لم يعد ” التسول” أو طلب المساعدة بالمغرب، ظاهرة ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية فقط، وإنما أصبح يحمل أبعادا ثقافية، تتلخص في بئية سوسيو- ثقافية، تُنتج الفقر والعطالة والهشاشة والتشرد، وتقوم على تصورات دينية تربط بين أعمال البر والإحسان في الدنيا، والأجر والثواب في الآخرة، بغض النظر عن الفئات المستهدفة المستحقة لها، الأمر الذي دفع جزء من الطبقات الفقيرة والمعوزة إلى امتهان التسول، والاعتماد عليه كمصدر للدخل، دون التفكير في البحث عن عمل يحتاج بذل الجهد من أجل الكسب، خاصة وأن هذه “المهنة” أصبحت تدرّ على أصحابها أموالا طائلة، ما شجع كثير من الفقراء على احتراف طلب الإحسان، ليس فقط من أجل سدّ الحاجة والفقر، وإنما للحصول على مداخيل مادية مهمة، ولذلك لم تعد الفئات العمرية الكبيرة أو العاجزة عن العمل، هي التي تمتهن التسول، بل حتى الفئات الشابة والنشيطة، القادرة على الشغل.

وهكذا، عرفت ظاهرة التسول ارتفاعا ملفتا في السنوات الأخيرة كيفا وكمّا، بحيث زادت أعداد “الطلاّب” أو “السعايا” كما يوصفون بالعامية، وتطورت طرق وأساليب استجداء “المحسنين”، بعد أن ولجت لهذا المجال فئات عمرية شابة ومتعلمة، وأصبحت هناك طرق مبتكرة تعتمد على التحايل والنصب والخداع، من أجل إيهام الناس أن المعنيين بالأمر محتاجين للمساعدة، والحقيقة التي كشفت عنها الحملات التي تقوم بها السلطات المختصة من حين لآخر، أو عند وفاة المعنيين بالأمر، أن كثير منهم يمتلكون أموالا مهمة وعقارات…

تزايد أعداد “المتسولين” في كل مكان، في الشوارع والطرقات، وداخل الحافلات وأمام أبواب المساجد، وهو ما أصبح يقدم صورة سيئة عن البلاد، والدولة والمجتمع مسؤولان عن هذه الظاهرة الاجتماعية، فمن جهة المجتمع، لا زال هناك تصور خاطئ لمفهوم الإحسان، بحيث لا يعرف أكثر المغاربة الفقراء الذين يستحقونه، مع العلم أن الإسلام، عيّن الفئات التي تُصرف لها الزكاة والصدقة، لكنه في نفس الوقت شجع على العمل والكسب المشروع، وناهض التكاسل والتواكل وطلب الصدقات.

وبناء على هذا التصور الخاطئ، أصبح كثير من المحسنين، يتصدقون بأموالهم على فئات اجتماعية، هي ليست في حاجة إلى الإحسان، وإنما هي في حاجة إلى العمل أو الشغل، الذي يحفظ كرامتها، ويجعلها نشيطة ومنتجة ومساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وكما يقول المثل الشهير: “علمني الصيد ولا تعطني سمكا”، أي أن أغلب الذين يحترفون طلب الإحسان، يحتاجون للتشغيل والإدماج في دورة الإنتاج، وهذا هو الدور المنوط بالدولة والمقاولات الخاصة، بحيث لو كانت سوق الشغل توفر فرصا حقيقية للعمل، خاصة بالنسبة للفئات الشابة والنشيطة، وتحقق لطالبي العمل، الدخل الذي يكفيهم للعيش الكريم، ما رضي كثير من طالبي الإحسان، الدخول إلى هذا الميدان الذي تهدر فيه كرامة الإنسان، ومع ذلك، هذا لا ينفي أن بعض “المتسولين”، لديهم القدرة على العمل، ومتعلمين وأصحاب شواهد، واختاروا طواعية احتراف التسول، لعدم رغبتهم في بذل مجهود بدني، مقابل دخل ضعيف، لا يمكن مقارنته مع ما يحصل عليه يوميا من استجداء الناس.

وللحد من هذه الظاهرة، ينبغي أن تتظافر جهود الجميع، من أجل مناهضة ثقافة التسول، والإحسان غير المؤسس، الذي يشجع على العطالة والكسل، ودور الدولة مهم جدا في هذا الباب، لأنها لديها إمكانيات ووسائل مختلفة لمحاربتها، داخل المؤسسات المدرسية والإعلام، بنشر ثقافة الجدّ والعمل وبذل الجهد، من أجل الكسب المشروع، وأن تنأى بنفسها عن لعب دور الجمعيات الخيرية، التي تقدم المساعدات العينية للفقراء والمحتاجين، وخاصة في شهر رمضان، الذي يتزايد فيه الإحسان العمومي بشكل كبير، ويتم الترويج له عبر وسائل الإعلام الرسمية، في الوقت الذي كان يفترض أن تكون المساعدات مالية، عن طريق جمعيات المجتمع المدني، وتحت إشراف مؤسسات رسمية، لكن بعيدا عن التسويق الإعلامي، لأن تلك المساعدات ليست منحا ولا هبات، وإنما هي حقوق للفقراء على الأغنياء، في إطار التوزيع العادل للثروات.