في المجتمعات “الديمقراطية” التي تعمل بمنطق “المؤسسات” و”البرامج” بعيد عن منطق “الشخصنة”،نجد المسؤول السياسي يقوم بواجبه في مجال التدبير السياسي،قد يكون عمله إيجابيا في بعضه وسلبيا في بعضه الآخر،يحاسب على عمله،وينسحب فاسحا المجال لمسؤول آخر.لا أحد ينظر إلى درجة إيمانه بـ “عقيدته”.،هل هو أقرب إلى “أولياء الله” أم هو مجرد مواطن عادي له حياته الخاصة،يتم النظر فقط لعمله السياسي ومدى كفاءته السياسية في إنجاز عمله.ينسحب المسؤول السياسي بهدوء وتواضع،مؤمنا بالتناوب،ومسلما بانقضاء مدة صلاحيته،ولا يدعي أبداً أنه “مؤمن سام” يمثل مجتمع المؤمنين بالله،بل يعتبر نفسه مواطنا يمثل مجتمع المواطنين باختلاف عقائدهم ودرجات إيمانهم،ما دام هؤلاء يدفعون الضرائب التي يأخذ أجره منها،أي أنه لا يمثل من صوتوا عليه فحسب،وإنما كل المواطنين سواء صوتوا عليه أو لم يصوتوا.إذ لا يمكن أن نتصور مسؤولا في فرنسا أو بريطانيا أو أي بلد أوروبي رشح نفسه باعتباره “مسيحيا صالحا” يمثل المسيحيين في مجتمع متعدد العقائد،أو مسؤولا هنديا رشح نفسه باعتباره “هندوسيا جيدا” يمثل الهندوسية ويعمل على تسييدها،لا يمكن ذلك،لأنه سيحكم الهنود جميعهم هندوسيين ومسلمين ومسيحيين.في النظام العلماني ينظر إلى المسؤول السياسي باعتباره مسؤولا سياسيا وكفى،كفاءته وانجازاته وجديته هي معايير الحكم على عمله السياسي،هذه الخاصية التي يمتاز بها “النظام العلماني” مبنية على فصل إجرائي ونظري بين مجال “المقدس” والمجال السياسي،بين المطلق والنسبي،بين اللاهوت والناسوت،بين التقديس والمحاسبة.واقعيا يمكن للسياسي أن يؤمن بالعقيدة التي يريد،لكن لا يمكن له أن يترجم عقيدته وقيمه الأخلاقية المترتبة عنها،إلا في الميدان العملي،ففي مجال حرصه على تنفيذ برنامجه السياسي وجديته وإخلاصه في تحقيق ذلك،وطهارة يده أمام “المال العام”،تتبدى درجة إيمانه بعقيدته ودلالات القيم الأخلاقية التي يؤمن بها.  

     لكن في المجتمعات ما قبل الديمقراطية،التي تعاني من الاستبداد السياسي،ومن الخلط بين المقدس والسياسة،وعدم التمييز بين الحقول والمجالات المختلفة والمتعددة في المجتمع،تلك المجتمعات المتخلفة التي تسكنها ثقافة الاستبداد الجامعة المانعة،ويحكمها الحاكم المستبد بعقلية العارف في كل شيء والباسط سلطته على كل تفاصيل المجتمع وجزئياته.”ثقافة الاستبداد” المترسبة من أزمنة سحيقة،منذ أن كان الحاكم يتشبه بالإله،تحت تأثير هذه الثقافة ترى عامة الناس تمجد،دون وعي،مسؤولا سياسيا وتعظمه لمجرد تصريحه الشفوي أنه على “عقيدتهم”،وأنه يمثل “عقيدتهم” ضد “أعدائهم” العقائديين،وأنه جاء لا ليخلق فرص الشغل ويساهم في القضاء على البطالة،وليعبد الطرقات،ويطور الخدمات العامة،ويرفع من مستوى العيش لدى الفقراء،ويعمل على تحسين شروط الحياة لدى المواطنين….إلخ..بل جاء ليعيد “العقيدة” إلى صفائها الأول،ويزيد في أعداد “المؤمنين” بالله،ويحارب المهرطقين المتربصين بالدين وأعداءه الأبديين،هكذا يبدأ خطاب التضليل ومسلسله،حين يتخلى “الحاكم” عن مهامه السياسية،ويدخل في مجال الدعوة بالترهيب والقهر عبر جيش من “الفقهاء” المأجورين المسيطرين على المساجد،ولا ينتبه المواطنين غالبا إلى أن الأمر لا يتعلق بدعوة ربانية بقدر ما تعلق بصياغة دينية للمقدس تحوله إلى أداة قهر وإخضاع.بينما، في حقيقة الأمر،هذا العمل الدعوي الرباني يجب أن يكون عملا يدخل في صميم انشغالات جزء من “المجتمع المدني” يتمثل في فقهاء وعلماء دين عبر عملهم الدعوي الذي يجب أن يكون مؤطراً قانونيا بعيدا عن نشر ثقافة الكراهية والتكفير،وأن يكون هدفه هو الرفع من إنسانية الإنسان عبر ترسيخ القيم الأخلاقية الكبرى ذات الطابع الكوني،قيم المحبة والرحمة والتسامح والتواضع والاحترام…إلخ،بعيدا عن أية ممارسات عنيفة ذات طابع مادي أو رمزي،قد تؤدي إلى تمزيق النسيج الاجتماعي من خلال نشر الكراهية بين المواطنين.لكن في غياب ذلك وفي سيادة ثقافة الانتصار للحاكم “العقائدي” وسيادة ثقافة الانتصار للعاطفة الدينية والسعي نحو تسييدها بالقوة والعنف العقائدي،يموت العقل والتفكير وتموت حاسة النقد والانتقاد والمحاسبة،ويبدأ مسلسل التمجيد والتعظيم،حتى يصل درجة التقديس للحاكم حامل رسالة الله في الأرض..

     هذا هو المسلك الذي يخلق الطاغية المستبد،المتحكم في مصائر الناس في الدنيا والآخرة.يبدو هذا جليا عندما تسمع أحدهم في زمننا هذا،زمن المعرفة والعلم،يتحدث عن مسؤول سياسي ويقول إن “هذا المسؤول” يدافع عن بلده وعقيدته،وأن “وراءه مليار مسلم !!”،هذا يؤكد أننا أمام مسلسل صناعة الطاغية المستبد،وأن هذا المسؤول سوف يتحول من مواطن مسؤول سياسيا في إطار زمني محدد،عليه أن يرحل بعد أداء واجبه المتواضع،تاركا المجال لنخب سياسية جديدة من أبناء الشعب الدائم الخلاق،سيتحول بفعل مليار مسلم الذي وراءه إلى رسول حامل لرسالة “إلهية”.ولهذا نجد لدينا قادة/رؤساء دول وزعماء أحزاب ونقابات خالدين أبديين،حيث تؤذي ممارسات تعظيم الحاكم وتبجيله وتقديسه إلى الإيحاء بتوقف الشعب عن ولادة أمثاله وإنتاج نظراء له أو من هم أفضل منه،وهذا هو الفرق بين المجتمعات المنتجة للديمقراطية والمجتمعات المولدة للاستبداد.في المجتمع الديمقراطي يعد المسؤول السياسي مواطنا عاديا يتحمل مسؤولية سياسية سيحاسب عليها ويرحل،وفي المجتمع الاستبدادي يعتبر المسؤول السياسي زعيما خالدا حاملا لرسالة ربانية،خالدا على كرسيه “المقدس”.لسنا في حاجة إلى التذكير إلى أن “الديمقراطية” ثقافة قبل أن تكون نظاما سياسيا،و”الاستبداد” ثقافة أيضا قبل أن يكون “نظام حكم”.لكن شتان بين الثقافتين.وصدق من قال:” الطاغية يصنعه الناس”…