البرجوازية الكبرى الذين يحملون وعي وطني ديمقراطي مناهض لاقتصاد الريع وللسيطرة الرأسمالية الامبريالية لا يمكن أن يصبحوا، في صيرورة الصراع الديمقراطي للطبقات الشعبية، برجوازية وطنية ديمقراطية منخرطة مع جماهير الشعب بأشكال مختلفة في النضال الديمقراطي العام شرط أن تحدث هذه الفئة من البرجوازية قطيعة مع المؤسسة المخزنية وتناضل ضد النسق المخزني وضد اقتصاد الريع وبالتالي تتحرر من سيطرة الرأسمالية التبعية والرأسمالية الامبريالية المعولمة.

لكن اليوم في الواقع السياسي الملموس، هذه الفئة القليلة من البرجوازية الوطنية لا زالت مصالحها مرتبطة بمصالح المخزن الاقتصادي والسياسي  وتتفادى مواجهته كما أن مصالحها لا زالت مرتبطة بمصالح الشركات الرأسمالية الإمبريالية المُسْتَوْطِنَة في المغرب.