شهد المجتمع المغربي خلال السنوات الأخيرة احتقانا وتوترا متصاعدا، وذلك نتيجة الأزمة الاجتماعية المتفاقمة، والتي من أهم تجلياتها تزايد معدلات البطالة والفقر والهشاشة، واتساع الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، نتيجة رفع الدعم عن المواد الأساسية، وقد ضربت هذه الأزمة الفئات المتوسطة والفقيرة على حد سواء، وكان من تداعياتها تفجّر الاحتجاجات الشعبية في عدد من المناطق، أبرزها في الريف وجرادة، والتي خرج فيها المحتجون رافعين مطالب اجتماعية واقتصادية.       

وإذا كانت الحركة الاحتجاجية السلمية التي عرفتها بعض المدن والمناطق، جاءت نتيجة وجود احتقان اجتماعي، وغياب مؤسسات الوساطة المتمثلة في الأحزاب والنقابات وجمعيات المجتمع المدني، فإن هذه الحركة العفوية، لم تكن خاضعة لتأطير سياسي أو أيديولوجي، وهو ما جعلها غير قابلة للضبط والاحتواء، رغم كل المحاولات التي بذلتها السلطة لأجل إقناع المتظاهرين بإنهاء حركتهم الاحتجاجية والقبول بالمبادرات التي اتخذتها، مما أدى بها إلى تغيير تعاطيها مع تلك الاحتجاجات من خلال لجوئها إلى الحل الأمني..  

ونتيجة الاحتقان الاجتماعي الذي لا يزال قائما، أطلق بعض النشطاء المغاربة في مواقع التواصل الاجتماعي هذه الأيام، حملة مقاطعة لبعض المواد الاستهلاكية، ولقيت تجاوبا واسعا في الواقع من طرف فئات مختلفة من المواطنين، وهذه هي المرة الأولى التي يحدث فيها مثل هذا النوع من الاحتجاج المدني على الصعيد الوطني، في حين أُطلقت حملات سابقة للمقاطعة على الصعيد المحلي فقط في بعض المدن كطنجة وتطوان.  

يجب الاعتراف أنه ليست في ثقافة الشعب المغربي، أن يقوم بحملة مقاطعة لبعض المواد والمنتوجات الاستهلاكية، لأن هذه الثقافة نشأت وترسخت في المجتمعات الغربية، نتيجة تطور وعي الشعوب بأهمية التضامن والتوحد من أجل الدفاع عن القدرة الشرائية للمواطن- المستهلك، وقد ساهم في انتشار ثقافة المقاطعة مناخ الحريات والحقوق الذي يسمح بممارسة كل أنواع الاحتجاج السلمي.

وبحكم أن المغاربة منفتحون على الثقافة الغربية، فإنهم بلا شك تأثروا بها في حياتهم اليومية، ومنذ زمن وهم يسمعون عن حملات المقاطعة في الغرب، والتي يقوم فيها المواطنون بالامتناع عن استهلاك أو اقتناء بعض المواد والمنتجات الاستهلاكية، إما بسبب غلائها أو الزيادة في ثمنها أو ضعف جودتها، وذلك من أجل الضغط على الشركات المنتجة لتلك المواد والمنتجات، وحملها على تخفيض ثمنها أو تحسين جودتها.

سلاح المقاطعة جديد على المجتمع المغربي، وكان معروفا عند فئة قليلة من المثقفين والسياسيين، لكنه كان يُستخدم في مواجهة قوى خارجية، حيث كانت بعض الأحزاب والجمعيات المدنية تنظم حملات مقاطعة لبعض السلع الأمريكية مثلا كأسلوب احتجاج على دعمها للاحتلال الصهيوني، ومع تدشين حملة مقاطعة المغاربة لبعض المنتجات المحلية، نكون أمام سابقة من نوعها، خاصة وأنها انطلقت من العالم الافتراضي إلى الواقع، وامتدت لأيام وشملت معظم المدن والأقاليم، وانخرط فيها كثير من المواطنين العاديين، بما في ذلك الفئات التي قيل إنها ستتضرر من الحملة، وانضم إليها فنانون ومثقفون وسياسيون وحقوقيون وغيرهم، وتفاعلت معها شخصيات قريبة من السلطة، وتميزت بحملات تحسيسية إعلامية قوية، سخرت فيها مختلف وسائل التوعية والتحسيس.

لكن، ما أعطى لهذه الحملة الشعبية زخما، هو الخروج المستفز لوزير حكومي، واصفا المقاطعين بـ”المداويخ”، وتابعه في ذلك مدير إنتاج في شركة، اعتبر مقاطعة منتوج محلي “خيانة للوطن”، والظهور المنحاز لوزير بالمعرض الدولي للفلاحة للترويج لمنتوج شركة معينة..

وقد أثارت هذه التصريحات والمواقف المستفزة عاصفة من الانتقادات، ودفعت شخصيات عامة إلى الانضمام  للمقاطعة، تضامنا ومساندة للحملة، التي هي في الأساس ذات طابع اجتماعي واقتصادي، ولكن لأن الذين أزعجتهم هم مسؤولون سياسيون وحكوميون، حاولوا أن يعطوها صبغة سياسية، ويتهموا جهة سياسية معينة بالوقوف وراء تحريكها، وبأنها حملة غير بريئة، حتى يعطوا انطباعا للرأي العام بأنها مجرد تصفية لحسابات سياسية، لمنع اتساع رقعتها واستمرارها.

ولكي تحافظ المقاطعة على طابعها المدني والاجتماعي، وتبقى بعيدة عن الصراع السياسي، فإنه لا ينبغي السقوط في الترويج لمنتوجات ومواد أخرى منافسة، كما تم تداوله في الصور والأشرطة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وتجنب الإساءة والتشهير بالشركات المقاطَعة وبأصحابها، كما فعل بعض المشاركين في الحملة إما عن قصد أو عن غير قصد، وذلك لأن الهدف من المقاطعة ليس هو الإضرار بشركات معينة وإلحاق الخسائر بها، وإنما الغاية هي بعث رسالة إلى أصحاب الشركات الكبرى المهيمنة على السوق الوطنية، بأن أغلب المغاربة أصبحوا غير قادرين على مسايرة الزيادات المتصاعدة في المواد والمنتجات الاستهلاكية الأساسية، والاستهداف المستمر لقدراتهم الشرائية