الإحاطة الدقيقة بواقع التأثير المسيحي على صلب القرار السياسي الأمريكي الراهن أصبح أمرا مسلما به، بعد سلسلة من التوجهات التي قدرت حدود التحولات الجيوسياسية تجاه الأنظمة ذات الهوية الإسلامية، المرتبطة أساسا بأجندات ثيولوجية أو تاريخية دينية.

الأحداث الأخرى المتدحرجة في القارة العجوز أوربا، المتعلقة بالاسلاموفوبيا، خصوصا منها الارتداء المتزايد للحجاب كتعبير هوياتي، وتفكير النخب الأوربية في تكسير حاجز الخطاب الديني الإسلامي، من جانب اختراق نصوصه المقدسة ( لائحة توقيع نخب فرنسة على دعوة المسلمين لحذف نصوص تدعو للجهاد) نموذجا، سرعت من إضفاء الشرعية للنظرية التاريخية التي ظل المحافظون يكررونها في تأسيساتهم للكراهية الغربية، وللاحتقار المتصاعد تجاه المسلمين.

   مشكلة عودة الدين في العقد الأخير إلى واجهة النقاش الأكاديمي والسياسي، جاء كرد فعل مباشر عن تنامي الشعور بالخذلان التي بدأ يذب في جسد الداعين لاعتناق العقلانية الغربية وعلمانيتها، والانخراط في النظام الثقافي الذي يواكب يوطوبيا النهضة كما أطلقها مدوية رابليه ومارسيل فيشان وجيوردانو برينو وشارل مونتسكيو وفولتير وكانط وفيورباخ وهيجل وآدم سميث … وغيرهم

    وهو شعور يطرح أسئلة حول الصراع العربي الإسرائيلي، بحدوث فجوة الانتقال الحاسم للدولة اليهودية، وانكماش الفعل العربي والإسلامي تجاه القضية التاريخية الفلسطينية.

    ما الذي جعل الأصولية المسيحية تتماهى عبر التوسيع المتدرج لاستيعاب التأثيرات المتزايدة لمظاهر الإحياء الديني المسيحي، عن طريق جمع التبرعات وتكثيف الحملات التبشيرية عبر العالم، والتدخل في مصير الملايين من فقراء البشرية ، مستخدمة وسائل الإعلام على نطاق واسع، واعدة تابعيها بالعون الإلهي في الرفاه الدنيوي والصحة والفوز الجزيل، كما يقول سيزار ميرليني.

   إن ثمة جدلا كبيرا حول حقيقة دخول العالم مرحلة ما بعد العلمانية! ؟

هل فعلا أخطأنا الطريق لفهم العلمانية الغربية؟ تماما كما أخطأنا تقدير مسلكيات الفردانية أو الشخصانية كنظرية فلسفية قائمة الذات؟

   هناك تعليل براغماتي ما انفك يدير بؤر الخلاف بين المفهومين، العلمانية كسلوك اجتماعي نفسي، ينبني بالأساس على الحرية والعقل وعدم الإكراه الديني، وبين العلمانية كفكر وكاختيار عقلاني.

    وهو التعليل الذي يفند قطعا نظرية التسلط الديني القائم على ما يسميه فرح أنطوان بالاستسلام والتسليم لقوة متعالية وبطاعتها العمياء والابتعاد عن العصيان، تماما كما ترتدي العلمانية قفازات التخفي لتبصم بالحوامل التدليلية الجديدة، التي تحول درجة الارتقاء بالواجهة الدينية إلى عملية لتأسيس دمقرطة مؤازرة للحماس الارستوقراطي والحركات الإجتماعية والسياسية المتقابلة.

    يتساءل استاذ الأنثروبولوجيا بنيويورك طلال أسد : أين يدع كل هذا فكرة مجتمع القيم المشتركة؟ والذي يقال إنه مضمون بالحد الأدنى عبر العلمانية في المجتمع الديمقراطي المعاصر؟.

   الأمر باعتقادي ينحو إلى إعادة صياغة مفهومية دقيقة للدين، تأخذ بعين الاعتبار الأسس الثقافية والهوياتية وحتى النفسية التي تنمو في السلوك الإنساني، والتي تجعل من القيم نظاما تفكريا قائم الذات. نظام يحدد أولويات الفرد ويجعلها تسمو على الاختيار العقائدي الجمعي.

في المحصلة يبقى مركز استئثار العلمانية وما بعدها عصيا على الفهم والاستنتاج ، خصوصا بعد دخول عديد مصطلحات في العلوم المقارنة والثقافات السوسيولوحية تتحدث عن المدنية الدينية والدولة المدنية والدين المشترك وعلمنة القيم والأخلاق التدينية. . إلخ.

   الصراع حول الدين أضحى ” فكرة إصلاح للمعرفة، أو إصلاح فكر ، كما قال ادغار موران في إحدى حواراته. ولكن الأهم أن تتحدد أوجه هذه التحولات، في مرحلة تتمدد فيها متاهة الأخلاقية النكوصية للغرب، الذي يريد للفكر والعقلانية أن تكون في الحدود القاطعة التي تفصل بين الوجود كقوة مستبدة، وبين نسبية المشاعر كإيتيقا ومناكفات لا طائل من ورائها، سوى المزيد من إغراق البشرية، في مستنقعات الحروب وإطالة أمداء الصراعات الحضارية .