
لُوركَا وملامستُه للمأسَاة الإنسَانيّة للوُجود

أوائل شهر يونيوالفارط 2018 حلّت الذكرى العشرون بعد المئة لميلاد الشاعرالإسباني الغرناطي الذائع الصّيت فيديريكو غارسّيا لوركا ،ولقد احتفلت الأوساط الأدبية والثقافية فى إسبانيا على وجه الخصوص بهذه الذكرى التي تصادفت مع المعرض الإسباني للكتاب الذي يُنظّم بمدريد فى هذا التاريخ من كلّ عام، والذي وصل عدد زوّاره قرابة الثلاثة ملايين زائر،ونافت عدد مبيعاته من الكتب على المليون نسخة ، وأصبح هذا المعرض يشكّل فى إسبانيا ظاهرة غريبة أصبح يُطلق عليها ب ” سياحة الكتاب” بامتياز.
آراء أخرى
أيقونة الإبداع الشّعري فى كلّ العُصُور
ومن أبز التظاهرات الثقافية التي شهدها هذا المعرض الإحتفال بذكرى 120لميلاد لوركا ، بعد جعل( سنة 2018 عامَ لوكا) فضلاً عن تقديم كتاب جديد حوله للباحث البريطاني (المتخصّص فى الإبداع اللوركي) إيّان جيبسون الذي يحمل عنوان : “إغتيال غارسيا لوركا” وهو ذات الكتاب الذي كان قد نشرجزءاً منه أواخر السبعينيات من القرن الفارط فى فرنسا ، ثمّ أعيد نشره فى إسبانيا عام 2005 ،إلاّ أنه قرّر إعادة إصداره من جديد فى طبعة جديدة موسّعة ، مزيدة، ومنقحة، ومضافاً إليها العديد من العناصرالمستجدّة، والحقائق، والمعلومات التي تمّ الكشف عنها فى السنوات الأخيرة عن عملية إغتيال لوركا. ولقد إنطلق هذا الإحتفال بغنائيات من أشعارغارسيا لوركا قدّمها المطرب الإسباني ” ميغيل بوفيدا” خاصة قصيدته ( صيحة نحو روما) ، وقال جيبسون أنه يعتبر نفسه ممّن ما زالوا على قيد الحياة من هؤلاء الذين نذروا حياتهم للكتابة عن كوركا.
ويقول الناقد الإسباني ألفارو ماتياس : “إن غارسيا لوركا الذي نخلد ذكرى ميلاد العشرين بعد المئة قد قيل عنه وفيه الكثير، ومع ذلك إنه يدعونا باسمترار لمزيد من الدراسة، والتأمّل، وإعمال النظرفى شعره وإبداعاته”، ويعتبرإيّان جيبسون لوركا رمزاً للصّفح والتصالح فى هذا الوقت العصيب الذي تعيشه اسبانيا “، ويتضمّن كتاب جيبسون دراسات عميقة عن لوركا فى اسبانيا وخلال وجوده فى أمريكا، وهو يرى” أنّ أعداء الحرية سلبوه منّا دون أن نرى صورته وهو عجوز، فقد إغتالوه فى عمر الزهور (38 سنة)”، وبالإضافة إلى الموائد المُستديرة، والندوات، والتظاهرات الثقافية التي ستقام حول شعره على إمتداد هذه السنة سيتم ّ إعداد أشرطة وثائقية حوله ،إنه يقول لنا فى مسرحيته (منزل برناردا ألبا) : ” لموت ينبغي لنا أن ننظر إليه وجهاً لوجه”، ويقول الشاعر الكندي “ليوناردو كوهين: ” أنا لا أفهم كيف لم تقم إسبانيا كلها لتحفر بأيديها جميع حقول غرناطة لتبحث عن رفات الشاعر لوركا”، ويقول الكاتب ماتياس: “إن لوركا يقف عاماً بعد عام شامخاً أمامنا ، وقد غدا رمزاً للإبداع سواء لدى الشعراء التقليديين أو الشباب ،وأصبح أيقونة الإبداع الشعري فى كلّ العصور، ولذا نجد أشعاره اليوم تنتشر فى وسائل الإتصال الإجتماعي على أوسع نطاق لملامسته للمأسَاة الإنسَانيّة للوُجود “.
وتتأهّب مدينة غرناطة مسقط رأس شاعرها لوركا فى ( فوينتي باكيروس) هي الأخرى للإحتفال بالذكرى المئوية بعد العشرين لميلاده، وجعل السنة الجارية عاماً لوركيّاً بامتياز، وذلك لتصادف هذه الإحتفالات بوصول خلال الشهر الجاري يونيو (حزيران) إلى غرناطة جميع محفوظات، ومخلفات لوركا من مخطوطات ،ورسومات، ورسائل، وصور شخصية،وأعمال نثرية،ومسرحية، وفنية،وأثاثه الخاص،وأدواته الموسيقية،ووثائقه التي ظلت فى مقر إقامته ببيت الطلبة بمدريد منذ إغتياله ،ومن المقرّر أن تودع هذه المخلفات فى ” مركز لوركا”.
وأعلن عمدة غرناطة فرانسيسكو كوينكا خلال ندوة صحافية أن وثائق لوركا التي تقدّر بالآلاف وثيقة أصبحت تراثاً وطنياً إسبانياً،وأن التظاهرات الإحتفالية التي ستقام إحتفاءً به تدخل فى نطاق تسديد دَيْن هذه المدينة المعنوي معه، وردّ الإعتبار له، وأنّ تخصيص سنة 2018 عاماً لتكريمه سيكون على غرار التكريم الذي أقيم لبيكاسُو بمالقة، هذا فضلاً عن تنظيم العديد من التظاهرات الثقافية، والأدبية، والشعرية ،والنقدية،والفنية خلاله.
رسائل لوركا لعائلته من نيويورك وكوبا
من بين وثائق الشّاعرالتي ستودع هذه الأيام فى ” مركز لوركا” بغرناطة كتاب عن حياته خلال وجوده في نيويورك وكوبا في الثلاثينيات (1929ـ1930) ، ويضمّ الكتاب 14 رسالة ، فضلاً عن فصول حول “شاعر في نيويورك” و”سلم الهواء” و”المسرح”و”السود” كلها تلقي الضوء على جانب مهمّ من حياته واهتماماته خلال هذه الفترة .ويقف القارئ على المفاجأة الكبرى في هذه الرسائل وهي عدم رغبة الشاعر في نشرها لأنه يعتبرها حميمية ونقرأ رغبته في هذا الصدد في الرسالة السادسة من المجموعة حيث جاء فيها:
“رسائلي ينبغي أن تقرأوها أنتم وحدكم، ولا يجب أن تقع في أيدي الغرباء ،بمعنى هي مقصورة على العائلة فقط ،إنها رسائل حميمية،هي لكم وليس لأحد، كما أنه ليس لها أيّ قيمة أدبية، بل لها قيمة عائلية، وان قيامكم بغير ما أوصيتكم به سيكون تصرفاً مُسفّاً من طرفكم “. ويشيرالناقد خوسّيه غارسيا نييتو الذي علق على هذه الرسائل بقوله :”كنا سنُحرَم من هذا المصدر الرفيع المتعلق بالشاعر في حالة استجابة عائلة لوركا لوصيته والعمل بها وتطبيقها، ذلك أنّ الفقرات الواردة في هذه الرسائل هي من البساطة ولا تنطوي على أيّ مشاغل أدبية ذات أهمية قصوى، إلاّ أنها تحمل معلومات لها قيمة رائعة تسهم في فهم حياة الشاعر ودراسة معنوياته في تلك الفترة، وما كان يعتمل في ذاته من مشاعر، ويساوره من قلق وارهاصات ابداعية كبرى خاصّة في مدينة مثل نيويورك”.وبالنسبة لكثير من الكتّاب والنقاد فإنّ أجمل ما في هذه الرسائل ـ بغض النظر عن قيمتها ـ هي كونها تتعلق بقمّةٍ من قمم الشعر الاسباني في القرن العشرين.
إن التساؤلات ما زالت تطرح حول الدواعي التي دفعت بالشاعر إلى القيام بهذه الرحلة إلى نيويورك ،ويجيب “كريستوفر مور” في تقديم هذه الرسائل المخطوطة:”إنّ الأزمة العاطفية التي كان يجتازها الشاعر في ذلك الوقت حقيقة وليست من اختراع النقاد، ولا شكّ أنّ العمل الأدبي يتغذى بشكل واضح وغير قابل للتفسير من اجتهادات الشاعر والإندفاعات الحيوية للمبدع.وانّ تطلعاته في تلك الفترة كان يبترها سيف مأساوي عزاءً، ومرارةً، إنه يقول لأصدقائه في تلك الرسائل: إنه “يجتاز أقسى وأهمّ مرحلة من المراحل التي مرّت به في عمره” ،كان لوركا بالفعل في ذلك الوقت يمرّ بمرحلة مخاض إبداعي حول موضوعات تتعلق بعدّة مجالات ،انعكس ذلك في غير قليل من قصائده ، حيث تفتّحت قريحته عن أعمال عاطفية دفينة، وكذا عن اكتشاف عوالم جديدة لشعره، فضلاً عن عادات، وتقاليد، وأناس ،كلّ ذلك عمل بطبيعة الحال بشكل ايجابي على تغذية تجربة الشاعرواثرائها، والذي يفاجئنا في هذه الرسائل هو جانبها الانساني، ذلك أنّه يكتب فيها لأبويْه ولإخوته، ويقدّم فيها دروساً لأسلوب العذوبة والرقة كما يمكن أن نلمس حماسه نحو هؤلاء الذين يحبّهم والذين يخشون عليه هم بدورهم مغبّة مغامراته، ويتوصّلون منه بأخبار مُشجعة وسارّة بلهفة متزايدة.
حنينه إلى المنزلِ الأوّلِ
كانت حقبة وجود الشاعر في نيويورك فترة ذهبية في حياته ،كان لوركا يصف العالم الجديد بأنه عذب و مريح ،كما يصف أصدقاءه الجدد و نجاحاته الأولى فيقول:”هذه الأيام أجدني منسجماً مع وسط نيويورك وهو وسَط مبتهج ويوحي بالترحاب” .كانت حياة لوركا في جامعة كولومبيا في نيويورك تسحره وتشتشفه ،وعنها يقول في احدى رسائله :”أنا الآن محاط بالعديد من الأصدقاء ،بأناس يهتمّون بي، والذين حاولت قدر استطاعتي أن أكون لطيفاً مع معهم، ولست في حاجة إلى القول أنّ رضاهم يحيك هالة حولي”.
كان لوركا يشعر بحنين مفرط إلى بلده اسبانيا ، وبشكل أكثر إلحاحاً إلى مسقط رأسه فى “الأندلس” التي يحملها دائماً معه حيثما كان، يدفع به ذلك إلى إجراء مقارنات شعرية رائعة في هذا القبيل”يالها من روعة تلك الأغاني ـ يقصد غناء السّود – والتي يقارنها بالغناء الاسباني الأصيل “.ولا تحيد ذكرى الأندلس عن ذاكرته: “تلك الأندلس ،أندلس البحر يالرقتها، يالروعتها،هنا يعرف المرء أهمية جمال اسبانيا”.
وفي هذه الرسائل نجد لوركا الشاعر المُعبّر، المتواصل، المُتحمس،كما نجد طريقة حياته المرنة، وعمقه وانشغاله الانساني الكبير.كلّ ذلك كان يمهد لإقلاع سفينة ابداعاته بظهورإحدى أعظم قصائده التي عرفها شعره فيما بعد، وبذلك تسلط الرسائل الضّوء على أعماله الأكثر أهمية وهي”شاعر فى نيويورك”.”إنّني بصدد كتابة ديوان شعر سيترك أعظم الآثار”
أن تكون شاعراً في أمريكا خير من أن تكون أميراً في أوربّا!
الرّسالة رقم 4 من هذه الرسائل كتبت من هافانا في 5أبريل (أيار)1930 ،وفيها يقول:”في حالة ضياعي لا تبحثوا عنّي سوى في الأندلس أو في كوبا” التي كانت إقامته بها طيبة ومريحة ،كما يصف لوركا في رسالته لقاءاته مع غيرقليل من الشخصيات المهمّة التي كانت موجودة في كوبا في ذلك الوقت مثل المشتغل بالدراسات الاسبانية خوسّيه ماريا شاكون “الذي يُعدّ من أبرز الشخصيات التي كان لها تأثير على لوركا وقد جمعته به صداقة متينة.
و هكذا يُفصح الشاعر عن بعض الجزئيات التي لا تلبث أن تصبح اتجاهاً مُميّزاً في شعره، كما ستغدو معالم واضحة في شخصيته:”لاتنسوا،أن يكون المرء شاعراً في أمريكا خير من أن يكون أميراً في أوربّا”.!
و الوجه الآخر لهذه الرسائل سيتضح لنا عندما سيلقى الشاعر محاضرة “شاعر في نيويورك” إذ بعد مرور سنين سيقول:”لايمكن لأحد أن يكوّن لنفسه فكرة عن العزلة التي يشعر بها الاسباني هناك،و هذه الغربة تزداد و تتضاعف حدّتها إذا كان الإنسان من الجنوب (من الأندلس )، ففي حالة وقوعك فإنك تُداس ،وفي حالة انزلاقك في الماء فإنهم يرمونك بالأوراق المُستعملة”، هل يناقض الشّاعر نفسَه أم تعيش في داخله شخصيتان متناقضتان لشخصية واحدة ؟.إنّ لوركا يعيش “دائما ما يعيش”و تتجلّى أحاسيسه العميقة في آلامه، ومعاناته، وازدواجيته.
لا شكّ أن هذه الوثائق والمراسلات تُعتبر من الأهميّة بمكان بالنسبة للشاعر ولعمله وابداعاته خاصّة وأنها تُنشر خلافاً لرغبته ، وهي تفصح بجلاء عن المراحل التي تدرّجَ فيها في تحصيل معارفه،وصقل مواهبه وتجاربه، في هذه الحقبة من حياته.
امتطاء “مركبة الشِّعر الخالص”
عندما ظهرت هذه المجموعة من وثائق ورسائل الشاعر لوركا اعتبرذلك حدثاً أدبياً كبيراً ، ولقد تمّ العثورعليها في منزل المحامي الغرناطي “فسنتي لوبيث غارسيا” الذي كان متزوّجاً من ابنة عمه “كارمن غارسيا لوركا”،وهي تتألف من 78 رسالة وُجِّهت من طرفه إلى أبويْه انطلاقاً من 1916 إلى بداية الثلاثينيات،وهي تلقي الضوء بشكل جليّ على ظروف مهمّة في حياة الشاعر إذ تتعلق بفترة المراهقة والشباب عنده.
يشير الناقد الاسباني “ميغيل بوسادا” أنّ مراسلات لوركا تُعدّ من أغنى المراسلات في الأدب الاسباني الحديث، إذ يحرّكه دوماً فيها همّه الدائم فى البحث عن الحقيقة بواسطة التعبير الأدبي.هذه الرسائل تسمو فوق بؤس الحياة اليومية لتحلق في الفضاء اللاّنهائي المفتوح للخلق والإبداع، و هذا ما يفسّر وجود العديد من الأشعار، والرسومات في بعضها، فضلاً عن إشارات الشاعر الدائمة إلى مغامراته الإبداعية، إنّ المتحدّث دائما فيها هو الشاعرالذي جعل من الشّعر مادة أساسية لحياته، لذا فإنه عندما يتوجّه بالكتابة إلى أقرب الناس إليه أو إلى الذين يحبّونه، فإنّ كتاباته على الرّغم من ذلك، لا تخلو من الإشارة إلى الشعر ومعاناته.
تؤكّد هذه الرسائل لنا ما كنّا نعرفه عن لوركا، ففيها يمكننا أن نتأمّله شاباً مراهقاً وهو يلامس المأساة الإنسانية للوجود، والذي ينشر ويشعر بالزّهو والفخار من مقالاته الأولى التي يدافع فيها عن توجّهاته الأدبية إزاء الاختيارات التي كان يريدها له والده ،كان لوركا يكافح ويصارع في مدريد من أجل امتطاء مركبة “الشاعر الخالص النقي” والذي كان يفعل كلّ ما في وسعه من أجل إيصال شعره ومسرحه إلى الجمهور.
تتضمّن بعض هذه الرّسائل انطباعات، وأوصافاً لما كانت تقع عليه عينا الشّاعر خلال سفريّاته المتعدّدة في مختلف المناطق والجهات الاسبانية وخارجها، وبواسطتها تمّت ولادة الشاعر بشكلٍ فعلي.
“يا أبتي لقد خُلقتُ شاعراً ولا يُمكن تغييري بعد الآن”
ونقدّم فيما يلي نموذجاً آخر من هذه الرسائل المخطوطة التي وجّهها لوركا إلى والده من مدريد،(وهي من ترجمتي عن الإسبانية بالإضافة إلى نصوص لوركا أعلاه):
دار إقامة الطلبة / مدريد ربيع 1920
والدي العزيز
لقد وصلتني رسالة منك ذات لهجة رصينة وجادّة، وبنفس اللهجة أجبتك الآن كذلك، إن بي شوقاً كبيراً إليكم، أنا أكثر منكم، لأنكم هناك مجتمعون، وأنا هنا بمفردي، ولكن عندما تفرض الظروف نفسها على المرء فلا مردّ لها، إنني لن أتحمّل مشقّة هذا الذهاب والإياب لأنّ ذلك يضرّ بي كثيراً، وينبغي لي أن أختار موقفاً قوياً للعمل، فهذه اللحظات مهمّة جدّاً بالنسبة لي، إنني أعرف جيّداً فيم تفكر (مع الأسف) إلاّ أنني أقول لك وأعدك بكل وقار- و أنا الذي أحبك كثيراً ، أنه عندما ينطلق رجل في طريقه فلا الذئاب ولا الكلاب بمقدورها أن تثنيه أو تحيده عنه، ولحسن الحظ أنّ لي سهماً يشبه سهم “دون كيشوت”، إنني في طريقي يا والدي، وأرجو أن لا تجعلني أرجع بنظري إلى الوراء، إنني أعرف أنكم تحبونني كثيراً، و أنتم لا تريدون لي سوى نفس العُملة إذ أنا أحبكم كذلك أكثر، أعلم أنكم تتمنّون أن أكون إلى جانبكم إلاّ أنّ ذلك أمراً تفرضه الظروف، ماذا سأفعل أنا الآن في غرناطة ؟ أن أستمع إلى الخزعبلات، والترهات، والأحقاد، والدناءات (هذا بطبيعة الحال لا يحدث سوى للرّجال الذين يتوفرون على موهبة)، و هذا أمر لا يهمّني في شيء لأنني أعلى من هذا كله، إلاّ أنه في آخر المطاف شيء مزعج، مزعج حقاً، إذ الحمقى لا تناقشهم في شيء، في مدريد هنا أناس محترمون، وأنا أخرج للتنزه وسوف أعلمكم بالخبر الكبيرعندما أخرج على الناس بأشياء جديدة، وهكذا حتى يصبح لي اسم أدبي كبير، النجاح السّريع في كل شيء على آخر الخط قد يكون مضرّاً بالنسبة للفنان، هذا شيء، و من جهة أخرى فأنا بصدد إعداد بعض كتبي، فأنا أمشي على أرجل من رصاص حتى أمخض كتاباً رائعاً، هنا أكتب، وأعمل وأقرأ، وأدرس، وهنا جوّ أدبيّ ممتاز، إنني أكاد لا أبرح المنزل إلاّ لماماً، والأصدقاء وهم كثيرون يأتون لزيارتي، إنني لا أغادر المنزل سوى للذهاب إلى «غريغوريو مارتين سيرّا» أو قسم تحرير جريدة “اسبانيا” مع جماعة من المثقفين المميّزين الشبان، إلاّ أنّ أهمّ شيء يمنعني من السّفر ليست كتبي بل لأنني أوجد في منزل للطلبة وهو ليس فندقاً، والإلتحاق بهذه الإقامة ليس أمراً هيّناً، بل يعود السبب إلى مميّزاتي وخصالي الشخصية وصداقاتي إذ أمكنني الالتحاق بها سريعاً، وظفرت بالمكان قبل عشرة كانوا ينتظرون قبلي، لأنني وصلت بيدين نقيتين، إنه شيء صعب أن أقول لهم في وسط العام الدراسي أنني سأغادر، لهذا السبب أرجو أكثر من أي شيء آخر أن تتركني هنا، إنني يا والدي العزيز رجل مُستقيم وجِدّي، هل أزعجتك يوماً ؟ ألم أكن مطيعاً لك باستمرار ؟ إنني أتصرّف هنا كما ينبغي لي التصرّف، أحسن ممّا كنت أتصرّف في منزلي، ذلك إنني هنا يجب أن أتّبع نظاماً جدياً، لقد سبّبتْ لي رسالتك الأخيرة إنزعاجاً وقلقاً ، أشعر بشوق كبير لرؤيتكم ، تقول لي إذا شئت أن أعود لفعلت ذلك، إلاّ أنني أؤكد لك أنك سوف تندم من ناحيتي، إنني أطيعك لأن ذلك واجبي، إلاّ أنك تكون بذلك قد سددت لي ضربة موتٍ قاضية، لأنك عندئذ سوف تملأني بالحزن، والكدر، والجزع، إنك سوف تسلبني الحماسة التي تغمرني الآن.
أرجوك والدي أن تتركني هنا حتى نهاية العام الدراسي وعندئذ سوف أعود إليكم صحبة كتبي منشورة، و بضمير مرتاح أكون قد كسّرتُ سيوفاً من جراء صراعي ضدّ المارقين دفاعاً و حماية وصوناً للفنّ الخالص، الفنّ الحقيقي.
إنه ليس بمقدوركم تغييري الآن فقد خُلقتُ شاعراً، وفناناً مثل الذي يُولد أعرج، أو أعمى، أو وسيماً، اتركوا جناحيَّ في مكانهما، و أنا أضمن لكم أنني سأطير جيّداً هكذا، هذه هي الحقيقة يا والدي فلا داعي لإلحاحك على عودتي، لأن ذلك يملأني بالمرارة والألم.
لقد أعطيتك تبريراتي، ولئن كنت ثقيلاً فقل لي ذلك فأنا أعرف عندئذٍ الإجابة كرجل، أنه إذا كان للرجل ذكاء وفطنة فلا يصعب عليه كسب النقود، إنني أفكر هكذا، وأعتقد أنه معي الحقّ، إن الحياة والعالم ينبغي أن يُنظر إليهما بعيون صافية ملأى بالتفاؤل، و أنا يا والدي متفائل وأشعر بسعادة غامرة.
أرجو أن تجيبني كما أجبتك أنا، ولآخر مرّة أتوسّل إليك من قلبي أن تقرأ جيّداً هذه الرسالة وأن تراجع معانيها جيّداً، فكّر أنني لست مجرّد “شيء” أو “بضاعة” هي ملك لك وعزيزة عليك.فكّر أنّ لي حياة خاصّة بي وأنّ الذهاب والإياب يضرّان بي، إنه ينبغي لنا أن نكون جَسُورين جريئين كما ينبغي لنا أن لا نرضى بالوسط أو القليل فهذا شيء ممقوت، لا تسأل عن مثل هذه الأمورأصدقاءك المحامين والأطباء والبياطرة،هؤلاء الرّجال القليلو الهمّة الثقلاء، بل أسأل والدتي والأطفال، أظنّ أنه معي الحقّ وأنت تعلم أنني أحبك من كلّ قلبي..ابنك فيدريكو”.
*عضو الأكاديمية الإسبانية – الأمريكية للآداب والعلوم – بوغوطا- كولومبيا .